الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
(120)
* * *
صور الله سبحانه وتعالى حال إغراء الشيطان بأنه عمل عملين، لَا يكون فيهما أي نفع عاجل أو آجل، فهو أولاً يسرف في وعدهم بمتع لَا حد لها، بأن يصور لهم أن فيما يفعلون من شر متعا كثيرة، ونفعا كبيرا، وليس لذلك أي أثر. وثانيهما - أنه يجعل النفس تتمنى ما لَا يعقل ويكون بعيد الوقوع. ومن وراء تلك الأماني تنفذ إلى النفس الأوهام فتسيطر عليها. وما كان ذلك الوعد، وإثارة الأمنيات إلا الغرور والخيبة في ذاتها.
* * *
(أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا
(121)
* * *
أولئك الذين يعطون ولايتهم للشيطان، ويخسرون فطرتهم السليمة، ونفوسهم المستقيمة، وعقولهم المدركة، تحت سلطان الأماني الكاذبة والأوهام الخادعة، لَا يكون لهم مأوى يوم القيامة غير جهنم. ولا يجدون ملجأ دونها يلجأون إليه، فلا مفر منها ولا مهرب، وذلك جزاء إضرارهم لفطرتهم وانحرافهم عن الجادة، ويرميهم بغرور الشيطان، وإن ذلك يتبعه الأذى لبني الإنسان، وتركهم عبادة الديان، والإعراض عن الحق، إذا جاءهم به رسل الله تعالى، وأنهم لَا معدل لهم عنها ولا مهرب، وهذا معنى:(وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) أي معدلا ومهربا، من حاص يحيص عدل وهرب.
ولقد بين الله تعالى في مقابل ذلك جزاء المتقين. فإنه لَا يستوي الذين
يعلمون والذين لَا يعلمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:
* * *
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا
(122)
* * *
إذا كان الشيطان يَعِد أولياءه بالأماني الكاذبة، ويدفعهم إلى أوهام لَا أصل لها، فالله تعالى قد وعد المؤمنين وعدا حقا، وإذا كان المشركون قد رأوا مآلهم جهنم لَا يجدون عنها معدلا، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأولئك يستحقون هذا، أولا - بإيمانهم الصادق، وانفكاكهم عن حبائل الشيطان، وبعدهم عن غروره وخديعته، وثانيا - بأعمالهم الطيبة الصالحة المبنية على أسباب
معقولة لَا على أهواء مرذولة، فهي تفيد أنفسهم ومجتمعهم، ويؤدون بها حق ربهم.
وإن ذلك الجزاء اتصف بأمور ثلاثة:
أولها - أنه نعيم مادي فهو جنات وحدائق فيها كل ما تشتهيه الأنفس.
وثانيها - أن فيها نعيما معنويا تلذ به الأعين، وتنشرح له الصدور، وهو أن الأنهار تجري من تحت قصور، فتريهم منظرا بهيجا يسر الناظرين إليه.
وثالثها - أنها خالدة لَا تنقطع ولا تزول، ولا يعرض لها تغيير ولا تبديل.
وهناك ما هو أغلى من كل هذا، وهو رضوان الله تعالى.
وإذا كان الشيطان قد غر أولياءه فقد صدق الله تعالى أولياءه، فقال:(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) وعد الله تعالى وعدا، وحقه حقا، فهو وعيد ثابت لَا يقبل تغييرا ولا تبديلا، إذ هو وعد ثابت صادق لأنه وعد الله تعالى، ولا يوجد أصدق قولا من الله تعالى، فالاستفهام في قوله تعالى:(وَمَنْ أَصْدَق مِنَ اللَّهِ قِيلًا) للنفي، والمعنى لَا يوجد في هذا مَنْ أصدق من الله قولا، فقيل معناها قول مؤكد لَا ريب، وصدق وعد الله تعالى، لأنه من ذي الجلال والإكرام المهيمن على كل شيء، فلا يتصور أن يكون من قوله سبحانه غير الحق والصدق، وفوق ذلك هو وحده القادر على تنفيذ ما وعد به.
