المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

استجابة لصوت الفطرة، والتوبة المقبولة تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى، - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: استجابة لصوت الفطرة، والتوبة المقبولة تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى،

استجابة لصوت الفطرة، والتوبة المقبولة تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتكون في غير الاعتداء على العباد.

وبعد، فإن سبب هذه الجريمة الكبرى التي فتحت باب القتل والقتال هو الحسد، والحقد، وهما يأكان القلوب، ويشعلانها بالشر، كما تشعل النار الحطب، وإن ذلك الحسد كان في العبادة وقبولها، وذكر الله تعالى هذا النوع من الحسد ليبين أن الحسد كيفما كان الباعث عليه شر يؤدي إلى أقبح الشرور والآثام، وإذا كانت أول جريمة في البشرية سببها الحسد، فإن ذلك تنبيه إلى أن الباعث على أكثر جرائم هذا الوجود الإنساني هو الحسد المقيت، فالكفر بالنبيين، وخصوصا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كان سببه الحسد، وأكثر الجرائم بين الآحاد سببها الحسد، والحسد دائما يكون على فضل في المحسود، وعجز في الحاسد، وقَى الله العاملين شر الحاسدين.

* * *

ص: 2135

(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‌

(32)

* * *

يتنازع النفس الإنسانية نزوعان: نزوع الخير ونزوع الشر؛ ولذلك قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8).

وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ)، أي: أودع الله تعالى نفسه العلم بالخير والاتجاه إليه، وأودعها الشر والاتجاه إليه، فمن غلبت عليه نزعة الشر كان من الأشرار، ومن غلبت عليه نزعة الخير كان من الأخيار الأبرار، وكل ميسر لما خلق له، وما

ص: 2135

يتجه إليه، وقد أودعه الله سبحانه وتعالى مع ذلك عقلا به يميز الخير من الشر، والطيب من الخبيث، ويعتبر بماضيه وحاضره، وحاضر غيره وقابله. ولا بد من زواجر اجتماعية تنبه الضال، حتى لَا يستمر في ضلاله، وتوضح له بالعيان عقبى الشر، وثمرة الخير.

وهذان أخوان أحدهما غلب عليه الخير، حتى أنه لم يبسط يده ليقتل أخاه، مع أنه رأى بوادر الشر، والثاني غلبه الشر، حتى أنه ليستعديه الحسد على أخيه، فيقتله، ولقد ذكر الله تعالى في سابق الآيات ما كان من ابني آدم، ويذكر هنا ما سنه من نظم ليرى فيها النازعون إلى الشر ما يردعهم، فقال تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من جرَّاء هذه الجناية التي ارتكبها أحد ابني آدم، ودلالتها على تغلغل الشر في نفوس بعض الناس، واستعدادهم لأن تكون منهم الجريمة في كل وقت وحين، كان لابد من رادع زاجر مانع، وهو العقاب - فـ " أجل " هنا معناها جناية، وقد فسرها كذلك اللغويون في معاجمهم، فذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وذكره الأصفهاني في مفرداته، فقال: والأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية، وليس كل جناية أجلا، يقال فعلت كذا من أجله، قال تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)، أي من جراء ذلك، وقد فسر الأجل بالجناية أكثر المفسرين، وقد حقق الطبري الأصل اللغوي واستشهد بقول الشاعر:

وأهل ضباء صالح بينهم

قد احتربوا في عاجل أنا آجله (1)

يعني بقوله: أنا آجله أي أنا الجارُ عليهم ذلك والجاني.

وقد أشار الأصفهاني إلى معنى جدير بالنظر وترديده، وهو أن الأَجْل هو الجناية التي يخاف منها آجلا، أي تكون لها عواقب وخيمة على الأشخاص، أو على الجماعات، أي الجناية التي لَا تنتهي مغبتها بوقت وقوعها، بل يكون لها آثار

(1) قد استعمل الشاعر التورية فعبر بـ (آجله) في مقابل (عاجل)، وأراد المعنى البعيد.

ص: 2136

مؤجلة بعدها، إن لم تعالج تلك الآثار. وكذلك كانت جريمة أحد ابني آدم، فإنها جناية قد فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، وهي جناية دلت على مكنون النفس البشرية الذي استتر فيها من غلبة الحق والحسد على بعض النفوس، حتى طغت على كل عناصر الخير فيها، فهي جناية آجلها وخيم كحاضرها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تُقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل "(1).

