المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فيها، ولا شر يتحكم ولا مغالبة، بل اطمئنان وهدوء، وسرور - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: فيها، ولا شر يتحكم ولا مغالبة، بل اطمئنان وهدوء، وسرور

فيها، ولا شر يتحكم ولا مغالبة، بل اطمئنان وهدوء، وسرور مستمر، لمن ينالون جنتها ويبعدهم الله تعالى عن جحيمها، وهي مع ذلك أكلها دائم، ونعيم مقيم، ورضوان من الله أكبر، وإن أعمال الخير في الدنيا، والجهاد في سبيل الحق، هي السبيل لنيل ما في الآخرة من خير وجنات تجري من تحتها الأنهار، ومن عمل عملا صالحا نال جزاءه موفورا، ولذا قال سبحانه وتعالى:

(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفتيل: هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمر، وهو يضرب مثلا للقلة والتفاهة. والمعنى: إنه إذا كانت الآخرة خيرا من الدنيا وأبقى من متاعها، فإن طريق الآخرة هو الجهاد في سبيل الله، والقيام بطاعته، وإنكم ستنالون الجزاء الأوفى، ولا ينقص من أحد منكم أي قدر من جزائه، ولو كان قدرا ضئيلا لَا تأبهون له في دنياكم، فإذا كان حرصكم هو الذي جعلكم تخشون القتال، وترجئونه، فإنه يجب أن يكون حرصكم كبيرا على ما هو أغلى وأعظم، وما هو مؤكد لَا احتمال فيه، ولقد كان حرصهم وخوفهم من القتال؛ لأنهم يريدون الحياة ويخافون الموت، فبين لهم سبحانه أن الموت آت لا محالة، وأنه لاحق بهم أينما يكونوا:

* * *

ص: 1772

(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ

(78)

* * *

البروج جمع برج، وهو يطلق على الحصن المنيع، ويطلق على القصر العالي الذي لَا يصل إليه أحد، ويبنى للملوك والكبراء لكيلا تصل إليهم الرعايا. مشيدة: أحكم بناؤها، وارتفعت، أو بنيت بالشيد، وهو الملاط القوي الذي تربط به اللبنات بعضها ببعض. ولقد قال طرفة بن العبد:

كأنها برج رومي تكنَّفها

بانٍ بشيد وآجرّ وأحجار

ومعنى النص: إن كنتم تريدون بقعودكم عن الجهاد وطلب إرجائه أن ترجئوا الموت أو تطيلوا الحياة، فقد أخطأتم، فإنه حيثما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها، وأحكمها بناء.

ص: 1772

وفى التعبير بكلمة " يدرككم " إشارة إلى أن الموت كأنه يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان، وفي أي وقت كان، فهو طالب لَا بد أن يدرك ولا بد أن يصل؛ لأنه حفيقة محتومة فإن فررتم منه فإنه ملاقيكم، فلا تفروا منه واطلبوا الحق ولو أدى إليه، وما أحسن ما قاله زهير بن أبي سلمى:

ومن هاب أسباب المنايا ينلْنه

وإن يَرْقَ أسباب السماء بسلَّم

وإن هؤلاء الذين ضعفت نفوسهم قد يدفعهم اضطرابهم إلى أن تسيطر عليهم الأوهام، فمنهم من يقول كلاما يثير الظنون ويسكت عنه الباقون منهم فكأنهم قالوه، ولذا حكى - سبحانه - القول عن هذا الفريق فقال:

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي إن تصبهم حال حسنة تحسن عندهم، من رخاء أو خصب أو ظفر أو غنيمة أو سعة في الرزق، يقولوا: هذه الحال من عند الله تعالى، فإن كان النصر قالوا: من عند الله. وإن يصبهم أمر يسيئهم، كالهزيمة، قالوا: ذلك من محمد، كأنهم ينسبونه إلى سوء تدبيره عليه الصلاة والسلام، أو يتشاءمون به، ويهبطون بذلك هبوطا شديدا! فالحسنة ما يحسن عندهم، والسيئة ما يسوؤهم. وذلك التفكير الذين يفكرونه ناشئ من ضعفهم النفسي، وضعفهم الإيماني، وسوء ظنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك شأن أهل النفاق ومن يستمعون إليهم من ضعفاء أهل الإسلام:

(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) أي إذا كنتم تنظرون إلى ما قدره الله تعالى في علمه المكنون، وما يوفق إليه عباده، وما يمدهم به من عون، فإن كل شيء من عند الله، فالشدة والرخاء من عند الله، والغنيمة والهزيمة بتقدير الله عند اتخاذ الأسباب، فلا ينصر الله متخاذلا، ولا يخذل من يريد ما عند الله، ويتجه إلى الجهاد مستعدا بقلبه وعدته وتنظيمه، وبهذا يرد عليهم ما توهموه، أو قالوه.