وهذا في مقابل تغرير الشيطان بالأوهام والوعود الكاذبة؛ لأنه عاجز عجزا مطلقا، والله تعالى هو القادر قدرة مطلقة، اللهم اجعلنا ممن يصدق فيهم وعدك ولا يصدق فيهم وعيدك، وتب علينا إنك أنت التواءب الرحيم.
* * *
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه، ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لَا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه:
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إن الله أوعد المفسدين بالشر، ووعد الصالحين بالثواب العظيم والنعيم المقيم، ولكن الأمانيَّ تتحكم في النفوس، فتتمنى ما لم تعمل له، وتسير وراء ما تتمنى من غير أن يربطوا بين العمل والجزاء، والسبب والمسبب، فنبه سبحانه إلى ذلك.
الأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان، ويرغب فيه، ويحبه، ولو لم يتخذ له أسبابه، والضمير (1) في قوله تعالى؛ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) يعود على ما وعد به من عذاب وثواب، والمعنى ليس ما ينزل بكم جزاء لما تعملون بالأماني تتمنونها، ولكن لمن الخطاب في قوله:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)؛ أهو للمشركين أم لعامة المسلمين؟ في ذلك توجيهان: أحدهما - أن الخطاب للمسلمين، والمعنى على هذا: ليس الأمر بما تتمنون أنتم معشر المسلمين وأهل الكتاب، إنما بما تعملون، فمن يعمل عملا لسوء نفسه أو غيره يجز به في الدنيا والآخرة، ولا يجد له غير الله نصيرا ينصره، أو وليا يعاضده أو يواليه في شره بل الجميع يبرأ منه، ويزكي ذلك الوجه ما يروي عن قتادة، لقد قال: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فنزلت الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ).
وقد يكون في هذا الوجه نظر؛ لأنه يضع أهل الكتاب في موضع المؤمنين في الاحتجاج، مع أن كلام أهل الإيمان هو الحق الذي لَا شك فيه، وفيه الإيمان بالكتب السابقة، مع الكتاب الكريم.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب لمشركي العرب. ويكون في الكلام التفات فبعد أنه كان يتكلم عنهم بضمير الغائب (2)، التفت وخاطبهم بضمير الخطاب تنبيها لهم وبيانا للحق، وبيان أن العمل هو الذي يقدم صاحبه ويؤخره، ويزكي هذا الوجه ما روي عن مجاهد شيخ مفسري التابعين فقد قال:" قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقال اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم "، فكانت هذه الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) ردا على هذه الأوهام.
(1) المقصود بالضمير، أي المستتر وهو اسم ليس.
(2)
أي فيما سبق من الآيات البينات قبل هذه الآية الكريمة.
وقد رجح ذلك الوجه ابن جرير الطبري، وقال في ترجيحه: " وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد؛ لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله تعالى:(ولأمنيهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام).
وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) فإلحاق معنى قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) بما جرى ذكره قبل، أَحق وأولى من ادعاء تأويل لَا دلالة عليه من التنزيل ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل. وإنما نختار ما اختاره ابن جرير، لما ساقه من دليل.
وقوله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). ما هو الجزاء؛ أهو الدنيوي أم الأخروي؟. قال بعض العلماء إنه الجزاء الدنيوي، ويستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عطاء - لأبى بكر: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك (1)، وكان هذا تفسيرا للنص. وقال آخرون: إن المراد الجزاء الأخروي، وهو المناسب للنص، وللآيات السابقة، والجزاء القرآني دائما جزاء أخروي، والحق هو القول الأخير، أن الجزاء هو الأخروي، والدنيوي إن كانت حكمة الله تعالى في جزاء دنيوي كالتشريد والذلة، والهزيمة في الحروب.
وقوله تعالى: (وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي أن الشيطان الذي كان يوسوس لهم يختفي سلطانه ولا يكون له ولاء لهم، لَا يوادّهم ولا يحبهم، ولا يناصرهم، كما قال تعالى عنه وعنهم يوم القيامة: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
(1) عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَظُنُّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الصَّلاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: " يَرْحَمُكَ اللهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ أَلَسْتَ (1)
…
" قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّ ذَاكَ بِذَاكَ ". [رواه أحمد في مسند العشرة: مسند أبي بكر (70)]. وروى مسلم في صحيحه: البر والصلة والآداب - ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2574).