الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قطْب الدين المكّيّ النَّهْروانِيّ أصلاً ومَحْتِدا
قطبُ مركزِ دائرة تلك الأقطار، والصدرُ المسْتوْدَع لما فيها من الأسرار.
وهو فاضل جرَى في بساتين فضْلِه جداولُ الآداب، وتمسَّك الشّعرُ منه بأعظم الأسباب.
فوقف دون مَداه ضِدُّه وحسُودُه، ومَن قَّيَده الكلاُ لا تنْفكُّ قُيودُه.
فذاك كمن جارىَ جواداً بِمُقْرفٍ
…
قوائمهُ مِشْكولةٌ بحرِانِ
فسماءُ مجدهِ مُطلعِة لكواكب شِعره، وزهرةُ عمرِه سُقيتْ بماء سروره وبتْره.
تنقطع عند كرَمِه الآمالُ وتعجز الأماني، ويقصُر سِلْكُ الألفاظ عن نظم ما فيه مِن دُرَر المعاني.
وتُقّبل أفواهُ الأقلام لَمَى مِدادِه، وبهيم سُوَيْداء كلّ لبيب في سوادِه.
وتنفتح عيونُ الأنوار لتُشاهد ساطعَ أنواره، وتترنَّم حمائمُ الحرَم بأسجاعه وأشعاره.
ويُهبُّ نسيم نجدٍ لشَغفِه برقَّتِه عليلا، ويجرُّ على ثَرَاه تيِهاً بمُضاهاتهِ له ذْيلاً بَليلا.
لتَغَذَّيه بلبان فصاحة بجْدٍ وذي سَلَم، واقْتناصِه أو ابِدَ المعارف بها فاعَجبْ لمن حلَّ له الصَّيدُ في الحَرَم.
وقد شحَذ مُرهَف طبعِه بَيِد الكمال، وسنَّ أسَلَةَ لسانهِ فانْجَلىَ بهِ فرِنْدُ سِحْره الحَلال.
حتى تفيأتْ فتْوَى تلك الأقطار ظلالَ براعتِه، وسالتْ مسَائلُ المسائِل في جِيادَ يراعتِه.
فكان قُطْبَ تلك الدائرة، وعليه مَدارُ فكل الفضلِ وبه الأمثالُ سائرة.
فمُعوَّل أمورِها عليه، ومُنصْرَفَ وجوهُ الإقبال إليه.
حتى أصبح عاطل حاله حاليا، ومرتفع حظّه عن وِهادِ الخمولِ عاليا.
فلا يردُ مكَّةَ أحدٌ من أهلِ العلم والصَّلاح، إلَاّ فَيَّأ ظلالَ الكرم والسَّاح، وهزَّ عِطْفتَ أملِه بنشْوةِ الارْتياح.
إلى أن تعدّى الأجل، من القُطْبِ دائرةَ الأمل، فدارتْ عليه رَحَى المَنُون، وطحنَتْ دقيقَ أفكارِه السّنون.
فدعاه الله لجوارِ الجِنان، وتلقَّاه جَدَثُه بَروْحِ رحمةٍ ورَيْحان، وطافتْ بُمثْواه وفودُ الغفران.
وقد نَعاه الفضلُ والكرم، وناحتْ لفِراقِه حمائمُ الحَرَم.