ص: 1773

وقد بين سبحانه أن كلام هؤلاء كلام من لَا يفقه الأمور على وجهها، ولا يدرك معاني الأقوال والأفعال. ولذا قال سبحانه:(فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) والمعنى: أن الأمر ثبت لهؤلاء الذين لم يدركوا الأمور حتى كادوا لا يدركون إدراكا حقيقيا أي حديث يتحدثون به، أو أي حديث يلقى إليهم، فلا يعلمون أن الله هو القابض الباسط القادر على كل شيء!. وإنهم لو فهموا ما يتلى عليهم من كتاب الله والحكمة لاهتدوا، وهذا الاستفهام توبيخ لهم وبيان لوصفهم الحقيقي، وهو أنهم لَا يكادون يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون! اللهم اهدنا إلى الطيب من القول، واهدنا إلى الصراط الحميد.

* * *

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

* * *

هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان، كانوا يُحمِّلون النبي صلى الله عليه وسلم تَبِعة الهزيمة إن كانت!. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا: هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكلٌّ من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن

ص: 1774

القتال يُنجيهم من الموت، فبين الله سبحانه أنه لَا نجاة من الموت، وأنه حيثما كان الشخص فالموت مدركه ولاحِقه.

وفى هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى؛ إذ وفقك إلى سببه، وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لَا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكره، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه، ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه:

ص: 1775

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة فَمِن نفْسِكَ) في هذا النص الكريم تخريجان: أحدهما - أن هذا من كلام الله تعالى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو من بعد ذلك خطاب لكل مكلف مطالب بالعمل بالشرع الشريف.

والمراد بالحسنة ما يكون فيه ما يسر وما يحسن في نظر الإنسان، والسيئة ما يسوء في نظر الإنسان. والمعنى على هذا التخريج: ما أصابكم من أمور حسنة فبتوفيق الله تعالى لكم، وجعل النتائج مترتبة على أعمالكم التي اتخذتم فيها الأسباب، ولم تتقاصروا عن الاتجاه فيها إلى أسباب الظفر. وما يصيبكم مما يسوؤكم وينزل بكم من غم، فلتجنبكم الأسباب الموصلة إلى الغاية، ومخالفتكم أوامر الله ورؤسائكم، كما كان الشأن في أحد، فما كان الأمر الذي ساء إلا من المحاربين الذين امروا فخالفوا، وما كان النصر في بدر إلا من الله، وإطاعتهم الأوامر.

والتوفيق بين النص الكريم، وقوله من قبل:(قُلْ كُل مِّنْ عِندِ اللَّهِ)، هو أن النص الأول كان موضوعه الكلام في تقدير الله، فهم إن انتصر المؤمنون لَا ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم أي فضل، بل يجردونه من الفضل، ويقولون هو من عند الله!! وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة!! وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي إيذاءً وتمردا، فالله قال لهم: كل ذلك بتقدير الله وإرادته. أما هذا النص: (مَا أَصَابَكَ)، فموضوعه اتخاذ الأسباب، ومعناه أن من أخذ الأسباب وتوكل على الله، فالله تعالى يعطيه النتائج، ومن

ص: 1775

لا يتخذ الأسباب أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، أو لَا يتوكل على الله تعالى ولا يفوض إليه، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه، فالأول إيان القَدَر، والثاني لبيان العمل.

وهذا هو التخريج الأول، والتخريج الثاني أن يكون:(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسكَ)، من حكاية قول المنافقين والضعفاء في إيمانهم، لأن آخر الآية السابقة:(فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)، ثم ذكر سبحانه حديثهم الذي لم يفقهوه، وهو قولهم:(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) إلخ، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: ليس لك من فضل في النصر الذي تناله، فإن ما أصابك من ظفر فمن الله، وما أصابك من هزيمة فمن نفسك! وقد ذكر هذا التخريج القرطبي، وقال:" والمعنى: فمال هؤلاء القوم لَا يكادون يفقهون حديثا، حتى يقولوا: ما أصابك الله من حسنة فمن الله! ".

ويكون ذلك الكلام على هذا التخريج ترديدا لقولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ويكون في الأول الحديث عن أنفسهم، وفي الثاني الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الأول معنى التطير والتشاؤم، وفي الثاني تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من كل فضل!.

وهم في الأمرين خارجون عن الطاعة متمردون، وقد رد الله تعالى كلامهم بقوله سبحانه:

(وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) وإنا أيها النبي قد شرفناك برسالتنا، فأرسلناك رسولا فقط، لَا تتكفل بالأرزاق، ولا تهب النصر، ولا تمسك مقاليد الكون، ولست تملك من أمر نفسك شيئا، إنما أنت مكلف بالتبليغ فقط، فإن بلغت فما عليك شيء، وإن اتخذت الأسباب في الحروب للظفر، وتوكلت على الله، فإن الله مانحك النصر، ومعطيك الغلب، وإن خالف من معك ما سننت لهم من منهاج للظفر، فإن الهزيمة واقعة بهم، ولست مسئولا عما يصيبهم

ص: 1776