و (من) هنا للسببية، أي سبب هذه الجناية كان ما شرعه الله تعالى من شريعة القصاص الخالدة الباقية لدفع الشر إلى يوم القيامة، وعبر عن السببية بـ " مِن "، لبيان الابتداء في الحكم، فمع كون من أجل ذلك دالة على السببية وتشير إلى ابتداء الحكم، وأنه مقترن بما وقع من جريمة كان لها آجل هو شر إن لم تقمع النفوس وتردع الأهواء التغلبة الطاغية.

وهنا معانٍ بيانية تجب الإشارة إليها:

أولها - في الكلمة السامية " كتبنا "، فانها تدل على تقرير العقاب، وتسجيله حتى لَا يقبل المحو، فإن الواجب الذي يكتب يكون مسجلا على القراطيس، ويبقى أثر الكتابة باقيا غير قابل للنسيان، وفيها إضافة الفرضية والكتابة إلى الله تعالت قدرته، وجل جلاله، وتقدست ذاته، وفي ذلك إشارة إلى عظمة المكتوب المفروض، وهو شريعة القصاص فهي شريعة عظيمة تمد المجتمع بحياة هادئة مطمئنة، إذ تحميه من أوضاره أن تتغلغل في كيانه ومن شراره من أن يتحكموا في خياره.

(1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (أي ابن مسعود) رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ ". متفق عليه؛ رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3336)، ومسلم: القسامة والمحاربين والديات والقتل - بيان إثم من سن القتل (1677).

ص: 2137

ثانيها - أن الله تعالى خص بني إسرائيل بالذكر مع أن القصاص شريعة عامة لم يخل منها دين من الأديان السماوية بل لم تخل منه شريعة وضعية على انحراف في تطبيقه، أو إهمال في العدالة فيه، والنفوس التي انحرفت عنه في الأيام الأخيرة قد غلب عليها هواها، فغلبت عليها شقوتها، وعرَّضت الجماعات فيها لأعظم المخاطر من عدوان الأشرار. فلماذا خص الله تعالى بني إسرائيل بالذكر مع أنه مفروض قبلهم، ومفروض بعدهم، والجواب عن ذلك نتلمسه، ولا نجد نصا يدل عليه، ونقول في ذلك والله أعلم بمراده: إن التوراة فيما بقي منها هي الكتاب الذي اقترن هو والإنجيل بالفرآن زمنيا، فالقرآن جاء مهيمنا عليها، ومصدقا للصادق منهما، فذكر بني إسرائيل دليل على أنه مفروض علينا بحكم الاقتران الزمني، وبحكم أن هذا المبدأ الخالد قرره القرآن، وجدده في مثل قوله تعالى:(وَكتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. . .).

وفوق ذلك ما يزال هذا المبدأ باقيا في التوراة ولم يندثر فيها، مع أنهم حرفوا ما حرفوا، والأنبياء الذين سبقوا يعقوب، وليست كتبهم قائمة في أيدي الناس في عصر التنزيل، كما بقيت التوراة مع تحريفهم فيها الكلم عن مواضعه - وكانت شريعة القصاص باقية بعد هذا التحريف.

ثم إن بني إسرائيل قد كتبت عليهم شريعة القصاص كما كتبت على غيرهم من قبلهم ومن بعدهم، ومع ذلك هم أشد الناس إسرافا في قتل الأبرياء والأطهار، وما أشبههم في قتلهم أنبياءهم ودعاة الحق بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو قتله لما ظهر فيه من خير، وهم قد قتلوا أنبياءهم، لأنهم دعوهم إلى الخير.

