الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(3)
* * *
في الآية السابقة بَيَّن سبحانه تحريم الصيد في وقت معين ومكان معين، وحال معينة، وهذا في البيت الحرام وفي الأشهر الحرم المخصصة للحج، كما قال تعالى:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. . .).
وفى هذه الآية بَيَّن سبحانه وتعالى المحرمات من الحيوان الذي كان في أصله حلالا، ولكن كان التحريم فيه سببه مقترنا بهلاكه، مما يهلك بموت من غير ذبح، وكذلك بعض أجزائه، وبين تحريم حيوانات أخرى وبعض الأفعال التي تقترن بالذبح عند الذين أباحوا الميسر لأنفسهم، ولذلك قال تعالى:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) هذه الآية تبين تحريم أربعة أنواع، هي الميتة وما هو في حكمها مما يقتل ودمه لَا يخرج منه، والثاني الدم، والثالث لحم الخنزير، والرابع ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب، وحرم مع هذا فعلا يقترن بالذبح، وهو الاستقسام بالأزلام، أي قسم اللحم بطريق الأزلام، وهي الأقداح التي تستعمل في الميسر، أو كانت تستعمل عند العرب.
والميتة: الحيوان الذي يموت، وكلمة " الميتة " وصف والموصوف هو الجثة، فإن كل جثة لَا تجري فيها الحياة تكون ميتة، والمراد من الميتة هنا ما يموت من غير فعل فاعل، والميتة غالبا تكون مستقذرة في ذاتها تعافها النفس وينفر منها الطبع، وهي رجس قذر، يكون فيه تعفن، أو على الأقل يسارع إليه التعفن، وهي فوق أنها خبث يكون في الغالب سببه مرضًا قد اعترى جسمه، وقد يكون بجرثومة تبقى بعد الموت أمدا غير قصير، ولأن الميتة يكون دمها فيها وقد فسد، ولذلك كله حرمت، فهي قذارة وفيها ضرر كبير.
والدم الذي جاء النص الكريم بتحريمه هو الدم المسفوح، الذي نص عليه في قوله تعالى في سورة الأنعام:(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .).
والمراد بالمسفوح: الذي يسفح ويراق من الحيوان، وإن غلظ وتماسك من بعد ذلك، فالدم الذي يكون جامدا بأصل خلقته وتكوينه كالكبد والطحال يكون حلالا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحلت لنا ميتتان حلالان: ودمان حلالان الكبد والطحال، والسمك والجراد "(1).
وكان تحريم الدم لأنه ضار، إذ إنه يعسر هضمه، وسريع التعفن، ويحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن تنقيته من هذه الجراثيم كاللبن إذ يغلى.
وإن دم الحيوان السليم قد ينقل إلى الإنسان محفوظا مصونا من غير أن يتعرض للهواء فيزيدة قوة أو يعوضه عما فقده، ولكنه لَا يمكن أن يكون غذاء يتناول بالفم، ويمر على الجهاز الهضمي، إذ إنه لَا يكون قابلا للتمثيل في الجسم فوق ما يسري إليه من جراثيم تفسده وأن النفس الفطرية تعافه.
(1) رواه ابن ماجه: الأطعمة - الكبد والطحال (3314)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (5690) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَأمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطحَالُ ".
ولحم الخنزير: حرام لأنه مستقذر، تعافه الفطرة كالميتة والدم، إذ إنه يلازم القاذورات ويتغذي منها، ولهذا المعنى حرمت البهائم الجلالة التي تأكل الجلة وتتغذى بها، فقد روي عن ابن عمر أنه قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها "(1) وهذا النهي للكراهة عند بعض الأئمة، وللتحريم عند الآخرين، وقالوا: لَا تؤكل حتى تحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا، ولا يرى بأكلها بعد ذلك بأسا.
وإن المقصد من ذلك ألا يأكل المؤمن إلا طيبا لَا خبث فيه.
