المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‌

(45)

* * *

هذا وصل لما ابتدأه الله سبحانه وتعالى من بيان مكانة التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، إذ قد بين سبحانه وتعالى أن التوراة فيها هدى ونور، وأنها قد طبقت أزمانا، وأن الذين طبقوها أنبياء موحى إليهم، وفقهاء استخلصوا أحكامها، وأرشدوا الناس إلى معانيها مؤمنين بها، ونفذها ربانيون يحكمون بالحق مبتغين مرضاة الله تعالى، ولا يبغون عن الحق حولا.

وفى هذه الآيات يبين الله تعالى من شريعة القصاص، فقد قال تعالت كلماته:(وَكتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).

ومعنى النص الكريم أننا فرضنا وقررنا حكما مكتوبا خالدا غير قابل للمحو في أي عصر من العصور أن النفس مقابلة بالنفس تؤخذ بها، وتكون بدلا، النفس مأخوذة بالنفس، أو أن النفس عنها، فالباء هنا للمقابلة، كمقابلة بين الثمن والبيع، فكما أن المقابلة تكون في البيوع تكون في النفوس إذا اعتدت، وتصير نفس الجاني كأنها شيء من الأشياء وهو الذي أهانها.

وقوله تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يبين أن النفس بعمومها من غير تخصيص مقابلة بالنفس بعمومها من غير تخصيص، فالعبرة بالتساوي في الإنسانية، وفي النفس الآدمية، فلا تفاضل بين نفس غني وفقير، ولا نفس أمير وخفير، فالنفس بالنفس إن كان اعتداء، ونفس المرأة كنفس الرجل على سواء، ولا التفات لقول

ص: 2205

الشذاذ الذين قالوا: إن نفس المرأة دون نفس الرجل، وبمثل قول هؤلاء الشذاذ كان يقول بعض الطوائف من اليهود، كما أخبر ابن عباس رضي الله عنه، وكان ذلك النص الكريم للرد عليهم، وبيان الحق الذي جاءت به التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وإن نفس الحر كنفس العبد بمقتضى ظاهر هذا النص الكريم، لأن كليهما يشترك في وصف الآدمية، وبذلك جاء الحديث النبوي الكريم:" من جوع عبده جوعناه، ومن قتله قتلناه "(1) فإن هذا الحديث صريح في المساواة بين نفس الحر ونفس العبد، ولو كان القاتل له مالكه الذي يملكه.

وإن هذا غير رأى جمهور الفقهاء إذ إنهم ينظرون إلى مالية العبد، ولا ينظرون إلى آدميته، وأما الذين قرروا أن السيد يقتل في نظير العبد، وأن العبيد يقتص لهم من الأحرار بمقدار ما أجرموا، فإنهم نظروا إلى آدميته والمساواة في النفس الإنسانية من غير نظر إلى كونه مملوكا أو مالكا، ومن غير نظر إلى كونه رقيقا أو حرا.

ولنا أن نقرر أن المساواة في الدماء بين الأحرار والعبيد هي الأمر الذي يتناسب مع مقاصد الإسلام إذ إن مصادر الإسلام وموارده تقرر منع ظلم العباد الذين كتب عليهم الرق، ولا شك أن أبلغ الظلم أن يقتلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أوصى بالرحمة بهم، ولا شك أنه من الرحمة بهم احترام نفوسهم، وصيانة دمائهم، وأن الرق أمر عارض بالنسبة للعبيد، ولا يصح أن يكون الأمر العارض مزيلا للمعنى الإنساني الأصيل، بل هو ثابت فيهم لا يزول.

والنصوص العامة المتضافرة مثبتة وجوب القصاص في الأنفس من غير تفرقة بين نفس حر ونفس عبد، فالله تعالى يقول: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي

(1) سبق تخريجه.

ص: 2206

الأَلْبَابِ. . .). ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا أذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. . .).

