المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أي أن ذلك العقاب الرادع الزاجر فيه كسر شوكتهم، وإذلالهم - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: أي أن ذلك العقاب الرادع الزاجر فيه كسر شوكتهم، وإذلالهم

أي أن ذلك العقاب الرادع الزاجر فيه كسر شوكتهم، وإذلالهم وقهرهم، وهو بذلك خزي لهم، إذ إنه كشف جريمتهم، وأذلهم وأخزاهم، وجعلهم عبرة لغيرهم، وأي خزي أشد من أن يُرَوْا مقطوعين من خلاف، أو يراهم الناس مصلوبين، أو يحبسوا، أو يبعدوا في أقاصي الأرض فهو خزي نالهم، وفيه عبرة لغيرهم.

هذا هو عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فهو عذاب عظيم، شديد، عظيم في شدته جزاء ما اقترفوا وإن ذلك العقاب ثابت لهم ما استمروا على غيهم، فإن تابوا فهي تجبُّ ما قبلها؛ ولذا قال سبحانه:

* * *

ص: 2151

(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‌

(34)

* * *

أي أن العقاب لمن استمروا في جريمتهم، حتى غُلِبوا، واستمكن الحاكم من جمعهم، وصاروا في قبضة يده، ولكن من تاب قبل ذلك فإن العفو يشملهم والرحمة تعمهم من الله الغفور الرحيم.

انتهينا من الكلام في عقوبات الذين نصبوا أنفسهم لمحاربة الأمن في الدولة والخروج على النظام من غير تأويل يتأولونه، ولا غاية دينية يحققونها، بل خرجوا قاصدين الإجرام لأجل الإجرام، ومحاربة الآمنين وإزعاجهم، وبينا من الذين ينطبق عليهم وصف الحرابة، واختلاف الفقهاء في ظل معاني الآية الكريمة، وفسرنا الآيتين تفسيرا لفظيا، ولكن لم نتكلم في معنى التخيير في قوله تعالى:(أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ)، ولم نتكلم في حقيقة التوبة ومعناها في هذه الآية الكريمة، كما لم نتكلم عن آثارها، وعن نوع العقوبة أهي حد من حدود، أم هي قصاص، وما أثر ذلك بالنسبة للتوبة وفي الحكم، ولا يتم جلاء ما اشتملت عليه الآيتان الكريمتان من أحكام إلا بالتعرض لهذه الأمور في إيجاز من غير إطناب.

ونبتدئ بالتخيير الذي دلت عليه " أو " في النص الكريم، أيقصد به التنويع بتنويع العقوبة على حسب الجرائم، فإذا قَتلوا قُتلوا، وإذا سرقوا قطعت أيديهم

ص: 2151

وأرجلهم من خلاف، وإذا سرقوا وقتلوا قتلوا وصلبوا، وإذا تجمعوا واتفقوا على ارتكاب الجرائم من غير أن يرتكبوا بالفعل كان النفي من الأرض، أم تقصد حقيقة التخيير بأن يكون الإمام مخيرا غير مقيد بنوع في حال، وبنوع آخر في حال أخرى يرتكبون فيها جريمة معينة، بل ترك الأمر لتقديره، وهو ينظر إلى مقدار الترويع بما يتناسب مع قوة الجناة من غير نظر إلى نوع ما ارتكبوا من جرائم، ولا إلى مقداره إنما ينظر إلى مقدار الزجر والردع.

ولقد قال بالقول الأول، وهو أن " أو " لتنويع العقوبات بتنوع الجرائم بعض الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء، وقال بالقول الثاني بعض التابعين، ومالك والظاهرية.

