الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاردة التي يراها صاحبها، يضع لها أسباب التقريب، فإذا عادت إليه فرح بعودتها، بيد أن أحدا من عباد الله لَا ينفعه!.
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولاها - أن الله تعالى سمى الذين تحاكموا إلى غير الشرع ظالمين لأنفسهم، يستوي في ذلك من حكم له ومن حكم عليه؛ لأن تحكيم الطاغي الظالم هو بث للظلم ونشر له، وإذا شاع الظلم وكثر شاع معه الفساد والاضطراب، ومن فعل ما يؤدي إلى ذلك هو ظالم لنفسه، وظالم لجماعته التي يعيش فيها.
وثانيتها - أن الله تعالى قرن الاستغفار من الرسول بالاستغفار له، ليشير بهذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَا يقول من عند نفسه، بل يقول عن الله تعالى، ولتكريم مقام الرسالة ومقام الحاكم العادل، فإن الإعراض عنه استهانة به، والاستهانة بالحاكم العادل تؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار الأحكام.
والثالثة - أن قوله تعالى: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ويقول الزمخشري في ذلك " لم يقل:(واستغفرت لهم) وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لاستغفاره. وتنبيها على أن شفاعة من اسمه رسول من الله بمكان ". فالالتفات كما نرى للتنبيه إلى مكانة الرسالة، وتفخيمها، ولبيان أن شفاعة الرسول بمقتضى كونه رسولا، لها مقامها من الله تعالى، وفوق ذلك أن الالتفات يؤدي إلى أن يكون الاستغفار للرسول بوصف أنه رسول، فالباعث على وجوب الاستغفار له هو أنه يبلغ رسالة الله، فترك حكمه استهانة بحكم الله، وهو رسول الله، ورسول الله له حق الكرامة الكاملة.
* * *
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
…
(65)
* * *
(شَجَرَ بَيْنَهُمْ) معناها تنازعوا فيما بينهم، واختلط الحق بالباطل، وتشابكت الأمور كما تتشابك غصون الأشجار، وإن التحاكم يكون في مثل هذه الأمور التي
تتشابك فيها عناصر الحق والباطل، ويلتبس بعضها ببعض، ولا يعرف الحق الصريح الواضح من بينها، ويميزه الحاكم العادل الفاحص، الذي ينظر إلى الأمور بعمق، وتدبر، وقوة فراسة، وعزمة على الحق، وطلبه بإخلاص لَا هوى.
(فَلا وَرَبِّكَ) أيها النبي الكريم، لَا يؤمنون، ولا يعدون في عداد المؤمنين، حتى يحكموك فيما يكون بينهم من خلاف، فإن من أول مظاهر الإيمان والإذعان للحق الرضا بتحكيم الشرع في الخلاف.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية:
أولها: (الفاء) في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ) ونقول إنها فاء الإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، ومعنى الكلام: إذا كانت طاعة الرسول واجبة بحكم أنه رسول من عند الله، فإنهم لايؤمنون برسالته حتى يرتضوا التحاكم إليه. ثانيها:(لا) في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ) قال الزمخشري إنها زائدة لتقوية الكلام، فيكون النص كقوله تعالى:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقد قال الطبري إن " لا " ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم الشرع، وقد قال في ذلك: " قوله (فَلا) رد على ما تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ثم استأنف القسم بقوله (وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنونَ).
ثالثها: أن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته العلية، ولكنه أضاف الربوبية إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَرَبِّكَ) يَا أيُّهَا النبي، تكريما لذات النبي)، وإعالأً لشانه، وجواب القسم هو قوله تعالى:(لا يُؤْمِنُونَ).
ومن هذا النص السامي يتبين أن أول مظهر من مظاهر الإيمان الرضا بحكم الشرع، ولكن الرضا وحده ليس كافيا بل لَا بد من أمرين آخرين، وهما أن يكون الرضا عن طيب نفس من غير حرج ولا ضيق، وثانيهما التسليم والخضوع لحكم الشرع. وقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:
(ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ) الحرج الضيق والتململ من الحكم أو الشك في صحته، والمعنى: أن من مظاهر الإيمان أن يقبلوا التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، وإذا صدر الحكم لَا يشكون في صحته، ولا يضيقون ويتبرمون به، بل يتقبلونه بقبول حسن؛ لأن قبول الأحكام على أنها من عند الله ينهي الخصومات، ويلقي بالسلام بعدها؛ لأنهم تحاكموا إلى ذي الجلال والإكرام. وقد تكلم العلماء في العطف بـ " ثَمَّ " بدل الفاء أو الواو، فقال إن " ثُمَّ " تدل على التراخي، وكأن الله يغفر لهم الإثم الذي يصيبهم عند صدمة الحكم لهم بالنطق به، ولكن عليهم أن يروضوا أنفسهم على القبول والإذعان، من غير ضيق ولا تململ، لكي يكون الحكم حاسما للخلاف قاطعا للنزاع.
(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) هذا هو الوصف الثالث لأهل الإيمان بالنسبة لأحكام الشرع الشريف. والتسليم معناه الانقياد والإذعان التام في المظهر والحس. وإذا كان الوصف الثاني لبيان الخضوع النفسي، فهذا الوصف الثالث لبيان الخضوع الحسي الظاهر. وقد أكد سبحانه وتعالى التسليم بالمصدر فقال " تَسْليما " للإشارة إلى وجوب الإذعان المطلق من غير أن يثيروا أي شبهة حول الحكم، ولا أن يماروا فيه مراءً ظاهرا، فإن المراء قد يثير نزاعا جديدا، والقضاء يجب أن يكون حاسما قاطعا.