ثالثا - أن الله تعالى عندما بين شريعة القصاص، قد ذكر الباعث عليها، وحكمتها، وما يؤدي إليه تنفيذها، واكتفى ببيان ذلك مكتفيا بما فصلته شرائع النبيين فيها، وما أتت به من بينات؛ ولذلك قال تعالى:

ص: 2138

(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) هذا هو ما كتبه الله تعالى، وهو أن من قتل نفسا بغير حق شرعي مبيح لها، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وقد بين القرآن الكريم متى يكون القتل بغير حق مشيرا بإيجازه المعجز إلى القتل بحق، فبين أن القتل بغير حق، هو ألا يكون في نظير نفس، فالقتل قصاصا لَا يكون إلا بالحق ولكن بعد أن يقرر القضاء أنه يجب القصاص، أو يمكَّن ولي الدم من القصاص، وكذلك القتل لمنع الفساد في الأرض، كقتل الذين يعتدون على الجماعات المؤمنة، ويرهقونهم في تدينهم، أو من يرتدُّون ليفسدوا عقائد المؤمنين، أو الزنادقة الذين يفسدون العقائد، أو أهل الدعارة والفساد من أهل الحرابة الذين يخرجون على الجماعات ويحاربون النظم التي قررها الشرع الشريف، وهكذا، فإذا كان القتل لغير هذين الأمرين، فهو قتل بغير حق، ومن فعل ذلك فكأنما قتل الناس جميعا.

ولقد تكلم العلماء في معنى هذا التشبيه، وكيف يكون قتل الواحد بغير حق مشابها لقتل الناس أجمعين، قال بعض العلماء: إن المراد نفس الإمام العادل؛ وذلك لأن قتل الإمام العادل الاعتداء فيه ليس على شخصه وحده، ولكن على كل من يسعدون بحكمه ويظلهم عدله، فمن قتله فكأنه قتلهم، إذ يصير أمرهم بورا من بعده، وتضطرب أحوالهم، وذلك قتل للجماعة؛ لأن تفريق الجماعة وحل رباطها هو موت لها، ومع سلامة ذلك التفكير، فإن قصر القتل المفسد على قتل الإمام لَا دليل عليه؛ ولذلك كان الأولى التعميم بدل التخصيص والإطلاق بدل التقييد، إذ لَا دليل من مخصص أو مقيد، فالأولى هو تفسيرها بالعموم، ويبقى مع ذلك التشبيه سليما، لَا شبهة فيه، ووجه الشبه الذي جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا يكون من نواح:

الأولى - أن من قتل نفسا فقد استباح حق الحياة المصون المحترم الذي حماه الإسلام، ومن استباحه في نفس واحدة فقد استباحه في نفوس الناس جميعا،

ص: 2139

وقد أشار إلى هذا المعنى ابن كثير، فقال في تفسيره للقرآن العظيم: من قتل نفسا واحدة بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا. . . وعن أبي هريرة قال:(دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعا، وإياي معهم؟ قلت: لَا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك مأجورا، غير مأزور، قال فانصرفت ولم أقاتل). وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: من استحل دم امرئٍ فكأنما استحل دم الناس جميعا، ومن حرَّم دم امرئٍ، فكأنما حرم دماء الناس جميعا.

الثانية - أن وزر من قتل نفسا واحدة، كوزر من قتل ألفا.

الثالثة - أن عقاب قتل نفس كعقاب قتل الأنفس، وهو في الدنيا بالقصاص العادل، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما قال تعالى:

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)، وإذ اكان قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا، فإحياؤها كإحياء الناس جميعا؛ ولذا قال سبحانه:(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). في هذا النص السامي نتكلم عن أمرين: أولهما - معنى إحياء النفس، وثانيهما - معنى تشبيه من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا. أما الجزء الأول وهو معنى الإحياء، فقد ذكر العلماء له معاني كثيرة، منها أن إحياءها بمعنى تحريم قتلها على نفسه، والامتناع عن انتهاك حرماتها، ولكن ذلك أقرب إلى المعنى السلبي، اللهم إلا أنه يقال: إنه كب نفسه عن ذلك الفعل الأثيم عندما تساوره قوة الشر دافعة خاملة له، فإن الكف حينئذ ليس عملا سلبيا، بل هو عمل إيجابي، ومنها أن معناها: من أنقذ إنسانا كان مشرفا على الهلاك في حرق أو غرق، أو مصاولة إنسان أو حيوان، فإن ذلك إحياء له، ولكن مع سلامة هذين المعنيين لا يمكن أن يكون تشبيه من يفعل ذلك سلبا أو إيجابا بإحياء الناس جميعا واضحا،

ص: 2140

لأنه إحياء لفرد، اللهم إلا أن يقال إن مجرد حماية حق الحياة أو احترامه في فرد هو احترام أو حماية له في الناس أجمعين.