لقد روي عن ابن عباس أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض) وبهذا القول أخذ الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وبذلك تكون العقوبات أربعة أقسام، مقسمة على أقسام الارتكاب، والحجة لهذا الرأي الآثار المروية عن الصحابة، والفقه في الموضوع أن هذه العقوبات لجرائم مختلفة المراتب، فيجب أن تكون تابعة لقوة الجريمة، وليس من المعقول أن جريمة الاتفاق والإرهاب تتساوى مع الإرهاب والقتل بالفعل، أو الإرهاب والقتل والسلب، أو الإرهاب والسلب بالفعل، فالعدالة توجب ذلك التنويع وعلى ذلك يكون التخيير المأخوذ من كلمة " أو " هو لتنويع العقاب وليس لمطلق التخيير، وإلا كان مؤدى التخيير أنه يجوز للإمام أن يكتفي بنفي الجناة إذا قتلوا أو سرقوا، وأن ذلك باطل بالإجماع؛ لأن السرقة توجب القطع، فكيف بالسرقة الكبرى التي يكون فيها ذلك التجمع الآثم، وإذا كان التخيير لَا يمكن أن يفسر بالتخيير المطلق لهذا المعنى، فإنه يجب أن يفسر بالتنويع، لأنَّ تفسيره بغيره يؤدي إلى ذلك الوجه الباطل، وما يؤدي إلى الباطل باطل، وإن التخيير المطلق في العقوبات إذا كان السبب الموجب للعقاب واحدا،

ص: 2152

ككفارة اليمين، فإن السبب هو الحنث وهو واحد، وكان التخيير في الكفارة بين العتق، وإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أما إذا اختلف السبب، فإنه لَا بد أن يكون التخيير للتنويع، والعقوبات هنا قد اختلفت أسبابها، فإن منها القتل، ومنها السرقة، ومنها الجمع بينها، ومنها مجرد الإرهاب والإزعاج، ولا يمكن أن تكون العقوبة واحدة لكل من هذه الجرائم، فلا بد من أن تختلف باختلاف أسبابها، وتكون لذلك " أو " لترتيب العقوبات تبعا للجرائم، ويذكر الكاساني أنه روي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، فقد قالوا: أنه لما قطع أبو بريدة الأسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاءوا يريدون الإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" إن من قَتل قُتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان قبله من الشرك "(1). ويكون هذا النص النبوي معينا أن " أو " ليست لمجرد التخيير ولكن للتنويع، وقد وردت الصيغة التي تدل بظاهرها على التخيير، فقد قال تعالى:(. . . قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).

ولا شك أن اللفظ، وإن كان ظاهره تخيير ذي القرنين بين أي الأمرين يختار، ولكن لَا يمكن أن يكون له الحق في أي الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار، ومنطق العدل الذي أوجبه الله على ذي القرنين والحكام العادلين أن يعذب من أبى وفسق عن أمر ربه ليرتدع غيره وينزجر، وأن يتخذ الأمر الحسن والرفق مع من استقام أو ترجى استقامته.

وعلى ذلك لَا تكون " أو " ممحضة للتخيير، ولكنها تحتمل التخيير والتنويع، وقد ورد النص النبوي والآثار الصحاح عن الصحابة الذين تلقوا علم النبوة عن

(1) روى ابن جرير الطبري (ج 6، ص 132) عن ابن عباس، قوله تعالى:(إنما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّة وَرَسُولَه. . .) إلى قوله: (أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ) قال: إذا حارب فقَتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقَتَل، فعليه الصلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النفي.

ص: 2153

الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفيد أنها للتنويع في العقوبات تبعا لقوة ما ارتكبوا، لَا لمجرد التخيير للإمام (1).

وهذا هو الرأي الأول الذي يقوم على أن التخيير هنا ليس مطلقا، ولكنه منوع تبعا لقوة الجريمة، أما الرأي الثاني فهو يقرر أن " أو " للتخيير المطلق، وأن الإمام له الحق في اختيار أي عقوبة من هذه العقوبات، فإما أن يقتلهم لمجرد إزعاجهم للآمنين، ليجتث من أول الأمر شأفتهم، كما أن له أن يقتل السارقين، وأن يصلبهم ولو لم يقتلوا، والتخيير هنا فيه إجازة مطلقة لولي الأمر ليعالج الجريمة، بما يراه أقرب إلى المصلحة وإقامة الأمن على أسس سليمة.

