الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والوصف الثاني إرادتهم أن يفرقوا بين الله والرسل، بأن يعلنوا إيمانهم بالله خالق السماوات والأرض، والإنكار لبعض الرسل، فإن ذلك تفريق بين الله ورسله، إذ إن علاقة الرسل بخالق السماوات والأرض واحدة، ومن كفر ببعض الرسل، فإنه يفرف بين الله وأولئك الرسل الذين كفر بهم، فاليهود يفرقون بين الله ورسله؛ لأنهم لا يؤمنون بعيسى ابن مريم، ومحمد بن عبد الله، وهم بذلك يفرقون، وقد فسر بعضهم إرادتهم التفرقة بين الله ورسله أنهم يؤمنون بالله تعالى، وينكرون الرسالة الإلهية، وهو تفسير يحتمله النص، ولكنه بعيد لأن السياق يأباه.
وأما النتيجتان الباطلتان فهما قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض، واتخاذهم بذلك سبيلا بين الإنكار المطلق، والإيمان الكامل، وإن ذلك القول متلازم مع الكفر بالله وبرسله إذ إن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان، والتصديق بالرسالة الإلهية حق التصديق يستلزم، كما نوهنا الإيمان بكل الرسل؛ لأنهم جميعا أتوا بغاية واحدة، وهي إصلاح الخليقة في ناحية رسالة كل رسول، وحثها على الجادة المستقيمة والإنذار والتبشير، ولا يصح لهذا أن يقال نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، إذ هو جحود للغاية من الرسالة، وجحود بذات الرسالة.
وأما إرادتهم اتخاذ سبيل أي طريق وسط بين الإيمان الكامل بكل الرسل، والكفر الكامل بكل الرسل، فمؤداه أن يكونوا في حال بين الإيمان والكفر. ولا شك أن هذه الحال ليست إيمانا بالله ورسله وليس بعد الإيمان إلا الكفر، فهم داخلون في سلك الكافرين، سواء أكانوا مؤمنين بالبعض أم كافرين بالكل، ولذلك حكم الله تعالى بهذا الحكم الحاسم الفاصل ما بين الكفر والإيمان بقوله تعالى:
* * *
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
…
(151)
* * *
التعبير بالإشارة للإفادة إلى أن هؤلاء الذين قالوا ذلك القول، وجحدوا ذلك الجحود بسبب هذه الأقوال وتلك الأحوال كافرون كفرا لا مجال للشك فيه، وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم عليهم بالكفر بثلاثة مؤثرات: أولها - الإثيان بكلمة " هم " الدالة على تأكيد الحكم، وقصرهم على الكفر وإثبات أنهم لَا يخرجون عن دائرة الكفار يسارعون فيها ولا ينثقلون منها.
ثانيها - تعريف الطرفين وهم أولئك الجاحدون بالإشارة، والحكم بأنهم الكافرون أكد القول، وأفاد من قبيل المبالغة في تأكيد الوصف بالكفر، كأن الكفر مقصور عليهم لا يخرج عنهم، وهم بذلك أوغل في الكفر من الذين لَا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا رسالة؛ إذ هم يسلِّمون بالأصل ويعرفونه، ويكفرون مع ذلك به، ولا يطبقونه.
ثالثها - التعبير بكلمة (حَقًّا)، أي أن كفرهم ثابث قد ثبت وحق حقا، وقد قال الزمخشري في تخريج هذه الكلمة " أى هم الكاملون في الكفر، وحقا تأكيد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا أي حق ذلك حقا وهو كونهم كافرين، أو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لَا شك فيه ".
ولماذا كان ذلك التوكيد؟ والجواب عن ذلك أن التوكيد يكون حيث مظنة التردد في عقول الذين قالوا ذلك القول، فقد حسبوا بقولهم وإرادتهم أنهم يرضونه بذلك فبين الله سبحانه أنه لَا وسط بين الإيمان الكامل والكفر في شيء، وخصوصا أن جحود هؤلاء ببعض الرسل انبعث من حقد دفين، وتفريقهم بين الأجناس، حتى في مقام الرسالة، وقد قال تعالى:(. . . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْث يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وإنهم بهذا الكفر يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ إذ إنها كانت في اليهود وأشباههم الذين رفضوا محمدا، لأنه عربي، وليس بعبري، وحيث كان التردد في عقل وجب تأكيد الحق، ليزول التردد، ويتبع التابع عن بينة ويقين، وقد ذكر الله تعالى عقاب هؤلاء، وأمثالهم فقال:(وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِين عَذَابًا مُّهِينًا).
والمعنى هيأنا للكافرين الذين يندرجون في جمعهم عذابا مهينا يذيقهم الهوان والذل، كفاء استكبارهم في الدنيا، واعتزازهم بالباطل فيها، ويصح أن يقال إن كلمة (الكافرين) لَا تعم كل الكفار، ولكنها تخص الذين ذكروا في الآية السابقة؛ لأن اللفظ إذا أعيد معرفا كان المراد به المذكور أولا، ويكون تخصيصهم بالذكر، لبيان نتيجة ما ارتكبوا وما فرقوا به بين رسله سبحانه.
وهنا بحث لفظي في لفظ " أعتدنا "، وهو تعبير قرآني اختص القرآن به؛ لأن اعتد من العتاد، والتخريج اللفظي هيأنا لهم عتادا هو عذاب جهنم. وقد قال في ذلك