الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القلب قد شاه وفسد، فلا يرى الحقائق ويكذب بها، كما أن العين إذا شاهت وعشيت أصبحت لَا ترى النور المبصر، وإن عمَّ صاحبَها، وإن التكذيب بالمعجزات أكبر ما يكون عن فساد في الإدراك، إذ يكون لهم قلوب لَا يفقهون بها، ولهم أعين لَا يبصرون بها، ولهم آذان لَا يسمعون بها، وكان التكذيب جرما عظيما؛ لأنه تكذيب بآيات الله تعالى التي كانت للدلالة على الرسالة، والإذعان للحق، فلم يفعلوا، وكان الجزاء ما عبر عنه سبحانه بقوله تعالى:(أُوْلَئكَ أَصْحَاب الْجَحِيم).
أي أولئك الذين كان منهم الكفر والجحود ثم التكذيب للآيات، وقد جاءت معلمة واضحة بسبب ذلك كانوا الملازمين للجحيم، أي النار المتأججة الشديدة اللهب التي تشوي الأجسام والوجوه شيا، فمعنى أصحاب الجحيم: الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه الذي لَا يفترق عنه، وكلاهما جدير بصاحبه.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(11)
* * *
هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة، ليعتبروا بماضيهم، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم، ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس، وينزل بهم البأس، فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة، وقد قال تعالى:(. . . وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ. . .)، فالبسط هنا بسط للصولة والقوة، والسيطرة، ومعنى النص الكريم: يَا أيُّهَا الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة،
ومن بعد الذلة عزة، ومن بعد أن كنتم تُظلَمون، وتُرامون بالسوء، صرتم يطلب الإنصاف منكم.
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وئدبير الشر، فقال مكررا كلمة الأيدي (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة.
ولقد تكلم مفسرو الأثر وغيرهم في سبب نزول هذه الآية، وخصصوا، واللفظ عام، فقالوا: إن يد البطش والغدر كان قد هم بها ناس للاعتداء على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتداء عليه اعتداء على المسلمين، وكف الاعتداء عنه نعمة على كل المسلمين، وقالوا في ذلك روايات مختلفة تنتهي إلى خبرين:
أولهما: أنه روى من حديث جابر وغيره أن رجلا من بني محارب قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الراحة ومعه السيف، وقال للرسول من يمنعك؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" الله " فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" من يمنعك مني "، فقال الرجل: كن خير آخذ. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " تشهد أن لَا إله إلا الله، وأني رسول الله " قال: " أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع من يقاتلونك، فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس "(1).
ثانيهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، يطلبون منهم الإعانة على دية رجلين قتلا، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عقد مع بني النضير عهدا على ألا يحاربوه، وأن يعينوه على الديات، فلما طالبهم بحكم هذا العهد أظهروا القبول، وأخفوا الغدر، فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك، ونعطيك الذي سألتنا،
(1) رواه بهذا اللفظ أحمد باقي مسند المكثرين - باقي المسند السابق (14768)، ورواه البخاري: الجهاد والسير - من علق سيفه (2910)، ومسلم: الفضائل - توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له (843) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.
فجلس بجانب جدار لهم، وقال لهم حُيي بن أخطب: لَا ترونه أقرب منه الآن؛ اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، فهمّوا أن يطرحوا عليه صخرة، وقد أُعلم النبي صلى الله عليه وسلم بنية الغدر، إذ أعلمه جبريل، فانصرف قبل أن ينفذوا ما دبروا (1).
هاتان روايتان في أسباب النزول، ويكون القوم هم الذين دبروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرادى وجماعات، ويكون كف أيديهم نعمة عظيمة على أهل الإيمان.
والذي نراه هو تذكير المؤمنين بما هَمَّ به الأقوام من الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين الواقعتين، ومن قبلهما بتدبير قتله يوم الهجرة النبوية، ومن الاعتداء على المؤمنين في غزوة أحد، ومن تضافر العرب في الجزيرة العربية على الذهاب إلى المدينة قصبة الإسلام، واقتلاعها في غزوة الأحزاب، وقد كف الله سبحانه وتعالى في كل هذا تلك الأيدي المبسوطة بالشر، فلا تخصيص في النص، بل يترك على عمومه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بعد التذكير بهذه النعمة التي جعلت للمؤمنين كيانا مستقلا عزيزا كريما ينتصف من الظالمين، ولا يظلم أحدا أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى، وتقوى الله تعالى هي: الشعور بعظمته، والإحساس بجلاله، وامتلاء القلب به، واطمئنانه إليه، ورجاء ثوابه، وخشية عذابه، وعبادته كأنه يراه كما ورد في الأثر:" اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "(2).
