الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه هو خوف الله تعالى، وفي ذلك إشعار لأخيه الذي يهم بقتله بأن يقف موقفه ويخاف الله تعالى الذي يقبل الطاعات ويرد المعاصي، وهو عليم بكل ما في الصدور، وهو شهيد على حركات الجوارح والأعضاء والقلوب، لَا يخفى عليه شيء في الأرض، وفي النص الكريم إشارات بيانية، يحسن التنبيه إليها: الأولى - تأكيد خوف الله بذكر (إنَّ) المؤكدة للقول.
الثانية - ذكر الله تعالى جل جلاله بلفظ الجلالة، للإشعار بأنه هو وحده، صاحب السلطان على نفسه، ولا سلطان سواه فلا يدفعه غضب أو حب انتقام إلى مخالفة أمره.
الثالثة - وصف الله جل جلاله بأنه رب العالمين، أي منشئ الكون ومن فيه، وهو يتعهدهم بالنماء والتغذية والتربية، فقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها هدم لما بناه الله تعالى، وتخريب في الأرض، ونشر للفساد.
* * *
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ
(29)
* * *
تبوء هنا معناها: ترجع ويلازمك الإثم ملازمة من يقيم في مكان ويبوء إليه، وهنا نتكلم عن معنى " إثمي وإثمك " روي عن ابن عباس أن المعنى إثمي أي إثم قتلي، فهي تشبه إضافة الفعل إلى المفعول، أي الإثم الذي ترتكبه في شأني بقتلك إياي، وإثمك الأصلي الذي عوق صدقتك عن أن تقبل، فترتكب إثمين، وتضيف إلى ذنبك الأصلي ذنبا آخر، فلا تكون قد خلعت نفسك من المعاصي، بل أركست نفسك فيها، وزدتها.
وهذا الذي نختاره وهو معنى مستقيم، وروي عن الحسن أن المعنى أن يحمل يوم القيامة ما عسى أن يكون التقي قد ارتكبه من إثم، فوق آثامه الأصلية.
والزمخشري يقول في تفسير هذه الآية: (إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ).
أن تحتمل إثم قتلي لك لو قتلتك وإثم قتلك لي ثم يقول (المراد بمثل إثمي) وروى ذلك عن مجاهد، وإني أرى في هذا تكلفا، والواضح هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه.
وهنا قد يسأل سائل أكان من التقوى أن يريد أن يتحمل غيره الأوزار؟ ونقول: إن ذلك بيان للنتيجة لامتناعه عن مقاومة أخيه، فهو إذ أراد الامتناع عن بسط يد الأذى لأخيه فكأنه أراد النتيجة المحتومة لذلك، وهي أن يبوء بإثم نفسه وإثمه، فإن إرادة السبب كأنها إرادة للمسبب.
وقد ختم كلامه السمح بتبصير أخيه بالنتيجة النهائية، وهي أن يكون من أصحاب النار الملازمين لها الذين لَا يخرجون منها يوم القيامة، ثم يبصره بأن ذلك جزاء الظالمين، وأنه في فعلته التي يهم بفعلها، يكون ظالما داخلا في زمرة الظالمين. . اللهم جنبنا الظلم وأهله، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
* * *
الآيات المتلوة استمرار في بيان قصة ابني آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وإن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشر معتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشر في قلبه، وقد كان أخوه الخيِّر يرجو
أن تثور في قلب أخيه الشرير نوازع الرحمة والمودة والأخوة الواصلة، ولا تقطعها جفوة الحسد العارضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرهما ودعوا الشر "(1).
ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى:
(1) روى ابن جرير عن الْحسن مُرْسَلًا، وعن بكر بن عبد اللَّه مُرْسَلًا قالَ النبِي صلى الله عليه وسلم: " إِن اللَّهَ ضَرَبَ لكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا وَدَعُوا شَرهمَا! أورده السيوطي في الجاء ج 2، ص 258 (5379).
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) هذا النص الكريم يدل على أمرين: أحدهما - أن قابيل الذي قتل أخاه، ولو أنه أكد عَزْمَتَه على الاعتداء بقوله:" لأقتلنك " كانت نفسه يتردد فيها عاملان: الأول عامل الود والرحم الواصلة، والثاني عامل الحسد والضغن، وثانيهما - أن أخاه فيما ساقه من قول كان يريد أن ينمي في نفسه روح المودة والأخوة لتنتصر على الأخرى، ولذلك ما تحرك لمقاومته، بل تحرك لمراجعته ليثوب إلى نفسه.
ومعنى كلمة " طوَّعت " قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة، وقد فسر مجاهد " طوَّعت " شجعت، وفسرها بعض التابعين بسقلت ووسَّعت، وبعضهم بزيَّنت وحسنت، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر، بين الإقدام على الجريمة، والإحجام عنها، حتى انتصرت، وقرأ الحسن بدل " طوعت "" طاوعت " وهذه الصيغة تدل على المشاركة، وهو يدل على معنى المقاومة، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال:
" إن هذه الكلمة (طوَّعت) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد، الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها
ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام يفكر في كل كلمة من أخيه الحكيم، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، ويدعم ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة، فيكر الحسد من نفسه الأمارة بالسوء على كل صارف من صوارف نفسه اللوامة، فلا يزالان يتنازعان، ويتجاذبان حتى يغلب الحسد ويجذبه إلى طاعته ".
وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد، فقد عبر عن المقتول بقوله:(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ). والمعنى: أن الأخوة، والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل، وعبر عن الجريمة بقوله فقتله، مما يدل على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود، وهو إزهاق النفس التي حرم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين.
والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول، ومن حيث ذات الفعل، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود، ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير، وأدق الألفاظ، وهو سر الإعجاز، وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ.
(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها، والتعبير بأصبح هيأ لها المقام في الكلام " لأن " أصبح " تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها، وأدرك في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل.
والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا أربد بالمعاصي، وطغى عليه الشر، حتى غلبه، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه، وامتلاء قلبه
بالحسد، وأحس بأنه خسر أخاه الطيب الطاهر العفيف، وأحس بغضب الله تعالى، وذلك هو الخسران المبين، وهكذا صار ممن غلبت عليه شقوته، وامتلأت نفسه بالحسرة على سوء ما فعل.
وهنا إشارة بيانية، وهي في التعبير بقوله تعالى:(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فإن مؤداه أنه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران، وأصبحوا، ولا منجاة لهم، ولا بقاء، لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية، بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم.
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَيْحَثُ فِى الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ) هذا الكلام يتضمن معاني سبقته، ولم يذكرها القرآن الكريم، لأنها تفهم من المعنى والسياق من غير حاجة إلى الذكر، ولا يدرك المعنى ولا يستقيم إلا بتقديرها، وذلك أن القاتل بعد أن ارتكب الجريمة، وأحس بالخسارة الشديدة التي نالته، لم يرد أن يترك أخاه تنهشه السباع، أو تنقره جوارح الطيور، ولا أن يترك جسمه ملقى، وألهم بالفطرة أنه لَا بد من مداراة جسمه، وستره، وإبعاده عن الأنظار، لأنه بعد موته صار جسمه كله سوءة يسوء النظر إليها، ولا تألف الطباع السليمة رؤيته، فالمراد بالسوءة الجسم كله بعد موته؛ لأنه يسوء النظر، وخصوصا بعد أن تتحول حاله ويتعفن، وقد استيقظت الأخوة في نفسه، بعد أن خبت أمدا ارتكب فيه جريمته.