حمائمُ أبْلَت في الحنين لِباسَها
…
فلم يبْقَ منها غيرُ طَوْقٍ بجيدِها
فممَّا تَهادتْه الرُّكبانُ من شوارِدهِ، وعُلّق في كعبةِ الفصاحة من نتفِ وقصائده، قوله:
أقبل كالغصْنِ حين يهْتزّ
…
في حُللٍ دون لُطفِْها الخَزّ
مُهَفْهَفُ القَدّ ذو محَيّا
…
بعارِض الخدّ قد تطرّزْ
دارَ بخدَّيْه واوُ صُدْغٍ
…
والصَّادُ من لْحَظِه تلَوَّزْ
الخمرُ والجمرُ في لَماهُ
…
وخدُّه طاهرٌ ومُلْغِزْ
يشكو له الخَصْرُ جَوْرَ رِدْفٍ
…
أزعجه حملُه وأعْجَزْ
طلبتُ منه شِفاء سُقْمِي
…
فقال: لْحَظِي لذاك أعْوَزْ
قد غفر اللهُ ذنبَ دهرٍ
…
لمْثلِ هذا المليحِ أبْرَزْ
جزَّ فؤادي بسيفِ لْحظٍ
…
أوَّاهُ لو دام ذلك الَجْزّ
أفْديِه من اغْيدٍ مليحٍ
…
بالُحسْنِ في عَصْرِه تميَّزْ
كان نديمي فمُذْ رَآني
…
أسيرَهُ في الهوى تعزَّزْ
حرَّم مِن وَصْلِه مُباحاً
…
لّما أحلَّ القِلَى وجَوَّزْ
يا قلبُ لا تسْلُ عن هَواهُ
…
واثْبُتْ وكُنْ في الغرامِ مَرْكَزْ
وقالت في عَرُوضه:
مَن علَّم الغصنَ حين يهْتَز
…
مَيْلَ قُدودٍ تميلً في الْخَزّ
غِيدٌ رماحُ القدودِ منها
…
ليستْ بغير الفؤاد تُرْكَزْ
وإن يكنْ هَزُّها دَلالاً
…
ليس لغيرٍ الطّعان ذَا الْهَزّ
كم وعدتْ بالوِصل مُضْنّى
…
وُعودُه بالمِطال تُنْجَزْ
وما حَسودٌ إذا توارَى
…
تَراهُ من غيْظِه تمَيَّزْ
في ألِفَى القَومِ ليِنٌ
…
بعَطْفِة الصُّدغ منه تُهْمَزْ
خِطابُه يُطرِب الأمانِي
…
ولو بهُزْؤٍ علىَّ طَنَّزْ
وشَتْمُه كالمديح يُطْرِى
…
ومُسْهبُ القولِ منهُ مُوجَزْ
كم لحظةٍ منه لي بطَرْفٍ
…
فيها رِضاه على مُلْغِزْ
له مُحيَّا بديعُ حُسْنٍ
…
فيه جميعُ الجمالِ يُكْنَزْ
ولى به مَطَلبٌ مَصونٌ
…
بقُفْلِ صُدغ له مُرزَّزْ
لو لم يكنْ حبُّه بقلبي
…
ما كان بين الضُّلوع يُحْرَزْ
قضيبُ آسٍ على كَثيب
…
أزْعجه رِدفُه وأَعْجَزْ
كأنما خَصْرُه خَفاء
…
مْغني له ذا الجمالُ الْغَزْ
جلَّ الإلهُ البديعُ صُنْعاً
…
ومَن لهذا المليح أبْرَزْ
فاغنَمْ زمانَ السرورِ واطْرَبْ
…
ففُرصةُ العمرِ فيه تُنْهَزْ
وانظرْ بِساطَ الربيعِ يدعو
…
لصَفْوِ عيشٍ عليه قد عَزَ
مَهَّدهُ لاجْتماع شمْلٍ
…
مُنِبَّتٌ يُرْدهُ مُطرَّزْ
تُنْحَرُ فيه الزَقاقُ نحراً
…
طُبّق فيه مفاصِلُ الْخْزّ
والوُرْقُ في روضِه تنادى
…
من ذَلَّ في الحبّ فهْو قد عَزّ
كذاك قد ذلّ في الورى مَن
…
بغير ربٍ له تعَزَّزْ
كطالب الصُّوف من لئيمِ
…
وهو لُجرْبِ الكلابِ قد جَزّ
وكان من عَزَّ بَزَّ قِدْماً
…
واليومَ من برَّ فهْو قد عَزّ
وهذه حُلُّةٌ ترقَّتْ