والمقابلات التي جاءت في الآية من بعد، إنما هي لبيان اتحاد الأنفس ولنفي ما كان عليه أهل الجاهلية من تفرقة بين النفوس. بدليل تضافر الفقهاء على قتل الأنثى بالرجل، والرجل بالأنثى خلافا لبعض الشذاذ.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكأفا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم "(1). ومن التكافؤ في الدماء أن يقتل الحر بالعبد المسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: " دماؤكم وأموالكم حرام عليكم "(2). ولم يفرق بين عبد وحر، ولو كان الحر لَا يقتل بالعبد، يكون ذلك في معنى إباحة دماء بعض المسلمين، وفوق ذلك ما ورد بالنص على أن المالك يقتل إذا قتل مملوكه الذي رويناه من قبل، والذي قرر أن العبد إذا قتله مولاه قتل به.

وقد استدل جمهور الفقهاء بما روى من أن علي بن أبي طالب قال: " إن رجلا قتل عبده عمدا متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه عاما ومحا سهمه من المسلمين "(3)، وما روى من أن عمر رضي الله عنه قال: لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقاد المملوك من مولاه، ولا الوالد من ولده "(4)، لأقدته منك يخاطب من قتل عبده.

(1) سبق تخريجه.

(2)

جزء من حديث رواه البخاري: العلم - رُبَّ مبلغ (67)، ومسلم: القسامة والمحاربين - تغليظ تحريم الدماء والأموال والأعراض (1679).

(3)

عَنْ عَلِي وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدهِ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَهُ عَمْدًا مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً وَنَفَاهُ سنةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. رواه ابن ماجه: الديات - هل يقتل الحر بالعبد (2664). والسهم النصيب من الغنيمة.

(4)

روى أحمد: مسند العشرة (99) عَنْ مُجَاهد قَالَ: حَذَفَ رَجُلٌ ابْنًا لَهُ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوْلا أني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لا يُقَادُ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ لَقَتَلْتُكَ قَبْلَ أنْ تَبْرَحَ ".

ص: 2207

وما روي من أن أبا بكر وعمر قالا: من قتل عبده جلد مائة، وحرم من سهم المسلمين. هذا ما استدل به جمهور الفقهاء، ونرى أنه لَا يقف أمام عموم النص، وأمام النص الخاص الذي رويناه، وفوق ذلك هو وارد في قتل المالك المملوك، وقد عارضه النص الصريح.

ولهذا نرى الأخذ بالمبدأ الإسلامي العام الذي يقرر حقوق العبيد على مواليهم ويحدد حقوق الموالي، وليس منها إباحة دمائهم.

(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) هذا النص فيه القصاص بين الأطراف، فالعين تفقأ بالعين، أي أنها في مقابل العين أيضا، فـ " الباء " هنا باء المقابلة التي تدل على أن شيئا في مقابل شيء، وهي تدخل على المتروك، فالنفس المجني عليها تؤخذ بها النفس الجانية، والعين المجني عليها تؤخذ بها عين الجاني، وكذلك أنف الجاني تؤخذ بالجدع في نظير أنف المجني عليه، وكذلك أذن الجاني تصلم (1) في نظير أذن المجني عليه، وكذلك سنه بسنه، ومثل هذه في الحكم اليد باليد والرجل بالرجل، والإصبع بالإصبع، وهكذا كل طرف من الأطراف يمكن أن يجري فيه القصاص، فالقصاص ليس مقصورا على ما اشتمل عليه النص من العين والأنف والأذن والسن، بل يشمل هذا وغيره مما يمكن أن يتحقق فيه معنى القصاص، وقد أيدت ذلك النصوص القرآنية، فالله تعالى يقول:(. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .).

ويقول سبحانه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقبُوا بمنلِ مَا عُوقبْتُم به وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ).

وهنا يجري القول في تساوى الأعضاء يالنسبة للأشخاص، فأشخاص النساء كالرجال، والأحرار كالعبيد على النحو الذي بينا من حيث قاعدة المساواة المطلقة

(1) أي تقطع أذنه، والصَّلْم الاستئصال، والأصلم: مقطوع الأذن، وهي صلماء، والجمع: صُلُم.

[الوسيط - صلم].

ص: 2208

فى الإنسانية المعتدى عليها، وقد خالفنا بذلك النظر جمهور الفقهاء بالنسبة للمساواة بين الأحرار والعبيد، ووافقنا جمهورهم في المساواة بين الذكر والأنثى، وقررنا أن الذين خالفوا في ذلك من الشذاذ، كالطائفة التي قالت ذلك من بني إسرائيل، بل جاء النص الكريم الذي نتصدى الآن للكلام في معناه يرد الحق إلى نصابه، ويبين أصل الحكم في التوراة التي نزلت على موسى.

وجمهور الفقهاء على أن من يجري القصاص فيه في النفس يجري القصاص في الأطراف بالنسبة له، فأطراف المرأة كأطرف الرجل على سواء بينهما فإذا فقأ عين امرأة تفقأ عينه، وإذا كسر ثنية امرأة تكسر ثنيته.

وقد خالف فقهاء الحنفية جمهور الفقهاء، فلم يقرروا المساواة بين أطراف الرجل وأطراف المرأة، وبنوا ذلك على قياس عندهم قرروا فيه، أنه يلاحظ في الأطراف المنافع، ولا شك عندهم في منافع الأطراف عند النساء دون منافع الأطراف عند الرجال.

وفى الحق أن رأي الحنفية بنوه على قياس في معان ارتأوها، فقالوا: إن العبرة في الأطراف بمنافعها، ومنافع أطراف المرأة دون منافع أطراف الرجل، وإن الرأي لَا يقف أمام عموم النصوص والنصوص العامة لَا تخصص بالقياس، على أن القياس في ذاته غير سليم، لأن من المنافع المؤكدة ألا يكون الجسم شائها، والتشويه أضر بالمرأة من الرجل.

وقبل أن نترك الكلام في القصاص في النفس والأطراف لَا بد أن نشير إلى أمور ثلاثة:

أولها - أن جمهور الفقهاء قرروا أن الجماعة تقتل بالواحد، وقد يقول قائل: إن ذلك لَا يتفق مع معنى القصاص الذي أساسه التساوي، فلا تساوي بين الواحد والجماعة، وبذلك قال بعض الفقهاء، والحق ما عليه الجمهور؛ لأن كل واحد من الجماعة قد اشترك في القتل، فيسمى قاتلا، وقد أزهق نفسا فتؤخذ بها نفسه،

ص: 2209

ولأنه اعتدى على حق الحياة، فكان الجزاء أن تؤخذ حياته، ولأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وقد قال سبحانه:(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. . .).

وإن القصاص شرع للزجر العام، ولحفظ الدماء، ولو أعفى الشركاء في القتل من القصاص لكان من السهل على من يريد قتل إنسان أن يشرك معه غيره، فلا يكون قصاص من أحدهما، ولذلك شدد عمر وغيره من الصحابه في ضرورة قتل الجماعة بالواحد، وقد روي أن رجلا قتله جماعة بصنعاء، فاقتص عمر رضي الله عنه منهم، وقال رضي الله عنه " لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم. ثانيها - أن المساواة في الأطراف من حيث السلامة لازمة للقصاص، فلا تقطع السليمة في مقابل المعيبة، ولكن لَا يشترط التساوي من حيث القصر والطول، ولا من حيث الضعف والقوة، ما دام كلتا الجارحتين سليمة.

وحيث يتعذر التساوي لَا يكون القصاص بل تكون الدية، ويجب مع ذلك التعزير شفاء لغيظ المجني عليه.

ثالثها - أن بعض الذين لَا يدركون الأمور على وجهها يقولون: إن القصاص في الأطراف يكثر المشوهين، ويقلل المنافع، ويضعف إنتاج الأمة، والجواب عن ذلك أن القصاص في الأطراف من شأنه أن يقلل التشويه ويكثر النفع، لأنه إذا علم المعتدي أنه سيقطع طرفه إن قطع طرف غيره، وأنه ستفقأ عينه إذا فقأ عين غيره، فإنه سيكف عن الاعتداء، وبذلك تصان الجوارح جميعا، فلا - يكون إيذاء، وبذلك يقلل عدد المشوهين ولا يكثر، ويكثر النفع ولا يقل. (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) والجروح غير قطع الأطراف المتميزة التي يجري فيها التماثل، مثل الشجاج بكل مراتبها، ومثل الجروح في أجزاء الجسم، وفصل بعضها عن بعض، والقصاص المقاصة، أي العقوبة بما يساوي الجريمة وما أنزلت

ص: 2210

من أذى، والمعنى هنا أن الجروح ذات قصاص أي يجري فيها القصاص بالمساواة بين الجريمة وعقوبتها على أن تكون من جنسها وفي الوضع الذي كان فيه الجرح، فإن تعذر التساوي فإنه تكون دية الجريمة ويعبر الفقهاء عن العويض بالأرش.