ولقد قال بعض المفسرين: إن المراد بإحياء النفس حماية نفس الإمام، ومعاونته على دفع شرور البغاة، والخارجين عليه، وإن ذلك سير على أن قتل النفس الذي يكون قتلا للجميع هو قتل الإمام، وقد بينا أنه غير الأولى.

والحق الذي نراه أن المراد بإحياء النفس، هو بالتمكين من القصاص؛ لأن الله تعالى قال:(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. . .).

فإحياء النفس المقتولة بالقصاص لها ممن اعتدى وقتلها، وقد وجدنا الآلوسي ذكر ذلك الرأي فقال:

" وقيل المراد، ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما. . . إلخ (1).

وبهذا يتبين بوضوح الأمر الثاني، وهو أن من أحيا نفسا قد قتلت بالتمكين من القصاص لها فقد أحيا نفوس الناس جميعا، بأن يوجد الردع العام عن القتل والاعتداء، فتحيا النفوس، وينقمع الأشرار، وهذا ما أشار إليه ما تلونا من قوله تعالى:(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ. . .)، (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) يخبر الله سبحانه وتعالى أن الله تعالى أرسل الرسل لبني إسرائيل يبينون لهم الحقائق التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم الذي تحمى فيه الدماء والأعراض، والفضيلة الإنسانية، والتي تشتمل على ما كتبه الله تعالى من أجل اعتداء أحد ابني آدم على أخيه من غير ظلم وقع منه ولا باعث على ما ارتكب إلا الحسد والحقد.

(1) قال الآلوسي (ج 6، ص 117): " (وَمَنْ أحْيَاهَا) أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها. أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ ". اهـ أي: فكأنما أحيا الناس جميعا.

ص: 2141

وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها، وتوضح غاياتها ومراميها، ومعها الدليل القاطع المثبت لصحة الرسالة من معجزات باهرة، وخوارق صارخة، وقد أكد سبحانه بعث هؤلاء الرسل وسلامة ما يدعون إليه بمؤكدات ثلاثة: أولها - باللام وقد، إذ قال:(وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا). وقد مؤكدة للخبر، واللام مؤكدة لما بعدها.

ثانيها - بالتعبير بأن الرسل جاءتهم، أي لاصقوهم وصاروا قريبين منهم يخاطبونهم ويحاجونهم ويبينون لهم، ولا يدعون أمرا فيه التباس إلا أزالوا لبسه، ومنعوا الاشتباه عليهم.

وثالثها - أنه سبحانه أضاف الإرسال إلى ذاته العليا، وفي ذلك بيان قدسية الرسالة، وفوق ذلك هي في ذاتها فيها حقائق واضحات منيرة للحق في ذاتها، فلها بذلك شرفان: شرف ذاتي من حقائقها، وشرف إضافي من مُنزلها. ولكن الآيات والنذر إنما تغني من يذعنون للحق ويؤمنون، والبينات مهما تكن نيرة لَا يدرك نورها إلا ذو البصيرة المستنيرة، وليس بنو إسرائيل من هذا الصنف؛ ولذا قال سبحانه:

(ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهم بَعْدَ ذَلِكَ فِى الأَرْضِ لَمُسْرِفونَ) كان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل، ونتيجتها في قلوبهم، فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا، ويخرج حبطا (1) في أكثرها، ولم يحكم سبحانه على اليهود جميعهم بأنهم كانوا جميعا مفسدين، بل حكم على كثير منهم ذلك الحكم، كما قال تعالى:(. . . مِّنْهمْ أُمَّة مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).

(1) الأرض السَبِخة: أي ذات ملح ونز (البور). والحَبَط: أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ بطونها ولا يخرج عنها ما فيها. الصحاح.