…
عن نسيجِ يُردٍ يرِقُ أوْ قَزْ
لها على القُطبْ دائِراتٌ
…
أضحى لها في الحضيضِ مَرْكَزْ
وله في الوزير سنان لما فتح اليمن:
لك الحمدُ يا مولايَ في السّرّ والجهرِ
…
على عِزَّة الإسلام والفتح والنَّصرِ
كذا فليكُنْ فتحُ البلادِ إذا سَعتْ
…
له الهِمَمُ العَليْا غلى شرَفِ الذّكرِ
جنودٌ رَمت كَوْكَبانٍ خِيامَها
…
وآخرُها بالنّيل من شاطِئيْ مِصْرِ
تجرُّ من الأبْطالِ كلَّ غَضَنْفَرٍ
…
بصَارمِه يسْطو على مَفْرِق الدهرِ
عساكرُ سلطانِ الزمانِ مَليِكنا
…
خليفةِ هذا العصر في البَرَّ والبحرِ
حَمَى حَوْزَةَ الدّينش الحِنيفيّ بالقَنا
…
وبيضِ المواضِى والمُثقفَّة السُّمرِ
ومنها:
وحين أتاهُ أنْ قدِ اخْتلَّ جانِباً
…
من اليمن الأقْصى أصرَّ على القَهْرِ
وساق لها جيشاً خَميِساً عَرَمْرَماً
…
يَدُك فجاجَ الأرضِ السَّهْلِ والوَعْر
لدى أسدٍ شاكي السّلاحِ عرينُه
…
طِوالُ الرّماحِ السَّمْهَرية والُبتْر
وزيرٌ عظيمُ الشَانِ ثاقِبُ رأيه
…
يجُهز في آن جيوشاً من الفِكْرِ
ومنها:
سِنانٌ عزيزُ القدْرِ يوسف عصْرِه
…
ألمْ تَرَهُ في مصرَ أحكامُه تجرِي
ومنها:
وهل تطمع الأعْداءُ في مُلْكِ تُبَّعِ
…
وتأخذهُ من آلِ عثمانَ بالمكْرِ
أبَى اللهُ والإسلامُ والسيفُ
…
وسِرُّ أميرِ المؤمنين أبى بكْرِ
ومن مشهور شعره قوله:
الدَّنُّ لي والكأس والقَرْفَفُ
…
وللفقيه الكُتْبُ والمصحفُ
إن كان ما تُعجِبُه قِسْمتي
…
فلْيَقتسِمْها مثلَ ما يعرِفُ
كم يزْدرِي الكأس ويهْزُو بها
…
يُخشْىَ على هذا الفتى يُقْصَفُ
يسُبُّ شُرَابَ الطّلا عامِداً
…
أليس في الحُكام مَنْ يُنْصِفُ
فأتْرِع الكأسَ على غَيْظِه
…
وعاطِنيها أيُّها الأهْيَفُ
وقل هو القطبُ ببَحْرِ الهوى
…
قد عام والله به يلْطُفُ
وله أيضاً
أَحِبَّةَ قْلبي أنتمُ قد وردْتُمُ
…
مَعيِ مَنْهلَ اللَّذَّاتِ وهْو نَمِيرُ
وواللهِ ما استغْنَيْتُ عنكم بغيرِكمْ
…
وإني إليكمْ ما حِييتُ فقيرُ
وله أيضا:
أحسنُ من غَفْلةِ الرَّقيبِ
…
وْلحَظةِ الوعدِ من حبيبِ
وقُبْلةٍ كانت اخْتِلاساً
…
في وَجْنَتَيْ شادِنٍ رَبيبِ
كَتْبُ أديبٍ إلى مُحبٍ
…
طالتْ به مُدَّة المغِيبِ
تَتْرَكُ مَن سُطّرَت إليه
…
أهْيمَ مِن عاشقِ طَرُوبِ
وله أيضاً:
بَدَا عَرَقٌ في خذّه فسألتُه
…
إذا ما تَبدّى قال لي وهْو يَمزْحُ
ألا إنَّ ماءَ الوردِ خدّى إناؤهُ
…
وكلُّ إناءِ بالذي فيه ينْضَحُ
وهذا مثل أوردة المَيْداني في) أمْثاله (ولم يزد فيه على قوله: كلُّ إناء يرشَح
بما فيه ويُروَى: ينضح بما فيه، أي يتحَلَّب. انتهى.