هذه كلمات تقرب معنى تقوى الله تعالى، وهي تتضمن ذكر النعمة، وتتضمن شكرها، وهي في الشكر نص، ولا يكون الشكر من غير تذكر.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ) وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه،
(1) سبق تخريجه بهذا اللفظ.
(2)
سبق تخريجه.
ولا يتوكلوا على سواه، وقد صيغ الطلب في صيغة الخبر، للإشارة إلى أنه حال ملازمة للمؤمنين لَا ينفصلون عنها؛ لأن من تقوى القلوب ألا يعتمدوا إلا على علام الغيوب، فالتوكل على الله وحده في السراء والضراء، في الشدة وفي الضعف من لب عبادته سبحانه وتعالى.
والتوكل على الله ليس هو التواكل وترك العمل، بل هو الأخذ في الأسباب، ثم الاعتماد في الوصول إلى النتائج على الله تعالى وحده، فإن الأسباب لَا تنتج وحدها، ولكن لَا بد من فضل الله تعالى بالتوفيق، ولطف التقدير.
وفى الجملة الكريمة: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ) إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة، فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشيء الوجود ومسيره ومبدعه، وفيها لفظ (عَلَى) فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه، وعدم ذلته لمخلوق، ومنها تقديم الجار وما بعده، فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله، فلا يتوكل على غيره؛ لأن ذلك لَا يخلو من شرك؛ ولأن التوكل من العبادة، والعبادة لله وحده، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام، ولا تخلو من معنى السببية، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى.
هذا ونكرر أن التوكل على الله تعالى حق التوكل يوجب العمل (. . . رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
* * *
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
* * *
في الآيات السابقة بَيَّنَ سبحانه طيبات ما أحل الله تعالى، وهي تصور متعة الجسد التي تكون حلالا، سواء أكانت طعاما يؤكل أم كانت تتعلق بما يكون بين الرجل والمرأة، ثم بَيَّنَ طهارة الأجساد والقلوب، بالصلاة وما يتقدمها من وضوء وتيمم، وذلك لتكون متعة الجسد في دائرة الطهارة والسمو، فيتهذب الفرد وينمو، ويقوى، وبذلك يكون قوة في بناء المجتمع الإنساني الذي يبتدئ بمجتمع الأمة أو القوم من غير تعصب ظالم، ولا انحراف لغير غاية فاضلة، وبين سبحانه وتعالى أن العدالة هي نظام العلاقات الإنسانية، وهي التي تنسقها، وكل تنسيق لَا يبنى عليها هو مِعْول هدام، ينقض القائم، ويفسد الصالح، والعدالة الحقيقية لَا تفرف بين عدو مشنوء مبغض، وولي محبوب مقرب، وذكر المؤمنين من بعد ذلك بأوقات ضعفهم، حتى لَا يشتطوا في أوقات قوتهم، ومن بعد ذلك وثق الله سبحانه وتعالى هذه المبادئ الإنسانية العالية التي هي شريعة النبيين أجمعين، وإن يخالفوها ينقض بنيانهم، وتذهب وحدتهم أوزاعا؛ ولهذا ذكر أخذ الميثاق بها على بني إسرئيل وكيف نقضوه، فقال تعالى:
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) الميثاق: أصله من وثق، وهي تدل على معانٍ فيها الاطمئنان، فيقال: وثقت به، أي اطمأننت إليه، ومنها الشد، وربط شيئين، ومنه قوله تعالى:(. . . فَشدّوا الْوَثَاقَ. . .)، ومنها ربط الكلامين ربطا موثقا، ومنه هذه الكلمة السامية ميثاق
الله تعالى، وهي تتضمن معنى التشديد في العهد، لأنه مأخوذ مع الله سبحانه وتعالى، وأي عهد أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب؛ ويتضمن ميثاق الله تعالى معنى الاطمئنان، والثقة؛ لأن الاعتماد فيه على الله سبحانه وتعالى، وهو المعاذ الذي يعاذ به، ويلجأ إليه سبحانه وتعالى.
وميثاق الله تعالى الذي أخذه على بني إسرائيل هو التكليفات التي كلفهم إياها، من صلاة وزكاة، وطاعة للرسل في المنشط والمكره، والسلم والحرب، يروى في ذلك عن ابن إسحاق قال:" أُمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة وقال: إني كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا، فاخرج إليها وجاهد مَنْ فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول: إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي. . . ".
فالميثاق كما تدل الروايات يتضمن التكليفات كلها، وأخصها الجهاد، وموضوعه يبينه الله تعالى بالنص في قوله تعالى:(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ).