وإن كون لحم الخنزير ضارا فهو أمر قد قرره الطب، فلحمه يولد كثيرا من الديدان، كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية التي تجيء إليه من أكل الجرذان الميتة، وإنه عَسِر الهضم لَا تكاد النفس تستسيغه، والجهاز الهضمي لَا يهضمه، وإن الذين يستطيبونه قد فسدت أذواقهم، والعادة هي التي سهلت استساغته، وكثير من المستقذرات تسهل العادة تناولها، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، وقد صدق فيه الوصف، فهو ضار ضررا بليغا، ومستقذر استقذارا شديدا مهما يقل فيه الذين فسدت أذواقهم. .
(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الإهلال: هو رفع الصوت، وأصله رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت لأمر يدعو إلى رفعه، ومنه أهلَّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية والدعاء في كل مكان يناسب ذلك، وعند البيت الحرام، والإهلال لغير الله عند الذبح أن يذبحوا باسم صنم من الأصنام، وإن ذلك فيه عبادة لغير الله تعالى، فنهى عن أكل ما يذبح لذلك منعا لهذا العمل الذي هو شرك بالله تعالى، وكان النهي عن الأكل لأنه ذريعة إلى المنع المطلق. والتحريم في هذا ليس لذات الحيوان، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله تعالى، وفسوق عن أمره سبحانه وتعالى.
(1) رواه الترمذي: الأطعمة - في أكل لحوم الجلالة وألبانها (1824)، وأبو داود: الأطعمة (3785)، وابن ماجه: الذبائح - النهي عن لحوم الجلالة (3189)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولذلك كان تحريم الميتة والدم والخنزير، لأنها رجس، وهذا حرِّم لأنه فسق وإشراك، وهذا مؤدى قوله تعالى:(قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ).
وإن الذبيحة إنما تحرم إذا كان قد ذكر غير اسم الله تعالى عليها، وإنها حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها، ولكن إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها، ولم يذكر غيره، وكان الذابح مسلما، وكان الذبح في مكان لَا يبدو أن فيه تقربا لغير الله تعالى أتكون الذبيحة حراما أم لَا تكون؟.
قال بعض الفقهاء: لَا تحل لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .)، فإذا لم يذكر اسم الله، فذلك من مواضع النهي.
وقال آخرون: إن موضع التحريم هو فيما أهل لغير الله به، والآخر على أصل الحل، ويدل على ذلك القصر في التحريم في قوله تعالى: (قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
…
). وبقصر النهي في قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .)، على حال ما إذا ذكر غيره وما كان قبل النهي وبعده يزكي تفسيره بذلك، وسنبين ذلك عند الكلام في هذه الآية إن شاء الله تعالى.
(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ).
الْمُنْخَنِقَةُ: هي التي تموت بخنق إما باختناقها من وثاقها، أو يخنقها غيرها ويتركها حتى تموت.
والموقوذة: هي التي وقذت بحجر، أو تضرب بعصا حتى تموت من غير تذكية شرعية، فالوقذ الرمي، والضرب الشديد. . وما يرمى بالسهم، فيموت أيعد موقوذا أم لَا يعد؟ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رميت بالمعراض (السهم الذي قد يصيب بعرضه لَا بحده) فخزق فكُلْهُ وإن أصابه بعرضه فلا تأكله، فإنه
وقيذ " (1) ومؤدى الحديث أن السهم إن اخترق الجسم وأسال الدم يؤكل الضروب وإلا فإنه لَا يؤكل، فالعبرة إذن بإسالة الدم، فإن أساله أكله، وإلا فلا يؤكل.
والمتردية: هي التي تموت بسبب سقوطها من مكان مرتفع في مكان منخفض، كالتي تسقط من جبل في هاوية، أو تسقط في بئر فتموت.
والنطيحة: هي الحيوان الذي يموت من نطح أو اصطدام، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة بمعنى مذبوحة، وقد كان العرب يأكلون كل هذه الأصناف الأربعة، فجاء الإسلام وحرمها، والحقيقة أنها من نوع الميتة؛ لأنها تموت ودمها محبوس فيها لم يخرج منها، ويصح أن تدخل في عموم الميتة؛ ولذلك جاء الاقتصار على ذكر الميتة في قوله تعالى:
(قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمهُ. . .)، وهي بلا شك داخلة في عموم كلمة الميتة.