اتجه الأخ القاتل لمواراة جثة أخيه أي سترها، وقد أراد الله تعالى أن يعلمه ذلك، فبعث غرابا، ومعنى بعثه أنه أفهمه أن يفعل ذلك، وقد رأى ذلك الغراب الملهم غرابا آخر ميتا، وأراد أن يستره عن الأنظار، فأخذ يبحث في أرض أي يثيرها ويحفرها برجليه، حتى أوجد حفرة تسع الغراب الميت، فوضعه فيها، فكان هذا إعلاما للقاتل بالطريق التي يواري بها جثة أخيه.
وقد فهم بعض المفسرين من الآية أنه لم يكن ثمة غراب قد مات، أو قتله صاحبه، ولكنه رأى الغراب يبحث في الأرض عن شيء من الأشياء ليدفنه؛ لأن
من عادة الغربان حفر الأرض لدفن الأشياء، فلما رأى قاتل أخيه الغراب يحفر الأرض اهتدى إلى حفر الحفرة التي ألقى فيها جثة أخيه القتيل.
والكثيرون من المفسرين على أن غرابين تناقرا فمات أحدهما، فدفنه الآخر بحفر حفرة في الأرض.
والحق أن الآية الكريمة نصت على أن الغراب قد أخذ يبحث في الأرض، حتى حفر حفرة، دفن فيها شحيئا أو طيرا ميتا، ولم تتعرض لكون المدفون طيرا أو غير طير، ولا لكون الطير مات بقتل الدافن، أو مات بسبب آخر، والآية الكريمة بينة واضحة المقصد من غير فرض واحد من هذه الفروض بعينه، وما دامت الأخبار التي لَا مناص من قبولها لصدقها غير موجودة فليس لنا أن نفرض واحدا من هذه الفروض بعينه، والفرض الواحد الذي يقتضيه بيان الغرض والمغزى هو أن نفرض أن الغراب أخذ يحفر في الأرض، حتى أتم حفرة وضع فيها شيئا، فعلم القاتل الجهول أن ذلك هو الطريق لدفن أخيه.
وأصل كلمة " يبحث " معناها كشف أو دق الأرض أو حفرها، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:" البحث " الكشف والطلب فيقال بحثت عن الأمر، وبحثت كذا، قال تعالى:
* * *
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
…
(31)
* * *
وقيل بحَثَت الناقة الأرض بأرجلها في السير إذا شددت الوطء تشبيها بذلك.
والمعنى: أن الغراب أخذ يدق بمنقاره مثيرا للأرض، حتى حفر حفرة فيها، ثمِ دفن ما شاء أن يدفنه، وأنه دأب في ذلك وقتا طويلا بدليل التعبير بقوله (ييْحَثُ) بالمضارع بدل الماضي، لأن في التعبير بالمضارع إشارة إلى حال استمرت لا إلى واقعة وقعت فقط، فالتعبير بالمضارع عن أمر مضى لبيان أن الفعل مكث وقتا وكان مجال استمرار،
وفى كل هذه الأمور التي كانت بعد قتل أخيه ما يثير العبرة، وإذا كان الغراب قد أراه كيف يواري سوءة أخيه، فإن ضميره قد استيقظ، وأصبح لا يستطيع كيف يواري سوءة فعله التي فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة؛ ولذلك صرح القرآن بأنه اعتراه الندم، ولكن في غير مندم؛ لأن الجريمة قد وقعت، ولا منجاة منها؛ ولذلك قال سبحانه:(قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).
أخذ القاتل تعتريه الحسرة بعد الفعلة التي فعلها، واكتسب بها ذلك الجرم الشديد البليغ الأثر في هذا الوجود، وقد كانت حسرته للفعل الذي ارتكبه، للعجز الذي لحقه، ولصغر نفسه أمام الطائر، وهو الذي أبى واستكبر؛ لأن الله قبل قربان أخيه، ولم يقبل قربانه، وطغى على أخيه وتجبر.