ص: 2142

وقد وصف سبحانه وتعالى كثيرا منهم بأنهم مسرفون، أي مفسدون، لأنهم قتلوا المخلصين، وعصوا أوامر الله، وعاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الشر في العالم، حتى إنك لَا تجد فسادا إلا إذا كانوا مصدره، فهم الذين نشروا الربا والمجون والعبث والخمور، وكل ما هو شر في الأرض، والإسراف: هو الفساد مأخوذ من السُّرفة، وهي: الدودة التي كل الشجر، والإسراف حتى فيما أصله خير يقلبه إلى شر وفساد، وقد أكد الله تعالى إسراف اليهود في الشرب " إنَّ " وباللام في قوله:" لمسرفون "، وبالجملة الاسمية. . وقَى الله المسلمين شرهم، وألبسهم لباس الذل والخوف إلى يوم القيامة، وهدانا جميعا للخير، إنه الهادي إلى قصد السبيل.

* * *

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

* * *

يبين الله سيحانه وتعالى عقب اعتداء أحد ابني آدم على أخيه، أنه سبحانه وتعالى بسبب ما استكن في النفوس من نوازع الشر والخير، وأن بعض النفوس يغلب الشر عليها، فتغلب عليها الشقوة وأنها لَا بد لها من زاجر يزجرها، ورادع يردعها، فتقرر القصاص الذي تكون فيه حياة الجماعة، والأمن من شرور أهل

ص: 2143

الفساد الذين غلب عليهم الشر، وبين سبحانه أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، وأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وأن صور الفساد الذي يبيح الدم صونا للجماعة، وحفظا للحياة الهادئة المطمئنة - كثيرة، ولكن أبلغها في الفساد، وأبعدها في الشر مدى هو الانتقاض على الجماعة بارتكاب جرائم القتل والعدوان، من غير تأويل، والسرقة، والاتفاق الجنائي على ذلك، ولذلك ابتدأ بهذا سبحانه فقال تعالى:

ص: 2144

(إِنَّمَا جَزَاء الِّذِينَ يُحَارِبونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هذا النص الكريم يبين جريمة كبيرة هي جماع لعدة جرائم، وهي جريمة الذين يحاربون النظام القائم ويخرجون جماعات ذات قوة وشكيمة ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسرقة، لَا في خفية بل في إعلان، معتصمين بقوة مانعة لهم، وقد اتفقوا جميعا على ارتكاب القتل والسرقة وتهديد الآمنين.

وجريمة هؤلاء أقوى من جريمة القتل المجرد، لأن جريمة القتل المجرد، ليست في ذاتها تهديدا للأمن، وإن كان إهمال عقوبتها يؤدي إلى تهديد الأمن، أما هذه فإنها تهديد مباشر للأمن، فالأولى اعتداء ابتداء على الأفراد، أما هذه، فهي اعتداء ابتداء على الجماعة، لأنها تترصد السابلة في الطريق، فتقطع عليهم السبيل.

وقبل أن نخوض في بيان هذه الجرائم، وكلام الفقهاء، وأهل الخبرة في معناها، ونذكر عقوبتها في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ نتكلم في معاني الألفاظ، ونتكلم على ثلاث عبارات.

أولها - في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ) فقد كان التعبير بـ " إنما "، وهي من أوائل أدوات القصر والتخصيص، وذكر هذه الكلمات في مقام بيان العقاب الذي سارع ببيانه سبحانه هو لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لَا هوادة فيه، وأنه لا يحل محل ذلك العقاب غيره من دية أو مال، ولا يدخله عفو، لأنه حد من حدود الله تعالى، بل هو أعظم الحدود، لأن جريمته أشد الجرائم خطرا، إذ هي

ص: 2144

مقوضة لبنيان الجماعة، وهادمة للأمن، وكان معنى التخصيص واضحا، إذ هي عقوبة ليس لها بديل من سواها، أي لَا جزاء للجريمة ولا كفاء لها إلا ذلك العقاب.

العبارة الثانية - هي قوله تعالى: (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). ومعناها: يحاربون شرع الله ورسوله بالانتقاض على أحكامه، ومقاومة الحكام الذين يقومون على حفظ الأمن، ويقاومون الجرائم، ويكون المؤدى أن الله سبحانه وتعالى ليعتبر كل من يهدد أمن الجماعة، ويعتدى عليها بالقتل والسرقة والنهب، ويمنع السابلة محاربا لله تعالى ولرسوله، لأنه يشيع الجرائم، ويناصب أحكام الشرع ومن يقومون على تنفيذه وأنهم يقومون بكل الجرائم مجتمعين متفقين، فيكون لهم صولة تعطيهم وصف المحاربين، وكان التعبير بمحاربة الله ورسوله من نوع المجاز؛ لأن الذي يقوم بالسلب والنهب وقتل السابلة يؤدي عمله إلى نقض النظام والاطمئنان، فهو إن لم يقصد بفعله المحاربة هو يؤدي إليها، أو يقال إن ذات الفعل محاربة، فلا يكون مجازا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من حارب مسلما على ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله ".