ومعنى قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا) أن الله سبحانه وتعالى اختار منهم اثني عشر رئيسا على حسب بطونهم، ليوقعوا الميثاق، أو ليتلقوا العهد، فالبعث أصل معناه: الإثارة ثم أطلق على الإثارة التي يتبعها فحص، ثم اختيار، والنقباء جمع نقيب، وأصل النقب: الخرق في الجدار ونحوه، ويقال: نفب عليهم صار نقيبا لهم، أي رئيسا مختارا بما يشبه الانتخاب الطبعي، أي أن رياسته بمقتضى التكوين الفطري فهو رئيس، وإن لم يعين بسلطان، ويقول ابن جرير في تفسير معنى النقيب:" النقيب في كلام العرب كالعريف على القوم غير أنه فوق العريف، يقال منه نقب على بني فلان فهو ينقب نقبا، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل قد نقب نقابة ".
وفسر بعض العلماء النقيب بمعنى الأمين، وإن هذا التزامي لتفسير النقيب على النحو السابق، لأنه لَا يكون له المنزلة السابقة إلا إذا كان أمينا له سابقات في
المكارم والمعارف والصدق والأمانة؛ إذ إن هذه الصفات هي أسس السيادة على الناس، والسيادة بغير ذلك تكون نوعا من العلو والجبروت، ولا تكون نقابة سامية.
ومؤدى القول أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق بالطاعة، والإذعان بما أمرهم به، وبأنه كان في سبط من أسباطهم الاثنى عشر نقيب له عليهم فضل النقابة والشرف يدعوهم إلى تنفيذ ميثاق الله تعالى، والقيام على عهده، وكان ذلك لأن بني إسرائيل توالت عليهم القرون، وهم في حكم فرعون وقهره، وقد استمر العذاب والهوان، وانحلت إرادتهم وعزائمهم، وأصبحوا لَا يؤمنون بفضيلة ولا عقيدة، فكان لَا بد من مذكِّر مستمر من بينهم، ومحرض دائم منهم، ومثل من بينهم تكون عيانا مستمسكة بالخلق والدين، حتى تتربى إرادتهم، وتقوى عزائمهم، ألم تر أنهم مع إنقاذ الله تعالى لهم على يد موسى عليه السلام، وفلق البحر لهم حتى صار كل فرق كالطود العظيم، ومع توالي البينات الشاهدة المثبتة للرسالة والوحدانية قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فالحس قد استولى عليهم، والمادية قد استغرقتهم؛ لذلك كان مع ميثاق الله تعالى الذي واثقهم به النقباء الذين كانوا فيهم مع الرسول موسى عليه السلام، وأخيه هارون الذي شد أزره في رسالته. وفي النص الكريم إشارتان بيانيتان:
إحداهما: أن الله تعالى نسب الميثاق إليه جل جلاله بلفظ الجلالة لزيادة توثيقه، ولعظيم توكيده، ثم التفت بنسبته بعث النقباء إليه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم العظيم؛ لبيان عظم مقام النقباء، فإسناد بعثهم إليه سبحانه هو الذي بينهم وهو الذي كونهم.
والإشارة الثانية يتضمنها قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) وهنا كان الالتفات إلى لفظ الحاضر مرة ثانية، وذكر معية الله تعالى تفيد أمرين، أولهما: أن الله تعالى يعلم حالهم من طاعة أو عصيان عِلْم المصاحب لهم، فإنه لَا يخفى عليه أمرهم، وإنه محاسبهم على تنفيذ العهد والميثاق، وإنه سبحانه وتعالى يجزي
بالحسنة الحسنى وبالسيئة السوءى والأمر الثاني أنه إذا كان جهاد، فالله تعالى معهم مؤيدهم بنصره، إن اعتزموا ونصروه.
وقوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) ذكر القول ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك فضل تأكيد بالمعية والمصاحبة، والمراقبة والمناصرة؛ لأن الله تعالى هو الذي أخبر بذلك عن نفسه.
(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) هذا بيان الميثاق الذي واثقهم الله تعالى به، وقد ذكره سبحانه وتعالى مؤكدا بالقسم فضل تأكيد، إذ إن التأكيد بالقسم تبعه لغة التأكيد باللام، والتأكيد بالنون التي تدخل هي واللام في الجواب، وهو هنا قوله تعالى:(ولأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) داخل في مقول القول في قول الله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) فيكون ذلك خير تأكيد للعهد بالنسبة لله تعالى، وهو جواب القسم، وعندي أن هذا النص استئناف بياني فيه بيان موضوع الميثاق، فهو عهد بين العبد وربه، كان الالتزام على بني إسرائيل، هو ما اشتمل عليه النص الكريم، وما وعد الله تعالى هو ما جاء في قوله سبحانه:(لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
والالتزام الذي أوجبه ميثاق الله تعالى عليه يتصل بتهذيب النفوس، والتعاون الاجتماعي، والجهاد والإيمان، وقد ذكره سبحانه وتعالى في خمسة أركان:
أولها: ما قاله سبحانه في صدر العهد: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) فالصلاة هي الركن الأول من الميثاق الرباني الإلهي، وابتدئ بذكرها، لأنها طهارة النفوس، وتزكية القلوب، وبها تربية الضمير الذي يكون جماعة مؤتلفة، وإقامتها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتربي في النفس روح الخير، والإحساس بعظمة الله تعالى، ولا يمكن أن يكون الوفاء بالميثاق الإلهي من غير إقامة الصلاة؛ فإنها ركن كل دين
وروح التدين الصحيح وقوامه، وعبر بإقامتها دون أدائها، فقد قال:(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ)؛ لأن الصلاة التي تأتي بثمراتها هي الصلاة الكاملة، التي يأتي بها صاحبها مقومة غير ملتوية يتجه فيها بالنية إلى الله تعالى، ويخلص فيها، لَا التي تكون رئاء الناس، أو تؤدى على وجه العادة، لَا على وجه العبادة.