وأصل التسليم هو تقديم النفس، وجعلها خالصة لمن يسلم إليه. يقال: سلَّم لأمر الله وأسلم له. إذا جعل نفسه خالصة لله تعالى، ثم أطلق التسليم على الانقياد الظاهري، وعدم المماراة فيما يقرره الشرع من حقوق وواجبات.
ويجب التنبيه إلى أن التحاكم إلى النبي بعد وفاته هو التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يعلم كل من يُسمى نفسه مسلما أن الله تعالى يقرر أنه لَا يؤمن من لَا يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم لَا يجد ضيقا في حكم الشرع، بل يرضى به، وينقاد له انقيادا ظاهرا وباطنا. وإذا كان ذلك ما يقره الشرع، فليعلم المسلمون اليوم مكانهم من الإيمان، وقد ارتضوا حكم القوانين
الأوروبية بدل كتاب الله " وسنة رسوله وإذا دعوا إلى حكم الله ضاقت صدورهم حرجا، وتململوا ولم يسلموا، بل يناوئون ويعاندون؛ إذ هم يؤمنون بما عند الأوروبيين أكثر من إيمانهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله! ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
* * *
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
* * *
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسُّنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون، وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه:
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) معنى قتل النفس تعريضها للتلف من غير أمل في النجاة، ويكون في ذلك إعلاء للحق، ونصر للفضيلة ورفع شأنها، كهذا الذي ينطق بكلمة الحق أمام سلطان جائر ويتأكد أنه سيقتله إن قالها! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله "(1)! ومن هذا أيضا أن يحمل على النطق بالكفر، فيمتنع فيقتل! نعم إن الله سبحانه وتعالى قال:(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ)، فرخص له بالنطق بكلمة الكفر، ولكن الأفضل ألا يقول، وهو مثوب إذا أصر ولم يقل، ففي هذه الأحوال يكون التعرض للقتل فضيلة مشكورة، لأنه إعلان للناس بأن للحق أنصارا يفتدونه بأنفسهم، وفي ذلك تحريض على تأييده وهو دعوة صارخة له. ومعنى الخروج من الديار: الهجرة من البلد منصرفين للجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك إذا لم يكونوا مستضعفين في الأرض، محكومين بغير المسلمين.
ومعنى النص الكريم: لو ثبت أننا فرضنا عليهم أن يعرضوا أنفسهم للتلف من غير أمل في النجاة، أو يخرجوا من موضع استقرارهم وأمنهم في ديارهم، إلى حيث المشقة الشديدة والعمل الكادح، ما استجاب لهذه الفريضة إلا عدد قليل من الناس، وهذا يشير إلى أمرين:
أولهما: أن التكليفات الشرعية لَا تكون إلا فيما يطاق من غير مشقة
مجهدة، لأن الله - تعالى - يقول:(لا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. . .)، والتعبير بـ (لو) يدل على أن التكليف لَا يقع على هذا؛ لأن (لوْ) كما يقول العلماء تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب، فالله تعالى لو يكلف ذلك التكليف لثقل التكليف إلا على عدد قليل منهم.
الثاني: أن في كل طائفة عددا يقوم بذلك الأمر الشاق، فهؤلاء المؤمنون الأولون قد صبروا على أذى المشركين في مكة من غير وهن ولا ضعف، ومنهم
(1) سبق تخريجه.
من مات تحت حرّ العذاب الشاق، ثم هاجروا وخرجوا من ديارهم، وهؤلاء أصحاب الأخدود الذين آذوا المؤمنين، فصبروا، وهم يلقون في النيران وقد قال سبحانه وتعالى:(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8).
(وَلَوْ أَنَهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) وإذا كان الله سبحانه لَا يكلف ما يشق أداؤه، ولا يمكن احتماله، إلا لعدد من الأقوياء جعلوا منار الهدى أمام الناس في كل العصور، فإنه سبحانه يكلف الناس ما فيه خيرهم وتثبيتهم على الحق.
ومعنى النص السامي (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ): لو ثبت أنهم فعلوا ما يكلفونه من تكليفات محتملة بينت لهم فيها نتائجها وثمراتها، لكان فيها الخير لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يكون الثواب العظيم والنعيم المقيم، وفي الدنيا يكون العدل والفضيلة، والمصلحة الحقيقية، وهذه الأمور هي خير الدنيا. فالشرع الإسلامي بني على هذه الأمور الثلاثة: الأول الفضيلة المهذبة للنفس، الموجهة إلى توثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعبد وربه، والسعي نحو الكمال الإنساني، والمنزلة الرفيعة. والثاني العدالة التي هي الميزان في العلائق الإنسانية التي ينتظم بها معاشهم ومعادهم، والثالث المصلحة الحقيقية، فما من مصلحة حقيقية ليست هوى ملحا ولا شهوة جامحة - إلا دعا إليها الإسلام، وما من حكم جاء به التكليف الإلهي إلا طويت فيه المصلحة، وكانت نتيجة وثمرة للأخذ به.
ومعنى قوله تعالى: (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) أي يكون في الأخذ بالتكليف الذي يطاق تثبيت على الحق، هو أشد تثبيت وأقواه. وكان في التكليف الذي يطاق تثبيت للحق، لأنه يمكن الاستمرار عليه، والاستمرار على فعل ما هو حق يثبته ويقرب الغاية منه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى المداومة على الخير ولو كان