والعبارة الثالثة - (وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا). السعي: هو الحركة السريعة المستمرة، وقوله تعالى:(فَسَادًا). هو من قبيل التمييز، أي أن سعيهم لأجل الفساد لَا لأجل الخير، وفي ذلك الكلام إبهام بعده بيان، فيكون فيه تأكيد في البيان، فذكر السعي مبهما ثم بين بأنه من نوع الفساد، لَا من نوع الخير. وإن أولئك الذين يحاربون النظام، وعقوبتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:(أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يصَلَّبُوا). إلى آخر الآية الكريمة - هم الذين يعبر عنهم في الفقه بقطَّاع الطريق، ويسمى فعلهم قطع الطريق، ويسمى الحرابة، وَيُعَنْوَنُ له بذلك في الفقة الإسلامي، والعقوبة المذكورة في النص الكريم خاصة بهم.

ص: 2145

وقد التبس - على بعض من لَا دراية له بأحكام العقوبات في الفقة الإسلامي - هؤلاء بالبغاة، والتبس على بعض آخر أمر هؤلاء بأمر الخوارج، والواقع أن الذين ينقضون النظام أقسام ثلاثة متمايزة متغايرة، فالبغاة: هم الخارجون ذوو القوة والمنعة الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، أي بوجه مسوغ لهم الخروج، كأولئك البغاة الذين خرجوا على الإمام علي كرم الله وجهه، والذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمار بن ياسر رضي الله عنه:" تقتلك الفئة الباغية "(1) وهذه تقاتل حتى تسلم، كما قال تعالى (. . . فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9).

وهؤلاء البغاة لَا يستبيحون من الأموال والدماء إلا معسكر السلطان، إذ هم لا يحاربون غيره، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

والخوارج: هم الذين خرجوا على الإمام العادل بتأويل، ولكنهم لا يستبيحون معسكر السلطان فقط، بل يعتبرون مخالفيهم في الرأي كافرين، بل يعتبرونهم مشركين، وهؤلاء يعاملون معاملة البغاة، يقاتلون حتى يفيئوا فإذا كانت الفيئة فالإصلاح والقسط، ورد القضب إلى أجفانها.

وقطاع الطريق، أو أهل الحرابة: وهؤلاء مجرمون يخرجون لارتكاب جرائم السلب والنهب والقتل، وسائر الموبقات، بلا تأويل يتأولونه، ولا تفسير يفسرون، بل يرتكبون ما يرتكبون إثما وعدوانا مقصودا، ولا يقصدون إلا العدوان، كالعصابات الإجرامية التي نراها معتصمة في بعض الجبال أو الكهوف، وكالعصابات التي تزعج الآمنين بقوة إرهابية.

فهي إذن أقسام متمايزة متغايرة، وما لأحد من بعد أن يخلط، فيجعل حكم واحدة الأخرى، ولا وصف واحدة الأخرى.

(1) رواه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - لَا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل (2916) عن أم سلمة رضي الله عنها، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أم سلمة زوج النبي (26023).

ص: 2146

إن النص الكريم ينطبق كل الانطباق على الذين يخرجون بقوة، ويقطعون على السابلة الطريق وتكون لديهم القدرة على المنع، ولا يكون للمعتدَى عليه من يحميه من خطرهم ما داموا قد تعرضوا في طريقه، فهم حينئذ يعدون قطاع طريق، ويعد عملهم حرابة، ولكن اختلف الفقهاء من بعد ذلك في أمور أربعة من حيث انطباق النص القرآني. . . هذه الأمور الأربعة، هي: الأول - المكان الذين يعدون باتخاذه مقاما لهم قطاع طريق، والثاني - في طريقة إجرامهم، والثالث - في عددهم وقوتهم، والرابع - في الجرائم التي اتفقوا على ارتكابها، أو اعتزموا ارتكابها، أهي القتل والسلب فقط أم تشمل كل المعاصي كالزنى، وشرب الخمر، وتناول ما يشبهها وغير ذلك.

