المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالزراعة، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لَا تحتاج إلى - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: بالزراعة، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لَا تحتاج إلى

بالزراعة، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لَا تحتاج إلى همة، ولا تحتاج إلى شجاعة.

وحيث كانت المعاملات اليهودية كان معها أكل أموال الناس بغير الحق الذي فيه أخذ وعطاء، ونفع وانتفاع، بل تكون معاملاتهم قائمة على الاحتكار، والرشوة كيفما كانت تسميتها، وكيفما كانت صفتها، والمخادعات والاحتيال، والنصب الماهر المستور، وغير ذلك من التعامل الذي لَا شرف فيه.

وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم بقوله:

(وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي بسبب هذه المظالم في الدنيا لا يكتفى بحرمانهم الجزئي فيها، بل لابد للكافرين من عقاب شديد مؤلم في الآخرة، وقد ذكر وصف الإيلام في العذاب، للإشارة إلى أنهم إن كانوا يتمتعون في الدنيا كما تتمتع الأنعام، ويرتعون كما ترتع، فذلك إلى أمد قصير.

إن أولئك الماديين الذين فسدت ضمائرهم وضعفت عقائدهم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالدنيا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين. . يكون منهم دائما الاستهانة بحقوق غيرهم وينشرون اللهو والعبث والمجون، وتكون الدنيا متعتهم وتكون هذه المتعة غايتهم، ومطلبهم، فلا يذكرون أن وراء هذه المتعة آلاما، ووراءها عذاب أليم، فليذكروا ذلك، وإن ربك لبالمرصاد.

وليسوا جميعا على هذا النحو، ولذلك قال في العقاب للكافرين منهم، فكل طائفة فيهم الخير والشر، واليهود مع ما كانوا عليه في الماضي كان منهم المؤمنون، وإن كانوا قليلا، ولذا قال سبحانه:

* * *

ص: 1958

(لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ

(162)

* * *

الراسخون في العلم هم الذين أدركوا حقائقه وصدقوها، وأذعنوا لها، وثبتت في قلوبهم ثباتا لَا يكون معه ريب يزعزعه أو شبهة تفسده، أو هوى يعبث به، وقد

ص: 1958

قال الراغب في مفرداته في معنى الرسوخ: " رسوخ الشيء ثباته ثباتا متمكنا، ورسخ الغدير نضب ماؤه، ورسخ تحت الأرض، والراسخ في العلم المتحقق فيه الذي لَا يعرضه شبهة، فالراسخون في العلم هم الموصوفون بقوله تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يرْتَابُوا)، وكذلك قوله تعالى:(لَكَنِ الرَّاسِخَونَ فِي الْعِلْم مِنْهُمْ).

وإن الله سبحانه وتعالى الحكم العدل تكون أحكامه على مقتضى عدله، فهؤلاء اليهود، وإن كثر جحودهم فيهم العلماء المحققون الراسخون، وإن كانوا مختفين في لجة من جحود اليهود، هؤلاء الراسخون في العلم الديني، والعلم برسالته، وسائر رسائل النبيين هم والمؤمنون سواء، فهم يعتقدون كل ما يعتقده المؤمنون من صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق سائر الرسالات الإلهية. وهؤلاء قد ضموا إلى صفوف المؤمنين، بل إنهم صاروا منهم، وإنما ذُكروا كأنهم صنف قائم، باعتبار أنهم من اليهود، ولم يكونوا كالمنحرفين البارزين، وهؤلاء اليهود لم يكفروا بموسى كما لم يكفر سائر المؤمنين بموسى، ولذلك قال سبحانه وتعالى:(يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) أي أنهم يؤمنون بالرسالة المحمدية وكتابها ورسالات الرسل السابقة وكتبها، فأولئك الراسخون في العلم من بني إسرائيل هم والمؤمنون لم يخرجوا على موسى، بل آمنوا به أوثق إيمان؛ لأنهم آمنوا بالرسالات كلها.

وقد يقول قائل: إن الله تعالى ذمَّ اليهود عمومًا، ثم خصَّ الراسخين بالثناء، فلم كان التعميم ثم التخصيص؟ والجواب عن ذلك أن أولئك الراسخين لم يكونوا هم الظاهرين منهم، بل كان الشر هو الطافح على سطحهم، فكان من أجل وصفهم عموما بالشر، لأن الجماعة توصف بالشر إذا اختفى الخير فيها، ثم كان الظاهر هو الشر، وكان من إنصاف الله تعالى أن ذكر أولئك العلماء المغمورين في وسط جماعة الأشرار، وبين حقيقتهم، وانضمامهم إلى جماعة المؤمنين.

ص: 1959

هذه حقيقة المؤمنين ومن معهم من الراسخين في العلم من أهل الكتاب، ثم بين من بعد أعمالهم، وإيمانهم بالغيب، فقال:

(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ذكر في هذا النص الكريم أعظم أعمال الخير التي يقوم بها المؤمن الصادق في إيمانه، وهي قسمان: عبادة هي تطهير النفس وتهذيبها، وهي الصلاة، فإن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهذب الضمير. والصلاة عمود الدين، ولب اليقين، وتهذيب الوجدان، وتجعل المؤمن يألف ويؤلف، وتصرفه إلى الخير، ولذلك ذكرت على سبيل التخصيص ونصبت حيث الظاهر، لتقدير فعل يدل على الاختصاص، والمعنى أَخُصُّ الصلاة بالذكر؛ لأنها ذكر الله تعالى الأكبر، وبذكر الله تطمئن القلوب، وتصفو النفوس وتهذب الضمائر.

والقسم الثاني: عبادة هي معونة اجتماعية للمؤمنين، فهي عطاء بنية العبادة، وهي تومئ إلى التعاون بين المؤمنين، بحيث يعين القوي الضعيف، والغني الفقير، وكل امرئٍ في حاجة أخيه وعونه كما قال عليه الصلاة والسلام:" الله في عون العبد، ما دام العبد في عونه أخيه "(1)، وكل امرئٍ مهما يكن يحتاج إلى غيره في ناحية، ويمد الغير بالحاجة من ناحية أخرى.

وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك لب اليقين، ونور الايمان وما يكون الرسوخ في العلم والعقيدة؛ فقال سبحانه:

(وَالْمُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فالإيمان بالله جل جلاله، وإدراك معنى صفاته، والإذعان له، واعتقاد أنه فوق كل الوجود وما فيه وأنه القاهر فوق عباده،

(1) جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه، والترمذي: الحدود - ما جاء في الستر على المسلم (1425)، وأبو داود الأدب - في المعونة للمسلم (4946)، وابن ماجه: المقدمة - فضل العلم (225)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (7379)، وابن ماجه: القراءات ما جاء في نزول القرآن على سبعة أحرف (2945).

ص: 1960

ذلك الإيمان بضعف كل شيء، وأنه لَا قادر حق القدرة سواه - هو الذي يتربى به القلب فيؤمن، والجوارح فتذعن، والنفوس فتصفو.

والإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب، وهو أخص عناصر الإيمان، وهو الذي يجعل المؤمن يعرف حقيقة الدنيا، ويصبر على سرائها وضرائها، ولا تذهب نفسه حسرات عند الحرمان، ولا يطغى ويغتر عندما يعطيه، ويعلم أنه مجزي بالصبر، محاسب على ما أنعم الله تعالى به عليه.

وقد بين سبحانه من بعد ذلك جزاء هؤلاء المؤمنين، فقال تعالت كلماته:(أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) أي أولئك الذين نالوا هذه الخصال كلها، فآمنوا بكل الأنبياء وتهذبت ضمائرهم بالصلاة، وتعاونوا فيما بينهم بالزكاة، وآمنوا بالله تعالى حق الإيمان، وصدقوا البعث والنشور، وصبروا في السراء والضراء، هؤلاء المتصفون بتلك الصفات يستحقون بسببها جزاء عظيما. وقد أكد ذلك الجزاء بثلاثة مؤكدات:

أولها - " السين " في قوله (سَنُؤْتِيهِمْ)؛ لأنها لتأكيد الوقوع في المستقبل. وثانيها - إسناد العطاء إلى الله تعالى القادر على كل شيء، وهو لَا يخلف الميعاد.

ثالثها - تنكير الأجر، ووصفه بالعظمة، فهو أجر عظيم لَا يجري في خيال البشر، ويعلمه خالق البشر.

اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم، فينالون رضاك يا رب العالمين.

* * *

ص: 1961

(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)

* * *

الآيات السابقات بينت أحوال القلوب إذا أظلمت، والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا صلى الله عليه وسلم بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره، ولكن الله تعالى منعه منهم، ومكنه من رقابهم.

وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو كمال السلسلة من النبوة التي

ص: 1962

اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة: فقال عز من قائل:

ص: 1963

(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ وَالأَسْبَاطِ).

هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى: (يَسْئَلُكَ أَهْل الْكِتَابِ أَن تنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ. . .).

وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا:(. . . مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ من شَيْءٍ. . .)، مبالغة في إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل، بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل. ولذا قال تعالى:

(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) والوحي في الأصل الإعلام الخفي، والإشارة والإيماء، والإلهام، وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، لَا يكون بطريق الإعلام الظاهر، وقد قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يرْسِلَ رَسولًا)، فالوحي على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب.

والوحي هنا يعم الأنواع الثلاثة من كلام الله تعالى لرسله، كما يدل السياق على ذلك.

والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحي الله تعالى لنبيه الكريم الذي هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية، وبين الوحي للرسل السابقين، وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وبـ " إنَّ " المؤكدة، فقال:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ).

وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نوح عليه السلام، لأنه الأب الثاني للخليقة، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبي البشر، ولأن في ذكره معنى

ص: 1963

التهديد للذين يجحدون ويحاربون الرسالة الإلهية: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).

فذكره تذكير بتهديده، واستجابة الله تعالى لدعائه. وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذي كان بينه وبين إبراهيم أبي الأنبياء من بعده، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد:

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ) وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة " وأوحينا " لتأكيد الإيحاء، وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين نوح عليه السلام وإبراهيم، فإن التكرار في الذكر إيحاء الى التباعد في الزمن؛ ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد نوح، والمذكورين، لأن أولئك جميعا من ذرية إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم، واختلفت أماكنهم.

وإن القارئ يلاحظ أمرين:

أولهما - أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة! فإبراهيم أبو الأنبياء، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل ومثله يعقوب، وقد اختص بالصبر على فراق ولده، وحبيبه، والأسباط، وهم أولاد يعقوب عليه السلام جمع سبط، وهو ولد الولد - مثل للغيرة البشرية تعتري الشباب في فورته وحدته، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله، وتكتمل نفسه، وقد أوحى الله تعالى إليهم، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين، ولعل الوحي إليهم كان من قبيل الإلهام، لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة، وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها، ولد من غير أب، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح، والخروج من سلطان المادة، فله بين الأنبياء خواصه، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين، وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم، وقد قال تعالى فيه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى

ص: 1964

رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84). ويونس عليه السلام إذ تخلى عنه الصبر فهذبه ربه في الدنيا، ثم صار من المخلصين وقد قال سبحانه:(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145).

وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر داود فقال تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) أي كما أعطينا داود كتابا خاصا هو الزبور، والقراءة المشهورة بفتح الزاي، وقراءة حمزة بضمها أي " زبورا "(1)، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب، وعلى الضم يكون جمعا لزِبر بكسر الزاي، والزبر هو الشيء المكتوب، وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل.

ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام، لأن التوراة كانت شرائعها هي النظام المتبع، بل هو حكمٌ ومَواعِظ، وقد قال فيه القرطبي:" الزبور كتاب داود، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ ".

ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى داود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين، إحداهما - أنه كان رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وفصل بين الناس. والثانية - أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا، فكان لَا يأكل إلا من عمل يده، ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش، وهو الذي كان تحت يده كل خزائن ملكه، ويعف عن أن يمد يده إليه، ويأكل من عمل يده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حاله:" إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده "(2) فهو

(1) قرأها بالضم حمزة وخلف وقرأ الباقون بالفتح. غاية الاختصار برقم (795).

(2)

رواه البخاري: البيوع - كسب الرجل وعمله بيده (2073)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (27377) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 1965