المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكونَ لِلنَّاسِ عَلَى - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكونَ لِلنَّاسِ عَلَى

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). أي لكي يسقط كل اعتذار للعصاة في عصيانهم بعد البيان الحكيم والإرشاد المبين فمن ضل فعن بينة، والله سبحانه برحمته وفضله ومنه يسمى ذلك حجة عليه. (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23).

وقد قال المعتزلة: إن لله دائما الحجة على خلقه بالعقل الذي أودعه خالقهم، وهو هاد مرشد، ولكن إرسال الرسل رحمة من الله تعالى، ولذا قال الزمخشري في تفسير النص: الرسل منبهون من الغفلة وباعثون على النظر كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد (أي المعتزلة) مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف، وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.

والحق أن الناس لَا يهتدون في جملتهم إلى الشرائع الصحيحة، بل هم بعدها مراتب منهم من يهتدون بمجرد بيان الحق، ومنهم من لَا يقنعون إلا بالبرهان الملزم، ومنهم من لَا يطيعون إلا بالتهديد ومنهم عصاة جائرون بائرون.

وقد ختم سبحانه الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي أنه القادر الغالب على كل شيء وهو الحكيم، الذي يدبر الأمر بحكمته وعزته.

* * *

ص: 1968

(لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‌

(166)

* * *

جحد أهل الكتاب وكفروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا اليه أن يأتي بشهادة من عند الله، وعينوا الشهادة بأن تكون كتابا كما قال تعالى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ. . .)، فرد سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى (لَكِنِ اللَّه يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) فالاستدراك هنا عن مستدرك من كلامهم وجحودهم، فالمعنى إذا كانوا لَا يقرون بالحق، ويذعنون له، فالله تعالى شاهد بالحق وأي بينة أجل من بيان الله تعالى تلزم المنكرين أنى يكونون، والشهادة هي قول الحق المبني على اليقين القاطع، وشهادة الله أقوى وثيقة في هذا الوجود،

ص: 1968

وكانت شهادته بالإعجاز في القرآن المحكم الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد أنزله الله تعالى بعلمه، وإرادته وحكمته، فهو حجة النبي صلى الله عليه وسلم وشهادة الله تعالى بالصدق. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله تعالى، وشهادتهم تكون يوم القيامة، يوم الحساب والعقاب، فشهادة الله تعالى للنبي وعليهم، وشهادة الملائكة عليهم يوم الحساب والعقاب.

وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي أنه لَا عبرة بإنكار المنكرين بعد شهادة الله تعالى، ففيها عزة الحق وخفض الباطل، ولم تذكر هنا شهادة الملائكة لأنها تبع لشهادة الله تعالى، وفي ذكر المتبوع غناء عن التابع، والله سبحانه وتعالى على كل شيء شهيد.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)

* * *

في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين، وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة، والبينات الباهرة، ومع ذلك يستمرون في إنكارهم، ويلجون في عنادهم، ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى، والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء،

ص: 1969

وإنكارهم لَا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم، بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم، وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية، حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وإنهم لخالدون فيها، وقد قال سبحانه وتعالى:

ص: 1970

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ فلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا)" صدَّ " يستعمل متعديا، ومصدره " الصد "، وقد تستعمل كلمة " صَدَّ " لازما، ويكون مصدرها الصدود، وقد جاء في مفردات الأصفهاني معنى الصد: " الصد والصدود قد يكونان انصرافا عن الشيء، وامتناعا، نحو (يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا)، وقد يكون صدا ومنعا نحو:(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)، ونحو: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ

)، وكما قال تعالى:(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ)، ".

والصد هنا في هذا النص الكريم بمعنى التعدي، فمعنى النص السامي، إن الذين جحدوا بالحق إذ جاءهم ولا يكتفون بانصرافهم عن الإذعان والإيمان، بل يصدون غيرهم، ويمنعونهم من الحق بإثارة الشبهات، وإيقاد الفتن بين المؤمنين، يوغلون في الضلال، ويسيرون في طريقه سيرا بعيدا.

ويتضمن ذلك المعنى أمورا:

أولها - أن الكفر بطبيعته انصراف عن الحق وصدود عن طريقه، ولذلك فسرنا كلمة (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) بمعنى منع غيرهم من سلوك الأقوم والهادي إلى الحق الذي لَا ريب فيه، وإن الذي يصد غيره قد ابتدأ بصد نفسه، فالمضل لغيره هو في ذات نفسه ضال، فإن الإضلال من ثمرات الضلال، ولا يضل الناس إلا ضال، وقد ضل مرتين إحداهما بإنكاره للحق، والثانية بمحاولته إضلال غيره.

وثانيها - أن الضلال البعد عن الطريق المستقيم فمن ضل فقد بعد عن الحق، ومن أضل غيره فقد بعد عن الحق بمقدار أوسع، وهكذا كلما سار في التضليل،

ص: 1970