الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجالس، والمعنى على هذا: ولا تكن أيها الرسول الأمين مخاصما لأجل الخائنين، بأن تجعل فكرك ينحاز إليهم قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.
وسُمي هؤلاء خائنون؛ لأنهم في علم الله كانوا كذلك، وهو يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخيانتهم، والله تعالى خير شاهد.
وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز، لكي يستمع إلى البينات منصفا مقدرا، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق، ولا يوجهها.
وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته؛ لأنه لَا يدري: لعله أصاب الباطل! والعصمة لله تعالى وحده، ولأنبيائه، ولذا قال سبحانه:
* * *
(وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
(106)
* * *
الأمر في ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في عمومه لكل أمته، ولكل قاض يفصل بين الناس. وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي، وإلى كل مؤمن تقي، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة. وإذا كانت القصة قد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم تبادر إلى ذهنه براءة خائن، فإن هذا ليس بذنب، ولكنه يوجب الاستغفار من الرسول، فإن علو مقامه يجعل مثل هذه التي لَا تعتبر ذنبا من الناس، موجبة للاستغفار، على حد قول العلماء:(حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وفوق ذلك فإن طلب الاستغفار، مع ما فيه من القنوت والطاعة، حث لكل قاض يفصل بين الناس على الاستغفار في كل قضية، وقد بين سبحانه أن هذا الاستغفار الضارع يقبله الله تعالى؛ لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها، صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
وقد أكد سبحانه اتَصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات: أولها - (إنَّ) التي تفيد التوكيد، وثانيها - (كان) التي تفيد الاستمرار، وثالثها - صيغة المبالغة في غفور ورحيم، ورابعها - الجملة الاسمية.
اللهم لَا تجعلنا في جانب الخائنين والعصاة، واجعلنا مع الأبرار الأتقياء.
* * *
(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
* * *
الكلام مستمر في نهي المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمِّل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين، ويتحمل إثمين: إثم الارتكاب وإثم رمي الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهي موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لَا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ينزل عليه الوحي، إن اعتمد على نظره، قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر، وقد قال سبحانه:
(وَلا تجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ) الجدال هنا الدفاع وإقامة الدليل لمصلحة الخائنين، وذلك للاسترسال في حسن الظن بالمظهر، وترك ما يختفي ولا يستبين، فإن ذلك إن جاز في السياسة لَا يجوز في القضاء، وإن جاز في حقوق الله تعالى لَا يجوز في حقوق العباد، ليعطي كل ذي حق حقه، ولكيلا تذهب الأموال والأنفس والدماء هدرا، فلا بد لإظهارها من تكشف المستور، وإظهار المخبوء.
والجدال في أصل معناه اللغوي مشتق من الجدْل بمعنى الفتل، أي تقوية الحجة، ويكون المجادل كمن يفتل الحبل ويقويه. وقيل إنه مأخوذ من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكل واحد من الخصمين يكون كالمصارع يريد أن يلقى صاحبه على الأرض. وإطلاق الجدالة على الأرض منه قولهم: تركته مُجَدَّلا، أي مطروحا على الأرض.
والاختيان، الذي هو مصدر (يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ)، يُعَرِّفه الأصفهاني في مفرداته بأنه:" تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة "، وتحرك الشهوة لتحري الخيانة قصد إليها وَتَعَمُّد لها، وعمل على إحكامها. والخيانة والنفاف باب واحد، موضعهما من النفس واحد.
ومعنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ): الذين يقصدون خيانة أنفسهم، ويتحرونها، ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم. وأضيفت الخيانة للنفس؛ لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما، يعود ضرره على الجماعة، ويعود عليهم أنفسهم، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها، وارتابت في شئونها، وضَلَّ عن الناس معرفة الحق، وغاب عنهم لبُّه!! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى، وسيحاسبهم عليها من لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة، إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيصيب الفساد نفوسهم، وتنحل كل العُرَا فيها، وبذلك تضطرب، وتكون في بلبال مستمر:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهِم، فإنهم لَا ينالون حب الله تعالى، والمعنى الظاهر للنص:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ من كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) هو أن الله تعالى العلي الحكيم، الذي لَا تُرجى محبةَ سِواه، لَا يحب من كانت الخيانة وصفا