ووجهة ذلك الرأي أن " أو " الأصل فيها أنها للتخيير، ولا يعدل عن الأصل إلا لما يوجب العدول، ولم يوجد ما يوجب العدول، وما ورد منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الصحابة فهو علاج لأحوال وقعت، والتخيير لَا يمنع ولي الأمر من أن يختار التنويع، فإن اختاره فهو من حقه، ويدخل في باب الإذن المطلق بالتخيير، فإذا اختار أن يقتل من قتل ويصلب من قتل وصلب، ويقطع فقط من سرق فهو من حقه، وليس عمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا القبيل إن صح ما نسب إليه (2)، وهذا التنويع ليس ملزما بأصل النص، ولكن قد تلزم به المصلحة، إن رأى أن ذلك هو طريق الردع.

(1) انظر السابق.

(2)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، " فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ». قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: «فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". [رواه البخاري في ثلاثة عشر موضعا أولها: الوضوء - أبوال الإبل (233)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص (1671)] كما رواه أصحاب السنن وغيرهم وله طرق.

ص: 2154

وإنه على هذا الرأي جمع من التابعين منهم عطاء وسعيد بن المسيب ومجاهد، والحسن البصري والنخعي، وأبو الزناد، وهو مذهب الإمام مالك والظاهرية كما قلنا.

وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأي الأول يحد جرائم معينة ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها، وهي القتل والسرقة، وأن الجرائم لَا تخلو عن ذلك؛ ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه قد يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا، وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض بالتغريب أو زجه في غيابات السجون؛ ولذلك كان التنويع، وكان تخريج " أو " على ذلك الأساس، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.

أما الرأي الثاني - فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعي في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم، وحرياتهم الشخصية، وظاهر هذا الرأي أنه لَا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا؛ ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأي الأول، ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه؛ ولذلك يجب إطلاق يد ولي الأمر، واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب يختار من أصنافه ما يراه أنجع في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعي.

وإنا نرى الرأي الأول بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأي الثاني بالنسبة لتعميم الجرائم التي تفسد المجتمع الإسلامي، فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء، وتخطف النساء لذلك الغرض، أو كانت عصابة لتجميع المواد المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها فإنهم يكونون كقطاع الطريق، ويدخلون في باب الحرابة.

ص: 2155

ونتكلم من بعد ذلك عن عقوبة الحرابة، أهي من قبيل الحدود أم من قبيل القصاص؛ لقد نص الفقهاء بالإجماع على أنها من قبيل الحدود، فهي حد من حدود الله تعالى، وليست قصاصا؛ ولذلك لَا يصح العفو عنهم، وأنهم لَا بد مأخوذون من تلك العقوبات التي قررها القرآن الكريم، فإن إقامة الحدود من العبادات بالنسبة لولي الأمر، ولا يصح أن يتخلى عن العبادة بأي صورة من الصور، ولأنهم قد وصفهم الله تعالى بأنهم يحاربون الله ورسوله، ووصفهم سبحانه بأنهم يسعون في الأرض فسادا، وهم بذلك يعتدون أبلغ اعتداء على الجماعة المؤمنة، وكل ما يكون اعتداء على الجماعة يكون اعتداء على حق الله تعالى، والحدود عقوبات لاجل حق الله تعالى؛ ولأن هذه العقوبات حد تجب إقامته على ولي الأمر كان قابلا للتوبة؛ ولذلك قرر الله تعالى فيه قبول التوبة، فقال تعالت كلماته:(إِلَّا الَّذينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة، وبقي أن نتكلم في أمرين: أحدهما - كيف تكون التوبة قبل القدرة عليهم، وثانيهما - عن آثار هذه التوبة.