أولا - المكان الذي يتخذه قطاع الطريق، فإنه يجب أن يكون في داخل الدولة الإسلامية لأنهم من رعاياها، ولأن قطع الطريق على جماعة المسلمين من غير المسلمين هو الحرب الحقيقية، وليس هو الحرابة التي تتلاقى معها في الاشتقاق؛ وتختلف عنها في حقيقتها، فإن الحرب قد اختصت بمدافعة الأعداء من خارجها، أما هذه فقد اختصت بمحاربة الفساد في داخلها، والحرابة بهذا المعنى: الخروج على المارَّة لأخذ المال على سبيل المغالبة، ولو بالقتل على وجه يمنع المرور، ويقطع الطريق سواء أكان القطع بسلاح أم بغيره مثل العصا والحجر والخشب ونحوها، لأن قطع الطريق يكون بكل ذلك.

واختلف الفقهاء في المكان الذي يتحقق به هذا أيمكن أن يكون في داخل المدينة أو القرية أم لَا يتصور إلا في خارج الأمصار كالصحارى والجبال، والبراري من المزارع الشاسعة، لقد قال أبو حنيفة: إن قطع الطريق لَا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة، ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى.

ومالك والظاهرية لَا يشترطون لقطع الطريق مكانا معينا، فحيث تتحقق إخافة المارة فهي حرابة لَا فرق بين أن يكون ذلك في الفيافي والقفار، أو في

ص: 2147

القرى والأمصار، فحيث لَا يأمن السابلة الطريق، ولا يجدون من يسعفهم بدفع الشر عنهم فإن الحرابة تتحقق.

وهناك رأي ثالث، وهو أن الأمصار والقرى تصلح مكانا لقطاع الطريق ليلا، ولا يصلح نهارا إلا الصحارى والحق الذي نراه متفقا مع مرمى النص الكريم وغايته أنه حيث تحقق الوصف، وهو محاربة الله ورسوله بمحاربة الآمنين وحيث كانت القوة، وحيث كان سلطان الشر، فإن الحرابة تتحقق، وأننا نراها عيانا بيانا في مدن أمريكا وأوربا فالعصابات المخربة التي تحارب الأمن هنالك، وتغير على الآمنين تتخذ أوكارها في وسط الأمصار، وإن خفيت عن الأنظار.

وننتقل بعد ذلك إلى الأمر الثاني: وهو عددهم ونوعهم، وإنا نقول: إن الذي عليه كثرة الفقهاء أن العبرة في الأمر هو في قوة الإخافة لَا في مقدار عدد المنفذين، ولا في نوعهم أهم ذكور أم إناث، فلو أن واحدا استقر في كهف، ومعه سلاح مدمر، وكل من يمر من الضعفاء، أو من لَا حول لهم ولا سلاح استلب ماله أو نفسه فإنه يعد قاطع طريق، ولو أن جمعا فيهم ذكور وإناث تعاونوا على الإثم والعدوان وقطعوا الطريق على الآمنين وقاموا بالاستلاب غير مراعين حرمة مال، ولا عصمة دم، فإنهم قطاع طريق محاربون.

ثالثا - طريقة الإجرام أتكون بالمجاهرة والعصيان أم تكون ولو بالاختفاء، قال جمهور الفقهاء: إنه لَا بد من المجاهرة بالعصيان، والظهور علنا، حتى يتحقق معنى الحرابة، وحتى يتحقق معنى التسليم، وقال مالك: إنه تصح المحاربة بالاختفاء، كالاتفاق على القتل غيلة، والاستيلاء على الأموال بالهجوم على مكامنها خفية كالعصابات التي نسمع عنها، ويراها شبابنا على شاشة الخيالة (السينما)، والإذاعة المرئية (التليفزيون)، وقد حرر القرطبي في تفسيره رأي الإمام مالك، فقال: " والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعناها موجود فيها، ولو خرج بعصا في المصر يقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك، لَا بأيسره، فإنه سلب

ص: 2148

غيلة، وقتل الغيلة أقبح من قتل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في فعل المجاهرة، ولم يدخل في قتل الغيلة ".