الركن الثاني: من أركان ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل، وهو ميثاقه على خلقه عامة لَا على بني إسرائيل، هو إيتاء الزكاة، وإذا كانت الصلاة تربية القلوب وتهذيب الوجدان ليندمج المؤمن في جماعته، فالزكاة فريضة تعاونية لسد خلة الضعفاء، ولإيجاد تعاون بين الغني والفقير، فلا يكون الغني مملوء الجيب، والبطن، والفقير فارغ الجيب، أخمص البطن، فهي التعاون الكامل، وهذا يدل على أن الزكاة ليست في الإسلام فقط، بل هي في كل الأديان السماوية، وهي جزء منْ الميثاق الديني في كل الرسالات السماوية، فليس لأهل دين سماوي أن يفر منها باسم أنها ليست في دينه، وإذا كانت النظم تختلف أحيانا في بعض الشرائع عنها في الآخر، فالأصل ثابت وهو مشترك في الجميع، ولعل الصلاة أيضا قد تختلف أشكالها، ولكن لبها ثابت في الجميع، وليس لأهل دين أن يغير في أمر الله تعالى.
الركن الثالث: ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَآمَنتم بِرُسُلِي) والإيمان بالرسل معناه: الإذعان والتصديق، فمن ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل وغيرهم الإيمان برسل الله تعالى بتصديقهم، والإذعان لَا يدعون إليه فلا يقبلون لبعضهم البعض، ويرفضون الآخرين، فيؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض؛ لأن رسالة الله واحدة، ورسل الله تعالى جاءوا جميعا بشرع واحد في أصله، وإن اختلف في بعض فروعه، وقد أضاف سبحانه وتعالى الرسل إليه، فقال:(وَآمَنتُم بِرُسُلِي) لتأكيد معنى رسالة هؤلاء الرسل، وللإشارة إلى أن عدم الإذعان لهم، والتصديق بهم تمرد على الله تعالى، وتكذيب، فمن يطعهم فقد أطاع الله تعالى، ومن يعصهم فقد عصاه سبحانه، فإضافة الرسل إليه سبحانه وتعالى لتعظيم شأن رسالاتهم، وبيان آثار طاعتهم ومغبة عصيانهم.
وقد يقال: إن الإيمان بالرسل مقدم على طلب إقامة الصلاة، وطلب إيتاء الزكاة، فلماذا أخر في الذكر عنه؟ وإن الجواب عن ذلك: أن الميثاق مفروض أنه بعد الإذعان لرسالة موسى عليه السلام، فكان أخذه ثمرة من ثمرات تلك الرسالة، فهناك إيمان ضمني مقدر في ثنايا القول، وإن لم يكن مذكورا، وإن الإيمان بالرسل المذكور من بعد هو الإيمان بالرسل الذين يجيئون من بعد موسى، كعيسى ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم، حتى لَا يحسبوا أن الرسالة مقصورة على موسى، وأنهم لَا يؤمنون إلا بها، وأن يقولوا: أن غيرهم ليسوا على شيء فإن فعلوا يكونوا بذلك قد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله تعالى.
والركن الرابع من أركان ذلك الميثاق القدسي: عبر الله تعالى عنه بقوله تعالى: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي قويتموهم ونصرتموهم، فذلك فتح باب الجهاد الواجب لنصرة الرسل، ونصرة الحق دائما، فالتعزير هو النصر، ويطلق على العقاب المانع من الضرر، ويقول صاحب المفردات: إنها من باب واحد، فيقول في ذلك:
التعزير النصرة مع التعظيم قال تعالى: (. . . وَتُعَزِّرُوهُ. . .)، (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)، والتعزير ضرب دون الحد، وذلك يرجع للأول، فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة، لكن الأول نصرة بقمع ما يضره بالدفاع عنه، والثاني نصرة بقمعه عما يضره، فمن قمعته، فقد نصرته، وعلى هذا الوجه قال صلى الله عليه وسلم:" انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال قائل: أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " كفه عن الظلم " (1).