وما أكل السبع: المراد به ما افترسه ذو ناب وأظفار من سباع الحيوان كالأسد والنمر والذئب والثعلب والضبع، وغيرها من الحيوان، فما افترسه حتى مات يكون حراما سواء أكل منه أم لم يأكل، وذلك لأنه افترسه ليأكله، فأطلق اسم السبب وأريد المسبب، ولإطلاق السبب هنا معنى، ذلك أنه افترسه ليأكله، فيخرج بذلك الكلب المعلَّم الذي أطلق ليصطاد لصاحبه وسمى عند إطلاقه، فهو يفترس لا ليأكل، بل لمن أطلقه، وقالوا: إنه إذا افترسه ليأكله هو بأن أكل أكثره فإنه لا يحل الباقي لمن أطلقه.
وقد استثنى من المحرمات السابقة حال التذكية الشرعية، وهي الذبح أو ما يشبهه مما يريق الدم، ويصفيه، ولذا قال تعالى:(إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) أي أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما افترسه السبع إذا أُدرك وهو حي، وذُكي التذكية
(1) رواه البخاري: الذبائح والصيد - صيد المعراض (5476). والوقيذ والموقوذ: ما يقتل بغير أداة حادة. راجع أطرافه في البخاري ومسلم، من رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه.
الشرعية وأريق دمه، فإنه يكون حلالا. . بسبب هذه التذكية، فهو وما ذُكي ابتداء وهو قوي قادر - على سواء (1)؛ لأن التذكية الشرعية وهو حي هي سبب الحل، وقد تحقق في الحالين.
(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) النصب: اسم مفرد لحجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح، ويشرح اللحم ويوضع عليه، وكانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، أو ليتقربوا عن طريقها، فنهى الله تعالى عن أكل ما يذبح على هذه الحجارة قطعا لدابر الوثنية والأفعال التي تؤدي إليها، وتحريم هذا هو من قبيل تحريم ما أهل لغير الله تعالى، فالمعنى فيهما واحد، والتحريم ليس لذات الشيء المذبوح، ولكن لما اقترن بالذبح من آثام وفسوق عن أمر الله تعالى.
والفعل الذي حرمه الإسلام من غير أن يتعرض لتحريم اللحم هو ما جاء في قوله تعالى:
(وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) فقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه فسق، والأزلام جمع زلم، وهو القدح من أقداح الميسر، وهي عشرة أقداح، منها ثلاثة غفل ليس فيها ما يدل على مقدار يؤخذ، وسبعة فيها مقادير تبين مقاديرها، فإذا عقر الجزور (2)، قسم على مقدار ما يشتمل عليه من أجزاء ثم ضربت الأقداح، فمن يخرج له منها قدح يأخذ بمقدار ما يشتمل عليه، وبذلك يطلب كل واحد نصيبه من الجزور بهذا القمار، وقد وصف الله تعالى ذلك الفعل بأنه فسق، أي خروج على المبادئ الإسلامية، والتحريم منصب على الفعل، وليس منصبا على اللحم، وعلى ذلك إذا كانت الذبيحة قد ذكيت بالطريقة الإسلامية، وذكر اسم الله تعالى عليها، فإنها تكون حلالا، والتقسيم بهذه الطريقة يكون حراما.
(1) وهو قوي قادر: أي الحيوان قبل أن يصيبه ما أصابه، ما دام ذكي التذكية الشرعية قبل موته.
(2)
الجزور: البعير. ذكرا كان أو أنثى. الصحاح (جزر).
(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم المعرف بأل التي هي للحضور، هو يوم عرفة؛ ذلك أن الآية كلها نزلت في يوم عرفة، وفيها بيان المحرمات، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقب بيان هذه المحرمات بيانا قاطعا بين حياة جاهلية فيها أخباث، وحياة إسلامية نظيفة نزيهة ببيان قوة الإسلام، وعلوه في الأرض، وإذلال الشرك، وذهاب سطوته في أرض العرب، ومعنى قوله تعالى:(يَئِسَ الَّذِينَ كَفَروا مِن دِينِكُمْ) أنهم يئسوا من القضاء عليه، وتغيير حقائقه، وسيطرة الشرك على المؤمنين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة، وهو يعرض الحقائق الإسلامية، ويشهد الله تعالى على تبليغها:" إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه "(1) ويأس الشيطان هو يأس أوليائه من المشركين من أن يتغلبوا على ذلك الدِّين المكين الثابت، وإذا كان المشركون قد يئسوا من السيطرة، ووهنت قواهم، فإنه لَا تجوز مسايرتهم في أي أمر من الأمور؛ ولذا قال سبحانه (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) والخشية: خوف يشوبه تعظيم لما يخشى منه، والمعنى لَا تجعلوا للكافرين مكانا للهيبة أو الخوف أو التعظيم، فقد ضعفوا واستكانوا، وإنما الخشية كلها لله الذي نصركم وأنتم أذلة، وأعزكم وقد كنتم مستضعفين في الأرض، وخشية الله توجب طاعته، والأخذ بكتابه وسنة نبيه، وأن تباعدوا بينكم وبين ما كان في الجاهلية، وما عليه عادات الجاهليين، وأن تأخذوا بمبادئ الإسلام وحده، وأنه قد كمل الدين بيانا وعزة وسلطانا؛ ولذا قال تعالى:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذه الآية آخر آيات القرآن الكريم نزولا، وقد نزلت في عرفة في حجة
(1) روى الترمذي: الفتن - دماؤكم وأموالكم (2159) عَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ لِلنَّاسِ: " أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ " قَالَ أبُو عِيسَى: وَفِي الْبَاب عَنْ أبِي بكرَةَ وَابْنِ عَبَّاس وَجَابِر وَحِذْيَم بْنِ عَمْرو السعْدِيَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ورواه ابن ماجه: المناسك - الخطبة يوم النحر (3055) عن عمرو بن الأحوص بنحوه.
الوداع، وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضهُ اللَّهُ تعالى إليه، وفي هذا النص الكريم ذكر حقائق ثلاثا وهي: إكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضا بالإسلام دينا.
ومعنى أكملت دينكم: أكملت بيان ما آمركم به وما أنهاكم عنه، وبينت ما يحل لكم وما يحرم عليكم، وأكملت الكتاب الذي تضمن شرعي، والذي هو حجتي عليكم، والحجة لكم في أمر دينكم، وأوضحت فيه الأدلة التي ترشدكم إلى تعرف ما تكون فيه حاجتكم، وما تعرفون منه بالاستنباط والتفكير مما تحتاجون إلى معرفته من أمر دينكم، وخلاصة القول: إن إكمال الدين هو إكمال بيانه. ومعنى إتمام النعمة: هو إتمام النصر، وإتمام السلطان، وذلك بفتح مكة، والسلطان في العرب، وإزالة دولة الأوثان، وجعل الكلمة العليا هي كلمة التوحيد.
ومعنى ورضيت لكم الإسلام دينا: رضيت الاستسلام لأوامري والانقياد لما شرعت لكم من أحكام، وما يجب عليكم التزامه من فرائض ومعالم وحدود (دِينًا): أي أمرا تدينون به وتطيعونه ولا تخرجون عنه، وهذا ما قرره ابن جرير، ويصح أن نقول: إن المعنى رضيت لكم التسليم بكل ما اشتمل عليه القرآن وما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم دينا تطيعونني بمقتضاه، والمعنيان متقاربان، وان اختلف التعبير، وعبر هنا بكلمة (رضيت) مع أن الأمر هنا أمر إيجاب وتكليف، وذلك للإشارة إلى أن المؤمن الذي يبلغ درجة المحبة لله تعالى يطيعه؛ لأن فيه مرضاته من غير نظر إلى التكليف الذي يتضمن الثواب والعقاب.
وقد جاء في تفسير ابن جرير الطبري: " فإن قال قائل: أو ما كان الله تعالى راضيا الإسلام لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؛ قيل لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جل شأنه لم يزل يصرف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه، درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجات مراتبه، ثم قال حين أنزل هذه
الآية: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) بالصفة التي بها اليوم، والحال التي أنتم عليها منه اليوم دينا، فالزموه ولا تفارقوه، أي هذا الرضا كان ذكره أنسب عند الكمال.
وإن كان مصاحبا للشرع في مواضع نزوله.
وقد يسأل سائل لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) في وسط آية محرمات الأطعمة، ومحللاتها كما سيجيء، ونقول إن ذلك تنبيه إلى يوم نزول هذه الآيات، باعتبارها آخر القرآن نزولا، فكان التنبيه إلى اليوم وهو يوم عرفات؛ لأنه ذكرى الكمال، وذكره في جملة معترضة أدعى إلى التنبيه والتذكير.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التحريمات السابقة كلها في حال الاختيار، أما في حال الاضطرار، بأن يكون الشخص مضطرا للأكل ليدفع عن نفسه الموت جوعا، فإنه في هذه الحال يجوز الأكل.
والمخمصة: المجاعة التي تورث ضمور البطن، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم حال الضرورة التي تبيح بعض هذه المحرمات بأن يجيء الصبوح والغبوق، ولا يجد ما يأكله، أي يجيء اليوم كله، ولا يجد طعاما يأكله (1)، وشرط رفع الإثم عن تناول المحرم للضرورة ألا يتجاوز حد الضرورة؛ لذلك قال تعالى (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي مائل إليه راغب فيه يتجاوز حد الضرورة، وهذا يتلاقى مع قوله تعالى في سورة البقرة:(. . . فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. . .).
ومعنى النص الكريم: فمن اضطر إلى تناول المحرم، وهو في حال جوع شديد وهو غير طالب لهذا المحرم، ولا يتجاوز حد الضرورة، فإن الله تعالى يرفع عنه الإثم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم، فهو رحيم في جاده؛ ولذا جعل الضرورة مسوغه للمحذور، وهو غفور يغفر الذنوب ويفتح باب التوبة إحباده.
اللهم ارحمنا واغفر لنا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
* * *
(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث.
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
* * *
كانت الآية السابقة في بيان المحرمات، وبعضها كانت العرب تستبيحه، فالخنزير كان مستباحا عند العرب، وكذلك أنواع الحيوان الذي لَا يذكى تذكية تهرق دمه، وتنقي اللحم والعظم من أوضاره، فكان ذلك التحريم دافعا لأن يتأثم بعض المسلمين، ويسألوا عن المحلل من الأطعمة واللحوم، بعد ذكر المحرم، وقد سألوا عن ذلك، كما يدل النص الكريم
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ).
يتضمن السؤال معنى القول، كأن تأويل الكلام هكذا: يسألونك قائلين: ماذا أحل لنا؟ وكان التفاتا من الحاضر إلى الغائب للتنبيه ولتوجيه الذهن؛ ولأن في السياق حكاية عنهم، كما يقال: أقسم فلان ليفعلن كذا، فتضمن الحكاية جعل للتحدث بضمير الغائب موضعا، ولو كان الحديث بضمير الحاضر لكان له موضع أيضا، ولكن نسق القرآن أبلغ وأقوم، وأدعى للتنبيه والالتفات، وقوله تعالى:
(مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) يصح أن نعتبر ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ خبره جملة أحل لهم، وقد اختار ذلك الزمخشري في الكشاف، فقال:" و " ماذا " مبتدأ، و " أحل لهم " خبره، كقولك أي شيء أحل لهم " وموضوع السؤال هو ما أحل لهم من