وإن الذي نميل إليه هو مذهب مالك بلا ريب، لأن معنى المحاربة، وهو إزعاج الآمنين ثابت في الاختفاء، بل هو أمكن، كما هو ثابت في المجاهرة، بل أشد وأحكم.

رابعا - بالنسبة لجرائم المحاربة أهي مقصورة على الاعتداء على الأموال والأنفس؟ قال جمهور الفقهاء ذلك، وقال مالك رضي الله عنه، كل اتفاق على ارتكاب المعاصي يعد من قبيل الحرابة، فالاتفاق على الزنى أو فتح بيوت له يعد من الحرابة، ويستحق عقابها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقبل أن نترك الكلام في الجريمة لَا بد من الإشارة إلى أمرين: أولهما - أنه لا بد في اعتبار هذا الفعل جريمة أن يكون القائمون به مكلفين تكليفا شرعيا بأن يكونوا بالغين عقلاء، لأن الفعل لَا يوصف بأنه جريمة أو معصية إلا إذا كان الفاعل مكلفا تكليفا شرعيا، فإذا قام بالعمل صغار لَا يعدون قطاع طريق، وإذا كانوا مميزين، فإنهم يؤدبون، أو يعزرون على أن يكون تعزيرهم تأديبا، ولا يكون عقابا على ما هو مقرر في باب التعزير، وإذا كانوا مجانين، فإنهم يحجزون في المصاح أو نحوها، ولا يعزرون، لأن عقابهم يكون تعذيبا، إذ لَا تبعة يتحملونها، ولا يصلحون للتأديب لفقد عقولهم.

ثانيهما - أيعدون محاربين، ولو لم يرتكبوا جريمة من جرائم قطع الطريق، فلم يسرقوا، ولم يقتلوا، ولكن اتخذوا مكانا قصيا لكي يرتكبوا الجرائم متفقين على الفعل، وقصدوا الفعل، ولم يفعلوا، إما لأنهم لما يبدأوا، وإما لأن الأحوال لم تواتهم.

وبذلك يكون مجرد الاتفاق والأهبة للتنفيذ يعد جريمة في ذاته؛ الظاهر من أقوال الفقهاء ذلك، وسيتبين، وبذلك يكون الاتفاق الجنائي في الشريعة له مكانه من العقاب.

ص: 2149

والآن نتصدى لبيان العقاب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، فقد قال سبحانه:

(أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ) هذه عقوبات أربع قد ذكرت كلها معطوفة بـ أو التي تفيد التخيير في الجملة، ولنتكلم في كل واحد منها بتفسير معناه اللغوي: التقتيل هو القتل، ولكنه ذكر بصيغة التضعيف، وهي تدل على الشدة في القتل، وذلك بعدم التجاوز عن الذين ارتكبوا ما يوجبه، وتفيد التكرار، أي أنه يقتل من يرتكبونها مهما يكن عددهم، فمن استحق القتل قتل ولو كانوا مائة قد قتلوا واحدا، ولأن التضعيف يفيد الاستمرار في التقتيل ما داموا قد استمروا في الجريمة، فكلما كان منهم قتل قتلوا، ولإثبات أنه لَا يقتل المقتول فقط، بل يقتل هو ومن يعاونه، ومن اتفق معه على جريمة من غير تفرقة بين مباشر، ومحرِّض وراض قد اتفق معهم على جريمة الخروج، و " التصليب " الصلب على مكان مرتفع يرى بعد القتل، وصيغة التضعيف تفيد التشديد في العقوبة، وإثبات أنه لَا هوادة فيها، ولا مناص منها، وتكرارها، واستمرارها، ويصلب الشخص ثلاثة أيام عبرة وردعا، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه أن لَا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد، بل تكونان من جانبين مختلفين، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، فمعنى من خلاف، أي من جانب خلاف الجانب الآخر، ومعنى قوله تعالى:(أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ). قال بعض الفقهاء: المراد نفيهم من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى، ليتفرقوا، ولا يجتمعوا على ذلك الشر الذي ارتكبوه أو هموا بارتكابه، وفسر الإمام أبو حنيفة النفي بالحبس؛ لأن فيه إبعادا وتفريقا، وهو أمنع لتجمعهم، وأوغل في تفرقهم.

ذلك هو عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فهو العذاب العظيم؛ ولذلك قال تعالى:(ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

ص: 2150