أما عن الأمر الأول، وهو حقيقة التوبة في هذا المقام. . فنقول إن التوبة العامة تقتضي ثلاثة آمور: اثنان منها نفسيان، والآخر مادي، والنفسيان أن يعترف بالذنب ويندم عليه، وأن يعتزم ألا يعود إليه من بعد توبته. وأما الأمر المادي، فهو الإقلاع عنه بالفعل.

وبتطبيق هذا على توبة قطاع الطريق لَا يتعرض الفقهاء للناحية النفسية بل إن ذلك أمره إلى الله تعالى، ولكن يتجهون إلى الأمر المادي الذي يدل ظاهره على المعنى الباطني، وإن هذا الأمر المادي يتحقق بأمرين، أو بأحدهما أولهما - بأن يُؤمِّن الناس قطاع الطريق، ويتركوا المكان الذي يباشرون فيه جريمتهم، وثانيهما - أن يقدموا الطاعة لولي الأمر، وهنا يجيء نظر الفقهاء أيكتفون بالأمر الثاني وهو تقديم الطاعة أم لَا بد من الأمرين معا؛ اخلف الفقهاء في ذلك ففريق

ص: 2156

قال: تحقق أحد الأمرين كاف، وهو تقديم الطاعة، أو ترك السلاح ومغادرة المكان إنما لَا بد من إفادة دالة على إنهاء قطع الطريق. وفريق قال: لَا بد من إلقاء السلاح وتأمين الناس وتقديم الطاعة.

ومهما يكن من أمر الاختلاف، فقد كان الاتفاق على أنه لَا بد من إنهاء قطع الطريق بالفعل، وتأمين الناس، وإلقاء السلاح.

وأما الأمر الثاني المتضمن لآثار التوبة فقد قد فرض الفقهاء حالين للتوبة قبل القدرة عليهم:

إحداهما - أن تكون التوبة قبل أن يرتكبوا أي جريمة غير مجرد الحرابة، فلم يقتلوا، ولم يسرقوا، ولم يزنوا، بل أنابوا إلى الحق قبل أن تسلط عليهم سيوفه.

وهؤلاء لَا عقوبة عليهم، لأن الحرابة قد عدلوا عنها، وهم في فسحة غير مضطرين إذا كانت قبل القدرة عليهم، ولم يتعلق بهم حق لآدمي، وحق الله تعالى موضع عفوه ورحمته؛ ولذلك قال:(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ). فهذا النص الكريم يقرر أن الله تعالى قد عفا عنهم، ولأن الحرابة من غير تنفيذ الجرائم أو واحدة منها يعد شروعا، أو نية للسيئة قد هموا بها، وقد عدلوا مختارين عنها بغير قوة غالبة منعتهم.

والحال الثانية - أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم لها حدود، ولها قصاص كأن يكونوا قد قتلوا، أو سرقوا، أو زنوا على مقتضى مذهب مالك الذي أدخل في الحرابة الاتفاق على ارتكاب أي معصية من غير قصر على القتل والسرقة، فإذا كان شيء من هذه المآثم ثم تابوا قبل القدرة عليهم، فهل يسقط حق القصاص، وهل تسقط الحدود؟

قال جمهور الفقهاء: إن ما ارتكبوه من الجرائم التي تثبت حق القصاص لا يسقط؛ لأن القصاص من الحقوق التي يغلب فيها حق العبد، وحقوق العباد لا تسقط إلا أن يعفو صاحبها. وفي هذه الحال تنتقل العقوبة من حد إلى قصاص، ولا بد من أن تستوفي شروط القصاص؛ بأن يطالب ولي الدم، وله أن يعفو، وله

ص: 2157

أن يقتص، وفي حال العفو تجب الدية أو ما يتفقان عليه من المال عملا بقوله تعالى:(. . . فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخيه شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف وَأَدَاءٌ إِلَيْه بِإِحْسَانٍ. . .)، وأثر التوبة قبل القدرة في هذه الجريمة أَنها كانت قَبلها حدا لا يقبل السقوط، وبعدها صارت قصاصا يقبل العفو من صاحبه، وإذا ارتكبوا ما يكون في أصله جريمة حد، كالسرقة، والزنى عند مالك، وتناول المخدرات والمسكرات واتخاذ أوكار في الكهوف والصحارى لنشرها وسلب أموال الناس في سبيلها، فإنه لاحد عند من يدخلها في الحرابة.