وقد سبقه إلى هذا مُجير الدين بن تميم كما وقفتُ عليه في) ديوانه (بقوله:
سَقى الله رَوْضاً قد تبدَّى لناظرِي
…
بدرَشَاٌ كالغُصنِ يلْهُو ويْمَرحُ
وقد نضَحتْ خدَّاه من ماء وَرْدِه
…
وكلُّ إناء بالذي فيه ينُضَحُ
وعن الشيه نصر الله بن مُجَلّى أنه رأى في المنام سَّيدَنا أميرَ المؤمنين علياّ بن أبي طالب، كرم الله وجَهه، ورضى عنه فقال له: يا أميرَ المؤمنين، تفتحون مكَّة، وتقولون مَن دخل دارَ أبي سُفيان فهو آمن، وقد تمَّ على ولدك الحسين منهم ماتمَّ! فقال له: أما سمعتَ أبياتَ ابن الصَّيفىَ، يعني به الحيْصَ بيْصَ؟ فقلت: لا.
قال: اسْمَعْها منه.
فلما انْتهيت ذهبت إلى دارِه، وذكرتُ له ما رأيتُ في منامي.
فبكى وحلف أنه نظمها في هذه الليلة، ولم يقف عليها سواه، وهي هذه، وأنشدها له:
مَلكْناَ فكان العفوُ منا سجَّيةً
…
فلمَّا مَلكْتُمْ سال بالدَّم أبْطَحُ
وحلَّلتُمُ قَتْلَ الأسارىَ وطاَلَما
…
غدَوْنا على الأسْرَى بَمُنَّ ونصفحُ
وحسْبكمُ هذا التفاوتُ بيننا
…
وكلُّ إناءِ بالذي فيه ينْضَحُ
وقد سبقَهم إلى هذا أبو الفتح كُشاجَم، فقال:
ومُسْتهْجِنٍ مَدْحي له أن تكُوئِدَتْ
…
لنا عُقدة الإخْلاصِ والحرُّ يُمدَحُ
ويأْبَى الذي في القلبِ إلَاّ تَبَيُّناً
…
وكلُّ إناءِ بالذي فيه يْنضَحُ
وقلتُ في الهجاء:
فتى كان مِن قبل الشَّبابِ مُؤاجَراً
…
وقد لاطَ كهلاً وهْو تَيْسٌ سينَطْحُ
يبيعُ برأسِ المال في السوُّقِ ما اشْترَى
…
وكلُّ إناءِ بالذي فيه يرْشحُ
وهذا المثل لم أرَ مَن شرح مَورِدَه ومضربه، وهو يحْتمِل معنيَيْن: أحدهما، وهو الظاهر المُتبادر: أن كلَّ أحدٍ يلوح على ظاهره ما في باطنه، وإن أخفاه؛ كما قيل: مَن أسرَّ سَرِيرةً ردَّاهُ الله برِدائها.
والثاني: أن كلَّ أحدٍ يُجازَى مِن جنس عملِه، وهو الذي قصده الَحيْصَ بيَصْ.
وقد قلتُ في بعض الفصول:
كلُّ عداوةٍ تزول إلا عداوةَ الحسد، وكل زارع لِماَ زرعَ حصَد، وبَيْضةُ ابن دأْية النَّعَّاب، وإن جثا عليها طاوسُ عَدْنٍ لا تُفْرخُ إلَاّ الغراب، وإن كان عُشُّة في سِدْرَةِ المُنْتَهى، وقد غَذَّيْتَها من ثمارِ الَجنَّة ومُنْتهَا.
وفي صحيح الخبر:) النَّاسُ مَجزْيُّونَ بِأَعْمالِهمْ خَيراً فَخيْرٌ، وإن شرَّا فَشرّ (.
وقد قيل:
مَن قال خيراَ فلَه
…
ومَن يقلْ شَرَّا فشَرّ
وقال قَطَرِىُّ الخارجيّ مُتمُلَّا: قيل للعَقْرب: أنت محبوسة في الشتاء، أفلا تخرجين لمشارقِ الشمس بالغَدوات، كما تخرج الناس؟ فقالت: ما أحسنَ أيادىَّ عندهم في الصيف حتى آنس بهم في الشتاء.
ولله دَرُّ أبي القاسم الدَّبُوسي في قوله:
أقول بُنصْحِ يا ابنَ آدمَ لا تنَمْ
…
عن الخير ما دامتْ فإنًّك عادِم
وإنَّ الذي لم يصنعِ العُرْفَ في غِنًى
…
إذا ما عَلاه الفقرُ لا شكَّ نادمُ
فقدّم صَنيعاً عند يُسْرِك واغتنمْ
…
فأنتَ عليه عند عسرِك قادمُ