مطاعم؛ لأن الآية السابقة كانت في محرمات المطاعم، فكان السؤال عما أحل منها بعد أن بين ما حرم منها من خبائث، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن طريق ْالتحليل هو التذكية الشرعية، ولذا كان الجواب في المطاعم الحلال، وبعض طرق التذكية، فقال تعالى:
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) أمر الله تعالى نبيه أن يتولى الجواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ للرسالة، وهو المبين لهم والمرشد، وهو المرجع، ومما يتفق مع مقام الرسالة أن يكون هو المجيب، ولكن إذا كان اتجاه الناس إلى ربهم والضراعة تكون الإجابة منه سبحانه من غير توسط أحد؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. . .)، أمر الله تعالى أن يجيب هو سؤالهم الخاص بالحلال والحرام، لأنه يتعلق ببيان رسالته التي بعث بها، وعمله الذي يتولاه، وهو بيان الشرع للناس، والطيبات التي أحلت - هي غير المحرمات التي حرمت، وما تستطيبه النفوس، ولا تستقذره وتعافه، وبعض الفقهاء ومنهم المالكية فسروا الطيبات بالحلال الذي لم يحرم في نص من كتاب أو سنة، من غير نظر إلى أن الناس يستطيبونه أو لا يستطيبونه، وبعض آخر من الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي قالوا: إن الطيب هو الذي تستطيبه النفوس ولا تستقذره، ولم يثبت تحريمه بنص، وعلو، ذلك لا يحل ما نص على تحريمه، لأنه خبيث قذر جاء النص بتحريمه، ولا يحل أيضا المستقذر الذي تعافه النفوس، كالخنافس وشبهها من هوام الأرض، ومثلها كل حيوان أو طعام يثبت ضرره بالإنسان طبيا أو يستقذره طبعيا، لأن هذا الدين دين الفطرة، فما تعافه النفوس المستقيمة لَا يكون حلالا، وعندي أن هذا هو المعنى المستقيم.
وقد بين سبحانه فيما أحل صيد الكلب ونحوه من الفهود والطيور؛ لأن ذلك كان من مواضع سؤالهم، فقال:
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وبعض المفسرين قال: إن في الكلام محذوفا دل عليه السياق، وهو كلمة " صيد "، والمعنى أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح.
وبعض العلماء لَا يقدر محذوفا، بل يجعل الخبر هو الجملة الطلبية:(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ويكون قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) حالا بعد حال، وصاحب الحال، ضمير الخطاب في قوله:(وَمَا عَلَّمْتُم) حال كونكم (مُكَلِّبِينَ) معلمين، وتقدير الكلام يكون هكذا. . وأحل لكم ما أمسكن لكم من صيد الجوارح؛ وذلك لأن الخبر محل الفائدة، ودخلت الفاء الخبر؛ لأن الجملة طلبية، ولأن ما موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول، مثل قوله تعالى:(مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، لتضمن الموصول أحيانا معنى الشرط.
والتكليب تعليم الكلاب - ومما يشبهها - الصيد، فهو اسم فاعل اشتق من الكلب، أو أخذ من الكلب باعتبار أن الكلب طيع ألوف أقرب الحيوان إلى تعلم الصيد، وقد قال تعالى ما يفيد تعليم كل حيوان له مثل خواص الكلب في الطاعة والمهارة، والاستعداد للتعلم، فقال تعالى:(مِّنَ الْجَوَارِحِ) وهذا يعم كل حيوان يمكن أن يعلم الصيد، والجارح معناه الكاسب، أي الحيوانات التي من شأنها أن تكسب صيدا كما يكسب الإنسان، أو معناه: الذي يخدش الجسم بالجروح، فإن ذلك لَا يستغني عنه الصيد، إذ إنه لَا يمكنه أن يسيطر على الحيوان غالبا إلا إذا جرحه بانيابه، وهذا هو الذي نختاره.
وقوله تعالى: (تُعَلِّمونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ) حال على اعتبار أن من مبتدأ، خبره (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، وهي حال بعد حال كما أشرنا، وذلك الذي اخترناه، وعلى تقدير محذوف، والمعنى: صيد ما علمتم من الجوارح، تكون جملة تعلمونهن مما علمكم مستأنفة.