وإن ذلك يحتاج إلى بعض البيان.

فنقول: إن الفقهاء اتفقوا على أن السرقة تدخل في الحرابة فإذا سرقوا ثم تابوا، فإن الحد يسقط، ولكن يجب رد المال إلى صاحبه؛ لأن الحد يقبل السقوط بالتوبة، ولأن الله تعالى قد وعد بغفران ما ارتكبوا إذا تابوا فحق وعد الله وأما حق العبد فإنه لم يدخل في الوعد ابتداء، ولأن الحرابة وهي الجريمة الكبرى قد غفرت، فيغفر ما في أطوائها من حدود هي في ذاتها دونها.

وأما الحدود الأخرى من حدود المسكرات والمخدرات والقذف والزنى إذا ارتكبوها في أثناء حرابتهم، فهل تسقط؛ لقد قال الإمام مالك: الذي جعلها تدخل في ضمن أعمال المحاربين، ويعاقبون من أجلها، ويعدون محاربين، ولو قصروا عملهم على ارتكابها، كالعصابات التي تتجر في أعراض النساء، وتسمى في لغة العصر. (الاتجار في الرقيق الأبيض)، قال مالك فيها: إن التوبة تجبها، لأنها داخلة في الحرابة وهي حقوق الله تعالى، وقد وعد سبحانه بغفرانها إذا ارتكبوها وتابوا قبل القدرة عليهم، وهي حقه، وهو سبحانه غفور رحيم. وقال الشافعية: لَا تسقط؛ لأنها غير داخلة في الحرابة، والتوبة هنا تكون توبة خاصة بها، ولا تكون توبة الحرابة شاملة لها، فإن تابوا عنها توبة خاصة - والأصغر يدخل في الأكبر - بها قبلت ما عدا القذف، وقال أبو حنيفة: لَا تقبل عنها توبة ولو خاصة، وقال الحنابلة: تدخل التوبة عنها في ضمن التوبة عن الحرابة، لأنها أصغر منها.

ص: 2158

هذه أحكام قطاع الطريق الذين سماهم القرآن الكريم محاربين لله ولرسوله، وسمى الفقهاء عملهم حرابة، وقد تكون العقوبة شديدة في مظهرها، ولكن لو وزنت بالجرائم، ونظر فيها إلى الأثر لكانت منطقية وضرورية، وسل الذين تنفطر قلوبهم شفقة على المجرمين، كم ترتكب العصابات في أمريكا من جرائم قتل، وجرائم سرقات، وإفساد للضمائر، وإشاعة للرشوة وتهديد للأمن حتى تقف الحكومات مكتوفة أمامهم، سلهم ليوازنوا بين العقوبة العادلة، والجريمة الظالمة، سلهم إن كانوا يدركون وينطقون والله هو العزيز الحكيم، وشرعه هو العدل الرحيم.

* * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

* * *

في الآيات السابقات بيَّن سبحانه ما أوغر به الحسد أحد ابني آدم، حتى قتل أخاه، إذ قربا قربانا، فقُبل من أحدهما فحسده أخوه، فقتله بعد أن كانت منازعة نفسية انتهت بأن طوعت نفسه له قتل أخيه فقتله، وبهذا صور القرآن أصل الجرائم البشرية والبواعث عليها، وهو الحسد الذي يربي الضغن في النفوس وحب الاستعلاء بأي طريق الذي يسهل الظلم للقريب والبعيد من غير أي حريجة مانعة، ومن غير نفس لوامة وازعة، ولقد أشار من بعد ذلك إلى جرائم الآحاد، وجرائم

ص: 2159

الجماعات، وبين أنه إذا لم يكن وازع النفوس كافيا، فلا بد من ردع بعقوبات زاجرة فيها إيلام للآثمين، ونكال يجعل غيرهم يفكر فيما يترقبه من عقاب إن حدثته نفسه بالآثام، فإنه لم يكن له من نفسه واعظ، كان له من العقاب أعظم رادع.

ثم بين سبحانه الطريق لمحاربة الآثام في النفس قبل أن يظهر الشر ويطفح على الألسنة والجوارح، فقال سبحانه:

ص: 2160

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اتَّقوا اللَّهَ وَابْتَغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) النداء موجه للمؤمنين بوصف أنهم مؤمنون؛ لأن مقتضى الإيمان أن يربوا أنفسهم على الخير، وينزعوا منها نوازع الشر، وقد ذكر سبحانه وتعالى الطريق لتربية النفس وتغليب جانب الخير فيها على جانب الشر، وجانب الصلاح على جانب الفساد، وتلك الطريق المثلى مكونة من نقط ثلاث يتكون منها الخط المستقيم الموصل للغاية الفضلى، وهذه النقط الثلاث هي التقوى، وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله، والغاية الحسنى هي الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنشر بكلمة موجزة إلى معاني التربية في كل نقطة من هذه النقط.

(اتَّقُوا اللَّهَ) أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، بحيث تكون نفوسكم في حصن لَا يدخل إليها الشر وهي فيه، وهذا الحصن هو التقوى التي تملأ القلب بذكر الله تعالى، فلا تحس النفس إلا به سبحانه مسيطرا على كل ما في هذا الوجود، وتحس به رقيبا لَا تخفى عليه خافية من خلجاتها، يعلم ما يخفى كل إنسان وما يعلن، وما يسر به وما يجهر، فيتجه إليه سبحانه وتعالى كأنه يرى ربه في كل عمل يعمله، فإن لم يكن يراه سبحانه فإنه يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "(1).

(1) سبق تخريجه.

ص: 2160

ولا شك أن النفس إذا امتلأت بالتقوى ذلك الامتلاء، جانبها الهوى والحقد والحسد، وحب الاستعلاء الباطل، وصار صاحبها ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى في أوصاف أهل الإيمان:(. . . لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا. . .).

(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) هذه هي النقطة الثانية من الخط المستقيم الذي لَا عوج فيه، فالنقطة الأولى ملء القلب بذكر الله تعالى وخشيته، وجعلها دائما في إحساس برقابته، وإنه يترتب على إدراك هذا الجزء من الخط المستقيم الوصول إلى النقطة الثانية، وهي طلب ما يتوسل به إليه لنيل رضاه وإدراك حق طاعته، فالوسيلة: هي ما يتوسل بها إلى رضا الله تعالى، وهي طاعته راغبا فيها محبا لها قاصدا إليها، وزكى لذلك طلبها بقوله تعالى:(وَابْتَغُوا) أي اطلبوا رضاه وطاعته سبحانه طلب من يحبه ويبغيه لثواب، وتلك أعلى الدرجات، ومن دون ذلك له فضل كبير ما دام قد طلب رضا الله تعالى.

فالوسيلة على هذا هي الطاعة برغبة، ولقد قال في ذلك الأصفهاني: " الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة لتضمنها لمعنى الرغبة قال تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ). وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله، وعلى هذا التفسير اللغوي القرآني يكون معنى الوسيلة: الطاعة والتقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته. وقد جاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ. . .). وعلى ذلك تكون النقطة الثانية من صراط الحق وخط الإيمان المستقيم هي الطاعة وطلب رضا الله تعالى وحده.