والخلاصة، أن التعزير في الآية النصرة مع التوقير والتعظيم، وعدم التهجم عليهم أو الاستهزاء بهم أو السخرية منهم.
(1) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: " تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ " رواه البخاري: الإكراه - يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه (6952)، وأحمد: مسند أنس (15538) كما رواه بلفظ: " تكفه عن الظلم " الترمذي: الفتن (2255) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
والركن الخامس: هو ما عبر عنه الله بقوله: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) والمراد من إقراض الله تعالى في هذا المقام هو الإنفاق في سبيل الله تعالى عندما تحتاج نصرة الحق إلى جهاد في سبيله، وإعطاء الضعفاء الذين هم عيال الله تعالى في هذه الأرض، فمن أعطاهم ابتغاء مرضاة الله تعالى فقد أعطى الله سبحانه وتعالى، ومن إقراض الله تعالى قرضا حسنا القيام بما طالب به من طاعات، بأداء ما عليه من واجب؛ لأن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاته سبحانه فكأنما أقرض الله قرضا حسنا، والله سبحانه سيضاعفه في الأداء له أضعافا كثيرة.
وهنا نجد إشارات بيانية تستوجب ذكرها إجمالا من غير تعرض لتفصيل:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى سمى القيام بالواجبات، والإنفاق في سبيله، وإعطاء المحتاجين - إقراضا له تعالى، وهو الغني، والناس هم الفقراء، وكانت تلك التسمية تحريضا على هذه الخيرات، وتشريفا لمقام القائم؛ وإعزازا لعمله، وكانت التسمية فوق ذلك تأكيدا للجزاء؛ لأن المقترض لَا غني في الوجود سواه، فهو وحده القادر على الجزاء، وأتى تأكيدا للجزاء على الحسنة بأقوى من هذا، وقد صرح سبحانه وتعالى بمضاعفة الأداء في آية أخرى، فقال سبحانه:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245).
الثانية: أن " قرضأ في قوله تعالى: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) المراد بها العطاء؛ أي الشيء الذي قدمه العبد، وإن كان في إعرابه يصح أن يكون مفعولا مطلقا، ونرى أنه مفعول به (1).
الثالثة: أن الله تعالى وصف القرض بأنه حسن، والحسن في كل شيء يناسبه، ففي الوجوه تَنَاسُبُهَا، وإشراقها، وفي الأشياء تناسقها وتآلفها، وفي الأعمال خلاصها من شوائب الرياء والنقاق، وهو في القرض الاتجاه به إلى الله
(1) ويكون مفعولا به على معنى (عطاءً) كما بين الإمام رحمه الله تعالى.
تعالى وطلب مرضاته، والشعور بالشكر له سبحانه، فهو المنعم وهو المعطي، وهو صاحب الفضل العميم.
وقد بَيَّنَ سبحانه بعد ذلك ما وعد به، فقال تعالت كلماته:
(لأكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) هذا جواب القسم الذي أقسم به رب العالمين، منشئ هذا الوجود، وهو يتضمن ما وعد الله به بني إسرائيل إذا قاموا بما يوجبه الميثاق عليهم، وهو يتضمن أمرين أحدهما: غفران ما ارتكبوا من سيئات، وثانيهما: جزاء ما فعلوا من خيرات، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الغفران بقوله:(لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) أي لأسترن ما قدموه من أعمال هي سيئة في ذاتها، وهي سيئة لهم، ولمجتمعهم، ومعنى تكفيرها سترها، فلا تفضح بالعذاب، إذ العذاب كشف لها، وإعلام بها، والغفران ستر وعطاء، وقد أكد سبحانه الغفران بلام القسم والنون المؤكدة توكيدا شديدا.
وعبر سبحانه وتعالى عن الجزاء بقوله: (وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ) وأكد العطاء بمثل ما أكد الغفران، وقد قدم سبحانه الغفران على الثواب؛ لأن الغفران تطهير، والتطهير مقدم على غيره، أو كما يقول العلماء:" التخلية مقدمة على التحلية ".
(فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي أنه من يجحد بآياته ونعمه وآلائه وبيناته بعد ذلك الميثاق الغليظ الذي أخذ عليهم، والوعد الأكيد الذي وعدهم الله به فقد بَعُدَ عن السبيل المستوية المُعَبَّدَةِ المسلوكة، وسار في متاهات الضلال التي لَا هداية بعدها، فمعنى سواء السبيل الطريق المستوية التي توصل، ومعنى ضلالها البعد، وهذا إنذار لله تعالى بعد الميثاق بأنه هو الطريق السوي، فمن حاد عنه، فقد ضل وغوى، وقد كانوا كذلك.
اللهم اهدنا، ووفقنا لاتباع سبيلك السوي، إنك الهادي والنصير.
