الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسلمون، وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام.
هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة، ذكره سبحانه بقوله تعالى:
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) نفَى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا، أن يكون لهم نصراء، وجعل الخطاب موجها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذاق آثار نفاقهم، وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق، لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين، حتى لَا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذي مردوا عليه، ولم يتراجعوا عنه، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق، لتفوز دولة الباطل على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لَا ناصر لهم.
وإن هؤلاء لن يكون لهم نصير يوم القيامة، لأنه لله وحده، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا، لأن النفاق يسلب الثقة عنهم، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم، بل إنهم يستخدمون شرهم، ولا يعطونهم خيرا، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم، فتلك سنة الله تعالى في المنافمَين:(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا).
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أُركسوا في الشر، وطغى على قلوبهم، وأغلق باب الهداية عليهم، حتى أن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه، فغلاف القلوب قد ينكشف ولكنه سبحانه مقلب القلوب، فقد تكون من المنافق توبة، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء:
* * *
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
…
(146)
* * *
الاستثناء هنا منقطع، لأن الذي يتوب التوبة النصوح لَا يمكن أن يعد في صفوف المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار؛ ولذا نقول إن المعنى هو: لكن الذين تابوا من النفاق وخرجوا من صفوفه يكونون مع المؤمنين، وإن أولئك الذين يخرجون من أوكار
النفاق، قد ذكر الله تعالى لهم أوصافًا أربعة هي التي تخرجهم من زمرة المنافقين إلى جماعة المؤمنين.
أول هذه الأوصاف: التوبة، وهي التوبة النصوح، وأركانها ثلاثة - أولها إدراك لقبح العمل ثم الندم على ما كان منه ثم الإقلاع وأن يعزم على ألا يعود إليه من بعد أبدا، فماذا تحققت هذه الأركان فإن الله يفتح قلب العبد لنور الهدى، ويأخذ بيده إلى سلوك طريق الحق المستقيم.
والوصف الثاني: أن يكون التطهير القلبي له مظهر عملي ليقوى، وذلك بالإصلاح، بأن يتجهوا في ذات أنفسهم إلى الأعمال الصالحة التي هي مظهر الإذعان والتوبة، فكل ما يكون في النفس من درن النفاق يطهرها منها بالاستمرار على العمل الصالح ويدوم عليه، فليست التوبة، كلاما باللسان، ولكنها طهارة للوجدان، ومع إصلاح النفص وتقوية عزيمتها يتجه إلى الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها، فلا يفسد بين الناس، ولا يغري بالعداوة بينهم، ولا يخذل أهل الحق، وينصر أهل الباطل، فالإصلاح المطلوب يتضمن عناصر ثلاثة، تطهير النفس من أدناس النفاق كلها، فيخرجها منها كما يخرج الذهب الخالص مما اختلط به، والعنصر الثاني العمل الصالح يقوم به لذات نفسه وللناس، والثالث أن يكون بين الناس عنصر إصلاح وتوفيق، لا عنصر إغراء وتوهين للجماعة.
والوصف الثالث: الذي يلتحق به بأهل الإيمان الاعتصام بالله، والاعتصام به سبحانه هو التمسك باوامره ونواهيه والالتجاء إلى كتابه وسنة رسوله، وهذا هو المذكور في قوله تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)، والاعتصام بالله يقتضي ألا يجد المؤمن ملجا إلا في جماعة المؤمنين، فلا يستنصر بغيرهم، ولا يجعل ولاءه لمن دونهم، فذلك شر بلايا النفاق.
الوصف الرابع: الإخلاص في دين الله، بأن يجعل كل قلبه لله تعالى، ولا يجعل في قلبه مكانا لغير الله تعالى، وأن يجعلوا طلبهم الدين لأجل الله تعالى لا لدنيا يصيبونها، ولا لهدف غير الإيمان يستهدفونه، فيطلبون الحق لوجهه، وينفذون كل
أوامر الدين لله، ويتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله "(1).
إذا تحققت هذه الأحوال دخلوا في الجماعة المؤمنة، ولذا قال سبحانه:(فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) أي فأولئك الذين اتصفوا بهذه الأوصاف بسببها يخرجون من صفوف المنافقين إلى صفوف المؤمنين، فالإشارة في قوله تعالى (فَأُولَئِكَ) للسابقين، وهم قد عرفوا بأوصافهم، فكانت الإشارة إليهم موصوفين بها، وكانت هذه الأوصاف هي السبب في ارتفاعهم من دركة النفاق السفلى إلى درجة أهل الإيمان العليا، وذكر الله سبحانه وتعالى هذه المعية للمؤمنين لشرف الصحبة مع الأخيار الأبرار، بعد طلبهم النصرة من الأشرار الكفار، فهذا دليل على الرفعة في الصحبة بعد الانخفاض فيها، كما ارتفعوا عند الله، والإشارة بالبعيد للدلالة على رفعة منزلتهم بالتوبة، وفي كل ذلك تحريض عليها وترغيب فيها فإن الله تعالى يحب توبة عبده، وهو الغفور الرحيم، العزيز الكريم.
وإنهم إذا كانوا مع المؤمنين، فإن لهم جزاءهم وقد وعد الله المؤمنين جزاء عظيما، ولذا قال سبحانه:
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) والأجر هو الجزاء، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما - أن التعبير بـ " سوف " لم يكن استعماله في القرآن، وهو أحكم الكلام للدلالة على مجرد التسويف الزماني، بل هي لتأكيد الوقوع في الأمر المستقبل، وكأن المعنى أنه من المؤكد أنه سينزل المؤمنون بمقام الرضا والجنات في قابل أمرهم كما ظفروا بالرضا والنصر، والتأييد في عاجلهم.
ثانيهما - تنكير الأجر إذ قال " أجرا عظيما "، فنكر الأجر ووصفه بالعظم، والتنكير هنا للتعظيم، فكأنه قد أكد عظم هذا الأجر مرتين مرة بما تضمنه معنى التنكير، ومرة أخرى بالتصريح بوصف العظم، وإن جزاء الله لعظيم أيَّ عِظَم.
(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث.