الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق معناه الفصل بين شيئين أو شخصين فصلا حسيا أو معنويا، كما قال تعالى:(. . . لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ. . .).
والمراد هنا والله أعلم؛ اجعل بيننا وبينهم فارقا في الحكم وهو العدل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين؛ لأننا لَا نرضى بما يفعلون، ولسنا معهم في الإحساس وهذا التخاذل، فلسنا منهم في هذا، وليسوا منا في شيء وافصل بيننا وبينهم في الآخرة، كما فصلت في الحكم بيننا وبينهم في الدنيا، والمؤدى من قول سيدنا موسى هذا هو أنه يبرئ نفسه منهم، ومن عملهم وخذلانهم، والفاسق هو الخارج المنفصل بالحس أو المعنى، والمعنى: افرق بيننا وبين هؤلاء الذين خرجوا عن الطاعة، وعن مناط العزة، ورضوا بالذلة والهوان.
ولا شك أن هذه الجملة تدل على ألم موسى، واستنكاره لما هم عليه، فقال تعالى:
* * *
(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ
…
(26)
* * *
القول هنا هو قول الله تعالى، كما يدل على ذلك الحكم الذي حكم به، فإنه لله تعالى وحده، وكما يدل عليه من بعد ذلك قوله:(فَلا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ) هي فاء الإفصاح، أي التي تفصح عن شرط مقدر، والمعنى: أنهم إذا كانت حالهم كذلك من الخور، وضعف العزيمة، والخوف من أعدائهم فإنهم لَا يدخلون الآن لضعف بأسهم وشكيمتهم، فإنها محرمة عليهم تحريما واقعيا، لَا تحريما حكميا تكليفيا يتيهون في الأرض، أي يكونون في الأرض تائهين متحيرين يضطرب عيشهم وحياتهم، ولا يستقر مقامهم، بل يعيشون فرادى هائمين على وجوههم، حتى يتربى البأس في قلوبهم.
هذا خلاصة معنى النص الكريم، وهو يدل على أن الله تعالى بسنته التي سنها سبحانه وتعالى في الكون لَا يمكنهم من أن يدخلوها إلا إذا غيروا، وبدلوا حالهم من بعد الضعف قوة، ومن بعد الخور عزيمة: (. . . إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11).
إن بني إسرائيل من بعد أن بعث الله تعالى إليهم من أنفسهم سيدنا موسى عليه السلام كانت كل انتصاراتهم على فرعون بأمور خارقة للعادة، وحياتهم كلها لا تخلو من خارق، فقد أنقذوا بالبحر ينفلق اثني عشر فرقا، وشربوا الماء بالعصا يضرب بها الحجر فينبثق منه اثنتا عشرة عينا لكل إنسان مشربهم، ويشكون الجوع، فيجيء إليهم المن والسلوى. وبذلك استرخت نفوسهم، والله سبحانه وتعالى لم يجعل - فيما سنه في الكون - الأمم تعيش من غير كفاح، وطلب للعزة بجهاد وعمل. فكلفهم سبحانه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهو يعلم حالهم، وبماذا يجيبون، وكان لَا بد أن يربيهم على الكفاح بعد الاسترخاء، وعلى طلب العزة بأنفسهم بعد الاستخذاء، فكان لَا بد من البلاء بتركهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، ويعيشون في الأخبية وينتقلون طلبا للماء والكلأ، ويحيون حياة خشنة.
ولقد قرر ابن خلدون في مقدمته إن الأمم كلما تحضرت استرخت منها العزائم حتى يغزوها من يعيشون في شظف العيش ويسيطرون عليهم، حتى يصيبهم الرفه، ويفكهوا في نعيمه، فيصيبهم ما أصاب من سبقوهم.
كان التيه الذي عاش فيه بنو إسرائيل أربعين سنة لتربى فيهم قوة البأس والعزيمة، ويستهينوا بالصعاب، فيذللوها ويتغلبوا عليها:(فَلا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) هذا تطمين لموسى عليه السلام، وبيان استجابة معذرته، وإزالة لما علق بنفسه من هم بسبب فعل قومه، وعصيانهم لأمر ربهم، ومعنى أسى حزن حزنا عميقا، يُحدث هما وغما، ومن ذلك قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبى عليَّ مطيهم
…
يقولون لَا تهلك أسى وتجمل اللهم هب لأمة الإسلام القوة والعزة والمنعة، وطلب إعزاز الإسلام بالجهاد بالنفس والمال، وألا يرهَبوا عدوَّ الإسلام، ويطيعوا قول الله تعالى ويستمعوا إليه:(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُم الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
* * *
هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونقضهم المواثيق، وقتلهم للنبيين، وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإن علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد أخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوى القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة، كما صبر الأخ الذي قتله أخوه، فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضا بيان لحلية الصبر والصفح والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
وكل هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى:(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ ممَّا يَمْكُرُونَ).
وكما أن في النص تعليلا لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه، فإنه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فسادا، ويخرجون، ويقتلون الأنفس البريئة، ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعا وزجرا، ونكالا يمنع غيرهم من العبث؛ ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية
العقاب الرادع، فقال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ابنا آدم، يقول المؤرخون وبعض المفسرين فيهما، كما جاء في التوراة: هما هابيل التقي، وقابيل الباغي، ويقول أكثر المفسرين: إنهما ولدا آدم من صلبه، ولكن الحسن من التابعين قال: إنهما من بني إسرائيل، ولعلِ مما يشير إلى ذلك قوله تعالى من بعد:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ من قَتَلَ نَفْسًا بِغيْرِ نَفْسٍ. .) إلخ.
ولا يهمنا أن نعرف من هما، ولكن الذي يهمنا أن نعرف أن ما يومئ إليه النص من حقائق، والقصص صادق وواقع، ولكن نترك ما تركه القرآن ولا نهيم في إسرائيليات صادقة أو كاذبة، والنص القرآني واضح في مقصده من غير حاجة إلى ما يوضحه من خارجه، ويقول سبحانه:(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَاً ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقِّ).
ومعناه اذكر خبر ابني آدم ذكرا متتابعا منسقا يشبه الكلام العظيم المتلو، وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها، والمصورة للمعاني في وقوفها، والمؤدى: أخبرهم بخبر الابنين بعناية، وأخبرهم بهذا الخبر الصادق خبرا قد لبسه الحق، وصار حليته، ومظهره وحقيقته، والنبأ هو الخبر العظيم ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم (خبر له شأنه) بما فيه من قتل الأخ لأخيه من غير جريمة ارتكبت، ولا شر وقع، ولا اعتداء، بل بسبب العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، فما كان سبب الاعتداء إلا ذلك؛ ولذا ذكر سبحانه وقت الجريمة، وهو سببها، وباعثها، مما يدل على أن القلب الخبيث لا يدفعه فعل الخير المقبول إلا إلى الأذى الممقوت، فقال:
(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) أي اذكرهما ذكرا حقا صادقا في الوقت الذي قربا فيه قربانا، وكانت نتيجة القربان تقبلا حسنا من
أحدهما وعدم تقبل من الآخر، فكان من وراء ذلك الاعتداء الشنيع من الذي لم يقبل قربانه، والقربان العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي تطلق في أكثر أحوال العبادة على الذبائح التي يتقرب إلى الله تعالى بذبحها، كذبح الهدْي في مكة.
والتقبل معناه القبولى بقوة من القابل سبحانه، فهو قبول ورضا وترحيب، وقد ذكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه:(وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ). للمقابلة بين النفي والإثبات، لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا، فنفيه منصب على أصل القبول، لا على وصفه.
وكان عدم قبوله لسوء نيته، ولنقص تقواه؛ ولأنه قصد الخبيث من ماله وأراد به التقرب، ولأنه قصد المباهاة والفخر، ولم يقصد وجه الله، ولأن قلبه متأشب بالآثام كما تبين من سوء فعله وخبثه، وعدم رحمته من بعد ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحدهما لم يتقبل قربانه، ولم يبين سبحانه كيف عرف أنه لم يقبل، ولقد ذكر العلماء كلاما في هذا، فقيل إن القربان تنزل عليه نار فتأكله، والآخر لَا تنزل عليه نار، وقد علم القبول بهذه الأمارة، وقال آخرون: إن ذلك كان بوحي أُوحي إلى نبي هذا الزمان، وعندي أن ذلك كان برؤيا صادقة أو بحالي المتصدق في نفسه، وقد علم من حاله أن تصدقه غير مقبول، وقد يكون بإخبار نبي الزمان إن كانا غير ولدي آدم الصلبيين (1).
وكانت نتيجة ذلك أن كان بين الأخوين تلك المجاوبات الكلامية ثم الجريمة الكبرى التي هي أعظم ما ظهر من جرائم في الوجود الإنساني، ولنذكر المجاوبة بين التقي المؤمن العادل السمح، والفاجر الباغي الظالم الحاسد، قال:(لأَقْتُلَنَّكَ). تلك كلمة الظالم الآثم الذي خلا قلبه من كل شعور بالحق، فلم
(1) روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللًهِ صلى الله عليه وسلم: " لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأولِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأنَهُ أولُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".
يشعر بالعدالة في ذاتها، ولم يشعر بالرحم الواصلة بينهما ولم يشعر بحق الحياة التي خلقها الله تعالى وأودعها كل نفس ولم يشعر بحرمة الدم، وبأن القتل أعظم جريمة في هذا الوجود الإنساني، وقد أكد عزمته الآثمة، وإصراره عليها من غير خور ولا ضعف؛ ولذلك أكدهما أولا بالقسم المطوي في القول، والذي تدل عليه اللام، وهي مؤكدة أيضا بنون التوكيد الثقيلة، وكانت المجابهة الآثمة لأخيه بذلك الخطاب المواجه، ولم يستر نيته، فكان التبجح السافر الذي أدى إليه الفجر في القول، والإجرام في العمل، والكسب الآثم.
وإن هذا يدل على تصميمه على القتل، وهذا النص الموجز يبين روح الإجرام في المجرمين الذين يريدون السوء بالأخيار في المجتمع، وكلما زاد خير الأخيار، أوغل المجرمون في الشر والإيذاء، حتى أنهم ليستمرئون الشر، كما يستطيب الأخيار حب الخير، وإن هؤلاء آفة الجماعة الإنسانية، ومن تظهر مآثمه منهم تحق عليه كلمة العقاب زجرا وردعا، وتهذيبا للمجتمع وتطهيرا له، فالذين يذهب بهم فرط رأفتهم إلى الاعتذار لهم آثمون في حق جماعتهم، راضون بأن يعيش الشر في قلوب الاثمين.
(قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) تلك أول كلمة نطق بها التقي البر في مجاوبة اعتداء أخيه، أو الجهر بنية الاعتداء، وهي في ذاتها اعتداء، فقد قال كلمات أربعة، كل واحدة منها تنبئ عن إيمان مكين عميق، وتلك هي الأولى، وهذه الكلمة تفيد السبب في القبول، وترشد أخاه إلى تطهير قلبه، وإلى الاتجاه إلى ربه، وإلى الاستشعار بخشيته، وفي تلك الكلمات الطيبة معان كريمة.
فهي أولا تفيد قصر القبول بلفظ (إِنَّمَا) على المتقين، والقصر نفي وإثبات، أي أن التقوى هي سبب القبول، فإن وجدت كان القبول، وإن لم توجد انتفى القبول، وتفيد ثانيا أن عدم القبول إنما يكون من نفس المتصدق، لَا من أمر خارجي فالجزاء على قدر النية، فالتقوى دائما من القلوب.