* * *
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
* * *
أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل الميثاق أن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم إياها، وألزمهم بمقتضى هذا الميثاق أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقوموا بالخير الذي رغبهم فيه سبحانه بأن سماه إقراضا له، وهو المنعم بكل شيء الغني الحميد، ووعدهم سبحانه بأن من يقوم بحق الميثاق يستر سبحانه وتعالى سيئاته، ويدخله جنات النعيم الدائم الذي لَا يحول ولا يزول، وأوعدهم بأن من يكفر بالميثاق ينال جزاء الضالين، وأشار لهم بأن الميثاق هو الطريق المستقيم، وأن الخروج عن منهاجه هو الضلال المبين، ولكن ذكر بعد ذلك أنهم اختاروا الضلالة على الهدى ونقضوا الميثاق، وضلوا وبعدوا عن طريق الحق، فطردوا من نعمة الإيمان، واستولى الشيطان على قلوبهم؛ ولذا قال سبحانه:
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم، والتزاموا بأحكامه طردهم الله تعالى من رحمته، وذلك
لضلالهم عن طريق الهداية؛ لأن من ترك طريق الله الذي سنه، فقد ضل، وبهذا الضلال المبين طردوا من طريق الرحمة، وهو الطريق المستقيم الذي يوصل إلى جنات النعيم، فمعنى لعناهم: طردناهم، والطرد هنا هو السير في متاهات الضلال، وفي ذلك تشبيه لحال من يسلك سبيل الضلال بعد أن فُتِح له باب الهداية، وأرشد إلى الطريق المستقيم بحال من يكون في مكان آمن مستقر فيه، قد مكن له في الإقامة ومهد له، ثم طُرد منه مذءوما مدحورا مبغوضا مكروها.
وإنهم إذا ساروا في طريق الغواية، وتركوا منهاج الهداية تفسد مداركهم، فيطمس على عقولهم، وتجمد قلوبهم فلا تلين لحق، ولا يدخل إليها نور؛ ولذلك قال تعالى:(وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي جعلنا قلوبهم غليظة صلبة كالحجارة، منزوعة منها الرأفة والرحمة؛ وذلك لأنهم لما مردوا على العصيان والمخالفة صلبت قلوبهم، فأصبحت لَا تنفتح لإدراك حق، كما قال في شأن هؤلاء اليهود عندما أخذوا في طريق العصيان:(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74).
والقراءة المشهورة عند البصريين هي: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وهناك قراءة أخرى وهي مشهورة عند الكوفيين، وهي:(وجعلنا قلوبهم قَسِيَّة)(1) وقد خرجها بعض المفسرين على معنى القراءة السابقة، بيد أن فيها مبالغة؛ لأنها على وزن فعيلة فهي تدل على تمكن صفة القسوة فيهم، وذكر ابن جرير الطبري لهذه القراءة وجها آخر، وقال:" إنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها، ولكن يخالط إيمانها كفر، كالدراهم القسية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص " ثم قال رضي الله عنه: " وأولى التأويلين في ذلك بالصواب،
(1) قرأها بغير ألف: حمزة والكسائي، وجبلة عن المفضل عن عاصم. وقرأ الباقون بالألف. غاية الاختصار (800).
تأويل من تأول فعيلة من القسوة، كما قيل نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة، لأن الله تعالى جل شأنه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ولم يصفهم بأي شيء من الإيمان، حتى تكون قلوبهم موصوفة بإيمان يخالطه كفر، كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش " والحق عندي أن كلتا القراءتين قرآن، وما دامت متواترة فالجمع بينهما ضروري، والجمع بجعل إحداهما تأتي معنى ليس في الأولى يكون أولى وتكون كلتاهما متممة للأخرى، وبالجمع يكون المعنى: وجعلنا قلوبهم قاسية، لأنه اختلط فيها الزيف بأصل الإيمان، فعندهم إيمان بالله من غير إذعان لأحكامه، ولا تصديق لرسله، ولا قيام بالتكليفات، والزيف أكثر من الأصل، والنحاس أكثر من الفضة، فصلبت.
وإن قسوة القلب وفساده يترتبان على الانحراف عن الطريق السوي الذي عبر عنه بالطرد، لأن من ضل الطريق كلما سار في الضلال تاه عن وغاب عنه، ولأن القلب كلما أركس في الشر أربد وأظلم، وصارت غشاوة من الباطل تغطيه فلا يدرك، وتحجره فلا يلين.