والويلة والويل البلية والفضيحة، والألف في قوله تعالى:(يَا وَيْلَتَى)، هي مقلوب ياء المتكلم، مثل الألف في قوله تعالى:(. . . يَا أَسَفَى عَلَى يُوسفَ. . .). والمعنى يا " يا وليتى " أي يا فضيحتي وبليتي أقبلي فهذا وقتك، لأنى قد نزلت بي أسبابك، وهذا النداء يستعمل للتحسر وإظهار الألم النفسي، وإن هذه البلية والفضيحة اللتين نزلتا به، ويتحسر منهما، ويناديهما، وهما بين جنبيه انبعثا من قلبه، ومن فعلته التي فعلها، ومن جهله وغبائه، وعدم التفاته إلى ما يجب عليه بالنسبة لجثمان أخيه الذي كان سببا في جعله جثة هامدة، بعد أن كان لسانا نقيا وقلبا تقيا، وأخا مباركا. وقد صوَّر جهله بهذا الاستفهام التقريري الذي يصور جهله، وغفلته وحسرته، وقد حكاه الله تعالى عنه بقوله:(أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).
والمعنى: أنه يقرر عجزه عن أن يكون مثل هذا الغراب، ولكنه قال ذلك بصيغة الاستفهام للتقرير والتثبيت وللحسرة على ما وقع منه، وللأسى والألم، ولذلك عبر باللفظ (أَخِي) الذي كان يوجب المودة والمحبة بدل الحسد، وما أدى إليه من قتله، وشطر لحمه، وهو جزء أبيه، فقال سوءة أخي، وحسرته ليست
للعجز، عن مواراتها التراب وغفلته، ولكن لذلك ولأصل الجريمة بالذات، ولذلك كان التعبير بأخي، وإن هذه أولى درجات الندم، إذ إن أولى الدرجات فيه أن يحس بعظم الجريمة التي ارتكبها، وأثر الإثم الذي فعله، فقد فعل ما فعل بعد ترديد الفكرة مرتين، ولكنه ما إن فعل حتى رأى أثر الجريمة مجسما، وبذلك كانت الحسرة، ثم كان الندم، ولذلك قال سبحانه بعد ذلك:
(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) بعد أن رأى جثة أخيه بين يديه، وغفل عن أن يواريها، وأحس البلية التي وقع فيها من رؤية جثمان أخيه الطيب ملقى، وهو عرضة لسباع البهائم وسباع الطير تنهشه - أدرك مقدار الشر الذي ارتكبه، ومن المقررات العلمية أن أول إحساس بهول الجريمة أن يرى المجرم الفريسة التي افترسها، سواء أكان ذا قربى أم لم يكن ذا قربى، فما بالك إذا كان المقتول لم يرتكب إثما، بل فعل برا، ولم يكن منه شر وأذى، بل كان منه عظة وإرشاد. وإن ذوي الخبرة من رجال التحقيق يستخدمون رؤية المقتول سبيلا لاعتراف القاتل، فإنه بمجرد رؤيته تضطرب أعصابه، ويتخلى عنه ثباته وإصراره على الإنكار، وإن لم يصرح بالاعتراف، فإن قرائن الارتكاب تتكون من اضطراب ظاهر، ومن سرعة نبض، ومن اصفرار وجه، وذلك سبيل لأخذ الاعتراف الصريح، لأن صوت الفطرة المستنكر يستيقظ ويتحرك، ويظهر في حركات الجوارح، وخلجات اللسان، واضطراب الأعصاب، وسرعة النبض، ولذلك كانت الندامة التي اعترت أول حاسد وأول قاتل، وقد صار من النادمين، أي أنه دخل في زمرة النادمين، بعد أن كان في زمرة المترددين الحاقدين الحاسدين الباغين.
وإن هذا الندم لَا يعد غافرا للذنب، وإن كان أول طريق للتوبة هو الندم على الفعل الذي وقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" التوبة ندم "(1) كما روى الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله عنهما، وإنما كان ذلك الندم ليس من التوبة لأنه
(1)" الندم توبة "، رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3588)، وابن ماجه: الزهد - ذكر التوبة (4252).