وهنا مسألة لفظية نشير إليها، وهي تقديم الجار والمجرور في قوله جل جلاله:(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

ص: 2161

وإن التقديم هنا للقصر، والتخصيص، والمعنى اطلبوا برغبة وشدة إلى الله وحده الوسيلة إليه والتقرب، فلا تطيعوا سواه إلا في ظل طاعته، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه، فإنه لَا تقرب لسواه، ولا محبة إلا لأجله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا الله "(1) فالحب لله والبغض لله هما أقوى دعائم الإيمان، وأن المؤمن يتوسل إلى الله تعالى بالقربات التي شرعها، حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويمتلئ قلبه ونفسه بنوره، فيكون ربانيا.

وإنه قد جاء في العبارات الإسلامية معنى للوسيلة على أنها درجة من أعلى الدرجات في الجنة، بل أعلاها، وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى، وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات، ولقد كان من الدعاء الذي يردد في الآذان ما رواه البخاري: فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلَّت شفاعتي له يوم القيامة "(2). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى على صلاة صلى الله تعالى عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لَا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة "(3).

(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث.

(2)

رواه البخاري: الأذان - الدعاء عند النداء (614)، وبلفظ:" إلا حلّت ": الأذان - الدعاء عند الأذان (680) عن جابر رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم: الصلاة - استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (384)، والترمذي: المناقب - في فضل النبي صلى الله عليه وسلم (3641)، والنسائي: الأذان - أملاة على النبي صلى الله عليه وسلم (678)، وأبو داود: الصلاة - إذا سمع ما يقول المؤذن (523)، وأحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو (6532).

ص: 2162

(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) هذه هي النقطة الثالثة من الخط المستقيم، وهو الصراط القويم، وهو الجهاد في سبيل الله تعالى، وسبيل الله هو الطريق المستقيم الذي ينتهي إلى الغاية العليا من شرائع النبوة، وهو السبيل الذي يكون فيه صلاح الإنسان، ودفع الفساد في هذه الأرض، وإقامة مجتمع فاضل بين العالمين، يسعى في ظله التقي البر، ويستمتع فيه الفاجر من غير عدوان ولا فساد، والجهاد: معناه بذاط أقصى الجهد في تحقيق تلك الغاية الإنسانية العليا، وهي الإصلاح في الأرض، ودفع الفساد عنها، وإقامة الحق، وخفض الباطل، وسيادة الفضيلة ودفع الرذيلة. والجهاد ذو شعب، الأولى جهاد النفس، ومغالبة الأهواء والشهوات، ومقاومة نزعات الشيطان، ومراقبة النفس، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد الأكبر، والشعبة الثانية من شعب الجهاد، العمل على تكوين رأي عام فاضل يحث على الخير، ويقاويم الشر، ويمنع الظلم، ويقيم العدل ويحمل الظالمين على الجادة المستقيمة، ويصح أن يسمى ذلك جهادا داخليا؛ لأنه حماية للأمة من الآفات الاجتماعية، ووقاية لها من الشر الذي يقع فيها، فهو جهاد لحماية المجتمع من آحاده كما أن الشعبة الأولى حماية للفرد من آفات نفسه.

والشعبة الثالثة من شعب الجهاد العمل على حماية المجتمع من الظلم الخارجي، ونشر لواء المحبة والمودة بين الشعوب، وجعل العدل يسود العلاقات الدولية، ومدافعة الظالمين، وذلك النوع من الجهاد ذو ثلاث شعب، أولاها - نصر الحق بين العالم بالدعوة إليه باللسان والقلم، ومقاومة الشر من أن يستشري بالدعاية للحق والعدل ودفع الظلم، والثانية - مد الضعفاء بأسباب الحياة ومعاونتهم، والثالثة - مقاومة الظلم بالحرب العادلة دفعا للظالمين، كما قال تعالى:(. . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم "(1).

(1) سبق تخريجه.

ص: 2163