وهنا بحث لفظي، وهو في قوله تعالى:(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) فإن الفاء هنا تسمى بفاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر تقديره: فإذا ضلوا ونقضوا الميثاق، فبسجب ذلك يُطردون من طريق الرحمة ومنهاج الاستقامة، و " ما " زيدت في الإعراب لتأكيد معنى السببية بين نقض الميثاق والضلال.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) أي يحيلون بالكلام عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله، والمعنى المقصود منه إلى طرف بعيد عن لبه، وعن معناه، فالحرف للشيء طرفه الذي يبعد عن قلبه وعن قطبه الذي يدور حوله، والتحريف كما جاء في عبارات المفسرين قسمان، قسم يغيرون به معاني الكتاب، فيتجهون بها إلى أمور ربما يحتملها الكلام، ولكن لَا يحتملها إلا على بعد من موضوعها، كبعد طرف الشيء عن قطبه، وقسم آخر يغير ذات الكلام بزيادة ألفاظ فيه تذهب بأصل المعنى، أو بحذف ألفاظ يذهب بالمقصد من القول، وقد كان من اليهود القسمان،
فهم غيروا معاني الكتاب الذي أنزل وأبعدوه عن معانيه التي قصدت من سَوْقِهِ، وأريدت من شرعه، وهم غيروا وبدلوا في عباراته حتى تذهب تكاليف الكتاب وتطمس معالم أحكامه، ومن ذلك مثلا أنه جاء في كتبهم تحريم الربا بمثل هذا الكلام (أخاك لَا تقرض بالربا) فزادوا كلمة الإسرائيلي:(أخاك الإسرائيلي لا تقرض بالربا) وبذلك تغير المعنى تغيرا جوهريا، والكلم: المراد بها الكلام، فهو اسم جمع يدل على الجمع بحذف التاء، كشجر وشجرة، وتمر وتمرة.
وجاء قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) ثمرة لقسوة القلوب والطرد بالضلال؛ وذلك لأنهم لما ضلوا وفسدت قلوبهم واختلط فيها الزيف بالجوهر حتى غلب الزيف، ماتت ضمائرهم، وصاروا كذابين يكذبون على الله تعالى، وعلى الناس، فيغيرون معاني التنزيل، ويزيدون فيه وينقصون على حسب هواهم وشهواتهم، وارتكبوا بهتانا عظيما.
ومع التحريف الذي قصدوه، وشوهوا به التوراة التي نزلت على رسولهم قال الله تعالى عنهم:(وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) والنسيان معناه الترك، أو الغفلة عنه. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه:" النسيان ترك الإنسان ما استودع إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره " وهذا يستفاد منه أن النسيان ترك عن غفلة أو ترك عن قصد، وقد يكون النسيان سببه أمر خارج عن إرادة الناس، كأن يخفى عدو قاهر ما عند الشخص فيتركه مكرها.
وقد كان عند اليهود - قبحهم الله - الأنواع الثلاثة، فهم قد أصابتهم الغفلة عن كتابهم بسبب فساد قلوبهم، وهم قد تركوا بعضه، وجعلوه مهجورا، لأنه لَا يتفق مع أهوائهم، وقد نزل بهم من الشدائد ما ضيع كتبهم، ولم يبق منها إلا القليل، كما فعل ذلك بختنصر معهم، حتى إذا عاد جمعهم لم يبق من كتبهم إلا متناثرا، لَا يكون مجموعا متناسقا.
وهنا لفظان نقف عند المعاني التي يشيران إليها: أولهما: معنى " حظ " فنقول: الحظ هو النصيب الكبير الذي يعد محظوظا من يأخذه، وهذا يدل على أن الجزء الذي نسي هو جوهر الدين ولبه، وحسبك أن تعلم أن التوراة التي بأيدينا ليس فيها ذكر لليوم الآخر، وما يكون فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم، وثاني اللفظين: هو " مما ذكروا به " فإن ذلك يشمل تعاليم موسى وتعاليم الأنبياء من قبله، وكل هذا نسوا الحظ الأكبر منه.
(وَلا تَزَالُ تَطَّلِع عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) الجماعات الإنسانية تتوارث عادات وأخلاقا، حتى تصير كأنها طبائع وجِبِلَّة، فالكلام في بني إسرائيل الذين سبقوا عصر النبوة، ولكن الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم يحملون الصفات التي كان أسلافهم عليها؛ ولذلك اعتبروا منهم أو مثلهم، فخاطب الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم يرى في الحاضرين صورة السابقين، ويرى فيهم طائفة منهم، وإن تباعدت الأزمان، وإذا تخالفت الشخوص لَا تتخالف الصفات؛ ولذلك قال تعالى:(ووَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ منْهُمْ) أي أن صفاتهم مستمرة وهم بذلك مستمرون، فلا تزال تطلع على طائفة خائنه منهم خيانة أسلافهم، فيهم قسوتهم، وفيهم ضلالهم، وفيهم انحرافهم. و (خَائِنَة): وصف لمحذوف تقديره بقية خائنة، أو طائفة خائنة، أو نفوس خائنة منهم، وفسر بعض المفسرين خائنة بمعنى خيانة، والمعنى على ذلك لَا تزال تطلع على خيانة، والمؤدى واحد؛ لأن الاطلاع على فرقة أو بقية خائنة اطلاع على الخيانة، والاطلاع على الخيانة اطلاع على قوم متصفين بها، وفي الكلام إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في ماضيهم قد خانوا الله تعالى، وخانوا أنفسهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ موثقا مؤكدا عليهم، فلا تعجب إذا كانوا قد خانوا العهد معك، ونقضوا الحلف الذي حالفوك عليه، على أن أمنك أمنهم، وأمنهم أمنك، وأن تكون العلاقة بينك وبينهم حسن الجوار، والمودة الحسنة.
