المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا

(وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‌

(130)

* * *

أي إنه إذ لم يستطيعا إصلاح ما بينهما، ولم يصلح غيرُهما ذلك الإصلاح لم يبق إلا أن يتفرقا، وهذا ما تقتضيه الفطرة، ولذلك أسند التفرق إليهما معا، لَا إلى أحدهما! لأن التفرق بالطلاق نتيجة تفرق القلوب، وإنه إذا كانت هذه الحال أغنى الله كلِ واحد عن الآخر من سعة الرحمة التي يرحم بها عباده، (وَكَانَ اللهُ وَاسِعَا حَكِيمًا) وكان الله تعالى ولا يزال واسع الرحمة فكلمة " واسعا " على تقدير مضاف، وهو الرحمة، وكان ولا يزال حكيما، يشرع بعباده بمقتضى حكمته ما هو أصلح لهم، ولو كانت النفوس تنزعج له أو تبغضه، وإن المرأة الفاضلة الكريمة إذا أعرض زوجها أو استعلى عليها ولم يمكن إصلاح ستجد من المجتمع من يقدر فضلها، ويبدلها من الناشز عدلا من الرجل، اللهم أصلح أمورنا، وابسط المودة بيننا، إنك سميع الدعاء.

* * *

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

* * *

ص: 1886

فى الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها، ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية، وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، وفي هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، وفى هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه، وأن كل شيء في ملْكهِ وتحت سلطانه، فهو الذي يغني كلا، وهو القادر على كل شيء، وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه:(يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقسْط شُهَدَاءَ للَّه. . .)، وقد توسطت هذه الآيات الدَّالة علي عظم سلطَان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذي هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.

وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه: " وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كلًّا مِّن سَعَتِهِ) تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذر عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة ".

ص: 1887

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي لله وحده ما في السماوات والأرض من مطر ينزل، وأرض تنتج، وشمس تمد الكون بالدفء والحرارة والضوء، وقمر منير، ونجوم تزين السماء الدنيا، وهو سبحانه وتعالى يملك ذلك كله ملك اختصاص وسلطان وقدرة وإنشاء، فهو الذي أبدعه على غير مثال سبق، وهو رب الدين في السماء والأرض، وهو الذي يوزع الأرزق بمقتضى حكمته، وهو القاهر فوق عباده، يقيم العدل ويغني كلًّا من سعته بما يشاء، وأنه لم يترك

ص: 1887

الناس هملا، بل أنزل عليهم الكتب السماوية تدعو إلى التفكير في ملكه، وخلقه، وتتجه إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده وتقواه وحده، ولذا قال:(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الخطاب في هذا النص لأمة محمد)، والكتاب المراد به جنس الكتاب، لَا واحده، أي الذين أوتوا علم النبوة من قبلكم برسل أرسلوا إليهم، وكتب سجلت أوامر الله تعالى ونواهيه، وخطاب من الوحي الإلهي نزل إليهم، وقد دعاهم سبحانه وتعالى كما دعاكم إلى أن تتقوا الله تعالى في كل أعمالكم، بحيث تتربى مهابته في قلوبكم، فتذكرونه في كل تصرفاتكم، فإن وسوست نفوسكم بظلم ذكرتموه فامتنعتم، وإن همت بفساد ذكرتموه فاعتصمتم، وإن أصابكم جزع ذكرتموه فاطمأننتم، وإن أصابكم فاقة ذكرتموه فصبرتم، وإن أصابتكم بَأْساء ذكرتموه فارتضيتم، وإن أصابتكم نعماء ذكرتموه فشكرتم، فالأمر بالتقوى أمر جامع لكل معاني الإيمان والتوحيد.

ولذا أكد سبحانه الأمر بالتقوى بأربعة مؤكدات.

أولها - التأكيد باللام وقد، فـ (قد) وحدها مؤكدة، واللام تتضمن معنى القسم فهي مؤكد آخر، وهذا ما تضمنه قوله تعالى " ولقد " في صدر الكلام. ثانيها - التعبير بقوله جل جلاله " وَصَّيْنَا ". فإن التوصية تكون طلبا مشددا لَا يقتصر على زمان الأمر، بل يتعاقب الطلب بتعاقب الأزمان والدهور، ولا يقتصر على زمان دون زمان، وهذا يفيد أن الأمر بالتقوى قانون محكم، لا يعتريه فسخ ولا تغيير مهما تختلف العصور؛ لأنه لب الأديان.

ثالثها - ذكر كتب النبيين السابقين مع خطاب أمة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الذكر يفيد أن التقوى شريعة السماء.

رابعها - التعبير بـ " أن " في قوله تعالى جلت قدرته (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فإنها هي " أنْ " المفسرة، أي أنه سبحانه وتعالى يفسر وصيته الخالدة الباقية بأنها شيء واحد، وهو الأمر بالتقوى، ومن المقرر في علم البيان العربي أن الإبهام ثم البيان

ص: 1888

يؤكد المعنى في النفس أفضل تأكيد، وقد قال الزمخشري إن لفظ " أن " يحتمل أن تكون أن فيه مصدرية، والمعنى: وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى. والتعبير بالمصدر المؤول المنسبك من " أن " وما يليها فيه تؤكيد لمعنى المصدرية؛ إذ فيه تصوير واضح للفعل والقيام به، وإن قوله تعالى و (إِيَّاكُمْ) هو من قبيل عطف الضمير على الاسم الظاهر، فيكون في موضع النصب، ولذلك انفصل الضمير.

وقد أكد سبحانه وتعالى وصيته الخالدة ببيان نتيجة مخالفتها، وأنها لمنفعة العبادة، فقال سبحانه:

(وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وإن الأمر بالتقوى فيه خيركم، إذ فيه سلامة اعتقادكم، واطمئنان قلوبكم؛ وصلاح جموعكم، ومنع الفساد في الأرض، وإن جحدتم أوامر الله تعالى، ولم تعبدوه وحده، وتخشوه حق الخشية، فستفسد أموركم أنتم، ولن يضر الله منكم شيء؛ لأنه مالككم، ومالك كل ما في السماوات والأرض، وهو بهذا الملك الظاهر والسلطان القاهر، يستغني عن تقواكم، وهو المستحق للحمد الدازم، والمحمود في ذاته وشرائعه وأوامره ونواهيه وفي إنشائه وإبداعه، فلا يضيره كفر الكافر، ولا ينقص من سلطانه فجور الفاجر؛ لأن الجميع في قبضة يده وتحت سلطانه.

ولقد قال ابن جرير الطبري في معنى هذه الآية الكريمة: " وإن تجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. يقول فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم هذا أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حل بهم، إذ بدلوا عهده، ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش، وأمن السِّرب، وجعل منهم القردة والخنازير، وذلك أن له ملك جميع ما حوته السماوات والأرض، لَا يمتنع عليه شيء أراد تجميعه. . من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله ".

ص: 1889