الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مكة المشَّرفة ومن بحماها
صانها الله وحَماها وزادها تشريفا وتكريما وتعظيما
.
لَّما اْمتطَيْتُ مطاياَ الهِممَ، ووجَّهتُ وَجْه عزْمى إلى قِبْلة الأمم، ورَعيْتُ بالأحْداق حدائقَ تلك المسارح، وقد سالَتْ بأعْناق المَطىّ الأباطِح، في وَفْدٍ ركب عزمُهم غاربَ المَسرَّة وامْتطَى، وهَتْهمُ النُّجبُ إلى أوْدِية بضلُّ فيها القَطَا، فقطعُوا مَهامِةَ وأطْلال، يخاف أن يَسْرِى بها طَيْفُ الخيال.
فكم لاحت جداول موارد النوق جسورها، وسارت بهم سفائن بر والسراب بحورها. فكأنَّها أشْجار، يحرّكها صَبا الأسْحارِ.
تَسْقيها من السُّرى غمائِمهُ، وتزهو على نَوْرِ الخدودش كمائمهُ.
والشَّمالُ تحْدُوهم بمِسْكىّ الأنْفاس، والسماءُ حديقةُ نرَجسَ بين رَيحْانٍ وآس.
حتى الْتَتقط كف الصَّباح زُهرِه، وقطَفتْ بَنَفْسجَ الظَّلمْاء راحةُ فجْره، ووَرَد سِرْحانهُ غديرَ الصَّباح ونادَى القُمْرى على منارِ الدَّوح: حي على الفلاح.
ولم أزل أدْابث في التَّسْيار، إلى أن نفضْتُ عن منِكب المشقَّة غُبارَ الأسْفار، فنزلتُ بجوار بيُت الله الحرام، وتطيبتُ بمِسْك تراب الحطيم والمقَام.
وقلتُ:
بمكَّة لى غَناء ليس يفْنَى
…
جِوارُ اللهِ والبيتِ المُعظمْ
ففيها كِيمياء سعادةٍ قد ظفرْت بها من الحَجر المُكرَّم.
فلما أفَضْتُ من تلك المناسِك بتلك البِقاع، طُفْتُ بها بل بالمسَرَّة طَوافَ الوَداع، وخرجتُ من أحبّ البلاد، والله لا يدعُو إلى دارهِ إلا مَن اسْتَخْلصَه من العباد.
وما دَرَى البيتُ أنى بعد فُرْقتِه
…
ما سِرْتُ من حَرم إلَاّ إلى حَرَمِ
قاصداً طَيْبةَ الطَّيبة المُطَيَّبَة، وارداً موارد آمالي المُسْتَعْذَبة.
وقد قيل في زُرقِ العيون شآمةٌ
…
وعنْدِيَ أن اليُمْنَ في عيْنها الزَرْقَا
فكلَّما سَرى في الصّبا نَسْرُ بطاحِها، وَدَدتُ لو أعارَتْني الُعابُ خفِافَ جناحِها، إلى أن لمَعت أنوارُ الهُدَى، من سماء العُلا وقبِاب الحمَى.
لِمَهْبط الوحْي حقَّا ترحلُ النُّجبُ
…
وعند هذا المُرَجَّى يْنتَهي الطَّلبُ
فنزلتً اعتِنقُ الأراكَ مُسلّما، وكِدْتُ إلمُ أخْفافَ الرّواحل، إذ أوْصلتْني إلى أعذبِ المناهل، ولم اقلْ على قلق الوَضين أشْرقي بدَم الوَتين.
فإذا المَطيِ بنا بَلغْنَ مُحَّمداً
…
فظهُورهنَّ على الرّجالِ حَرام
قرَّبْنَنَا من خيرِ مَن وَطِئ الثَّرىَ
…
فلَها علْيناَ حُرْمَةٌ وذِمامُ
فحلَلْتُ في أرفعِ مَقام، تُفاخِر فيه الرُّوس الأقْدام، ويشَهد نَشرُ المِسك بفضل غُبارِه، وتُقرُّ الجواهرُ بأنَّها دون حَصاه فضْلاً عن أحْجارِه.
وفاخَرتِ الشُّهبَ الحصىَ والجنادِلُ
فلذا صحَّ رَمْىُ الجمار، بحصْبائِها الصّغار، ولم يِصحَّ والدُّرَر، وما ذاك إلا لِشَرَفٍ خصَّة بها خالقُ القُوى والقُدَر.
فنزَّهْتُ عيونَ أملي في روضةٍ ذاتِ أنْوار، وعِلمتُ وهي من رياض الجَّنة أني لا أدخلُ بعدَها النَّار.
وأنا الآن منتِظرٌ لألطاف رَبّى، وهو في كلَّ الأمورِ حسْبى، أن يُعيدني لجوارِه، واجتْلاء نُورِ حَبيِبه ومخُتارِه، به إليه مُتوسّلا، وفي نَيْل رجائي مُتوكّلا لا مُتأكّلا.
وقد تأمَّلت دعوةَ أبي الأنبياء إبراهيم، وقولَه:) فاجْعَلْ أَفْئدِة مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إلَيْهمْ (إذ لم يقل: اجْعل الناسَ تهْوِى إليهم:؛ لأن المرادَ أنَّ الشوق يجذبُهم إليه، ويعُلق مشكاة قلوبهم بسلاسلِ أنوارِه، حتى يراهم بغيرِ اخْتيارٍ له مُتوجّهين، وهم تحمُّل المشاقّ بوَعْثاء السفر غيرُ متضجَّرين.
كأنما هو مِغناطيسُ أنفسِنا
…
فحيثما كان دارَتً نحوَهُ الصُّورُ
ولذا جعل الطائفُ البيتَ على يَسارِ؛ لأن القلبَ في جهِةِ اليَسار، وقد كان قبل الوُصولِ مائلاً إليه، فلما وصل دام على ما كان عليه.
كما قلتُ:
قل لَمن لامَ على سَعْيي له
…
قصَّرِ الَّلْومَ وإن شئْتَ لُمِ
مَن أتى قْلبي إليه ساعِياً
…
كيف لا يسْعَى إليه قدَمِي