ولما كان اليهود منهم أمة مقتصدة، وأن كثيرا منهم ساء ما يعملون، اسْتُثْنِيَ أهلُ الخير من أن يكونوا خائنين، كسائرهم، فقال:(إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) ولقد أجمع المفسرون على أن هذا القليل منهم: اليهود الذين دخلوا في الإسلام، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ويصح أن نعد منهم عددا قليلا محدودا من اليهود قد خالفوا سائرهم عندما كانوا يهمون بنكث العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء، وإن لم يسلموا يصح أن يستثنوا من الذين يخونون وينكثون العهد، ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يأخذ الناس بالعفو والصفح الجميل، ولذا قال تعالى:
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) العفو معناه في مثل هذه:
عدم مقابلة الإساءة بمثلها، والتجافي عنها، وترك المؤاخذة عليها، والصفح معناه: ترك المؤاخذة، وترك اللوم والتثريب، بل ترك العتاب عليها؛ ولذلك قالوا: إن الصفح أعلى رتبة من العفو، وقال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: وهو - أي الصفح - أبلغ من العفو؛ ولذلك قال تعالى: (. . . فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا. . .)، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن لَا يمكن أن يتحقق صفح من غير عفو، إذ العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا، وقد يكون في النفس شيء، أما الصفح فإنه يتناول السماحة النفسية، واعتبار الإيذاء كأن لم يكن، في المظهر والقلب.
والإحسان يطلق على الإتقان، ومن ذلك قوله تعالى:(. . . إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، ويطلق على الإنعام على الغير، ومن ذلك قول القائل:" أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم " والإحسان في هذه الآية يشمل المعنيين، والإحسان فوق العدل؛ لأن العدل مع غيرك إعطاؤه الحق الذي له، والإحسان إعطاؤه الحق وزيادة، ومعنى النص الكريم: إذا كانوا على هذه الصفة التي ذكرناها فلا تعاملهم بمثل أخلاقهم، بل عاملهم بأخلاق النبوة التي تدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فاعف عنهم ولا تؤاخذهم بذنوبهم، فلا تعاملهم بالمثل إلا دفاعا عن الحوزة وأصفح الصفح الجميل، ولا تجعل في قلبك غلا
ولا ضغنا، حتى يخلص قلبك من كل ما يعكره، لتصفو الدعوة، وإن الله تعالى يحب الذين يتقنون أعمالهم بسلوك سبيل الدعوة الصحيحة، وأخذ الناس بالرفق، ومعاملتهم بالتي هي أحسن، والإنعام عليهم بالعفو، وخلوص النفس من كل الشوائب بالصفح الجميل.
ولكن من هم الذين يستحقون ذلك العفو والصفح، أو بعبارة أخرى من الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم والصفح الجميل لهم. قال بعض المفسرين: هم العدد القليل الذين استثناهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ).
وإنا نرى أن ذلك، ولو أنه مستقيم مع سياق اللفظ هو غير مستقيم في سياق المعاني؛ لأن هؤلاء لم يسيئوا ولم يكونوا خائنين، حتى يكون للعفو والصفح موضع.
وقال بعض المفسرين: إن الذين أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم هم اليهود جميعا، ولكن نُسخ هذا بقوله تعالى:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ. . .)، وهؤلاء منهم، ولكن يرد عليه بأن النسخ لَا يصار إليه إلا إذا لم يمكن الجمع.
وقال آخرون: إن المراد اليهود ولا نسخ؛ لأن العفو والصفح كان بمساكنتهم وبقبول الجزية منهم مع معاشرتهم للمسلمين على أن يكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وفي ذلك النظر وجاهة.
والذي نراه أن الأمر بالعفو والصفح عام لليهود، لكي يؤدي النبي صلى الله عليه وسلم واجب الدعوة، وكذلك الشأن في كل داع إلى دعوة؛ لأنه إذا كانت النفس يشوبها الغضب والألم والإحن ويبدو ذلك في اللسان، فإنه لَا تستقيم الدعوة، ولا تقوم الحجة على من يدعوهم؛ لأن الله تعالى يقول:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. . .)، ويقول سبحانه:(ولا تجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بالَّتِي هِي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، ولا يمكن أن يكون ذلك قد