ومعنى هذه الجملة السامية: (تُعَلِّمونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُم اللَّه) أي أنكم تعلمونهن مما علمكم الله تعالى بإلهامكم تعليمهن والانتفاع بهن في الصيد، ومن للتبعيض، أي تعلمونهن جزءا مما أودعه الله عقولكم، أي تعلمونهن وسائل التحايل، والسبل المختلفة للاصطياد، وقد أوح الله غرائزهم القابلية للتعلم، وما أودعها إلا لتنتفعوا بها في التعليم. وقد اتفق العلماء على أن الصيد بالكلاب يجوز، ويحل ما تمسكه، وقال الجمهور: إن مثل الكلاب كل حيوان يصنع صنيع الكلب. وكل طير كذلك؛ لأن قوله تعالى (مِّنَ الْجَوَارِحِ) يعم كل حيوان يصنع صنيع الكلب، وكان التعبير بمكلبين؛ لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا لذلك، كما أشرنا من قبل، وقال بعض الفقهاء: إنه لَا يحل إلا صيد الكلاب، والأول أظهر وأوضح.
وقد استنبط الإمام مالك من هذا النص أن الكلاب طاهرة، وليست نجسة، وقال: كيف يحل صيدها وينجس لحمها؛ ورد بهذه الآية الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب الطاهر "(1) والجمهور على أن حل صيده لَا يستوجب طهارته.
والأمر في قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ) للإباحة، ومعنى قوله تعالى:(أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، أي أمسكنه محبوسا عليكم، ولأجلكم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، وإن أمسك عليك وأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه، فكله "(2)، فإن أخذ الكلب ذكاة.
(1) رواه النسائي: المياه - تعفير الإناء بالتراب (337) وبنحوه رواه البخاري: الوضوء (167) ومسلم: الطهارة (418) كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بالفاظ مقاربة.
(2)
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ ". رواه مسلم: الصيد والذبائح - الصيد بالكلاب العلمة (1929).
وعلى هذا قال الشافعي وأحمد: إذا أكل منه الكلب لَا يحل؛ لأنه لم يمسك على من أرسله، إنما أمسكه على نفسه، وقال الإمام مالك: ما دام قد عاد به ولو مأكولا منه، فقد أمسكه على صاحبه، وقد روي ذلك عن بعض الصحابة، كعبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي، وقد وردت أحاديث تفيد أنه يأكل منه صاحبه، وإن أكل الكلب منه.
والحنفية فصلوا تفصيلا حسنا في تفسير قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمُ) فقالوا: إن عاد بأكثره فقد أمسك على صاحبه، وإن عاد بأقله، فقد أمسك على نفسه، وبذلك يقع النهي عن الأكل الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان تفصيلهم تفسيرا لقوله تعالى:(أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ).
والأحاديث الواردة في الباب تشترط كلها أن يذكر اسم الله تعالى عند الإرسال ليقوم الصيد مقام الذبح، وهذا هو قوله تعالى:(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَيْه وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
ثبت من الأحاديث - وقد روينا بعضها - أن ذكر اسم الله تعالى يكون عند الإرسال، لَا عند الأكل، وإن التسمية عند الإرسال تقوم مقام التسمية عند الذبح، وإن الإرسال مع التسمية على من أرسله يكون كالتذكية الشرعية إلا إذا أدرك حيا، فإنه لَا بد من التذكية؛ لأن قيام التسمية والإرسال مقام التذكية لتعذرها، إذا جيء به حيا فإن التذكية ممكنة فلا يغني عنها ما يقوم مقامها، عند عدم إمكانها، والواو في العطف لَا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وذكرت آخرا لأنها من تقوى الله تعالى، فكان اقتراتها بالأمر العام بالتقوى من التنسيق البياني الحكيم، وهو الذي يتناسب مع الذكر الحكيم.
واختلف العلماء في التسمية عند الإرسال كاختلافهم في وجوب التسمية عند الذبح، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر هنا على الوجوب، ولقوله تعالى في مقام آخر:(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .). وقال الشافعي: إنها مستحبة هنا، وقريب من ذلك قال الحنفية: إلا أن يكون الترك