والتعزير مع هذا ثابت شفاء لغيظ المجني عليه، ومنعا لإهدار الدماء بالثارات، وتبادل الأذى.

والقصاص يجري في الجروح إذا أمكنت المساواة على ما أسلفنا، ومهما يكن فالقصاص متى أمكن، ولو بالتقارب أولى، فإن المساواة من كل الوجوه غير ممكنة، فإن الأجسام متفاوتة، وآثار الجروح فيها متفاوتة، والأذى فيها غير ثابت المقدار حتى يقاس بالأشبار.

ولا شك أن القصاص الممكن، والتعزير مع الأرش (1) إن لم يكن هو أقرب إلى العدالة، وإلى حقن الدماء، واحترام الأنفس والمحافظة على الكرامة الإنسانية والمساواة هو الأردع للجناة، فإن من يعرف أنه ستُشَج رأسه إذا شج رأس غيره لا يقدم على الأذى، بل يتردد، وأنه كلما كانت العقوبة من جنس الجريمة كان ذلك مع عدالته أشد زجرا وتأثيرا، وإنه من يوم أن تغيرت العقوبة عن الجريمة استهين بالأنفس والأطراف، وأهدرت الدماء.

وهناك أمر اختلف فيه الفقهاء: أيجري القصاص في الضرب، كما يجري في الجروح؟ الظاهر ذلك من روح الشريعة وما تومئ إليه نصوصها وهو ما كان يسير عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وقد قاله بعض الحنابلة والظاهرية،

(1) الأرْشَ: ما يؤخذ عوضا عن كسر أو جرح. روى البخاري: الصلح - الصلح في الدية (2703) عن أنس أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ:«يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ» ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» زَادَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ.

ص: 2211

ولكنّ الكثيرين من الفقهاء لَا يلزمون بالقصاص في الضرب واللطم، بل يجرون فيه التعزير، وقد يكون بالتوبيخ. أو بالحبس أو بالضرب، وحجتهم أن الضرب واللطم لَا يمكن أن يجري فيه القصاص، بل المماثلة متعذرة، وحيث تعذرت قام التعزير مقامه في العقاب، والتعزير يكون على حسب تقدير القاضي المفوض إليه أمره.

وإننا نختار القصاص؛ لأنه الأقرب إلى العدالة، ولأنه يشفي غيظ المجني عليه، ولأنه هو الذي دعا إليه السلف الصالح وكانوا يسيرون على أساسه، وقد أيد ذلك النظر ابن القيم فقال رضي الله عنه:

" إن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل، كما قال تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا. . .)، وقال سبحانه (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .)، وقال عز من قائل:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صبرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ)

، فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص، فيجب اعتبارها بحسب الإمكان، والأمثل هو المأمور به، فهذا الملطوم المضروب قد اعتدى عليه، فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به، فإن لم يمكن كل الواجب كان ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه، ولا ريب بأن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلها بالآلة التي لطمه بها، أو بمثلها، أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته، وهذا هَدْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومحض القياس " ثم يقول: " فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع الصحابة، وهذا ظاهر القرآن، وهذا محض القياس فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد، وقالوا: اللطمة والضربة لَا يمكن فيها المماثلة، والقصاص لَا يكون إلا مع المماثلة، ونظر الصحابة أكمل وأصح، وأتبع للقياس، كما هو أتبع للكتاب والسنة، فإن المماثلة من كل الوجوه متعذرة، فلم يبق إلا أحد أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو

ص: 2212

تعزير بعيد عنها، والأول أولى؛ لأن التعزير لَا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل يعزر بالسوط أو العصا، وقد يكون من لطمة أو ضربة بيده، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد، وقد يزيد وينقص، وفي العقوبة بجنس ما فعله تحرٍّ للمماثلة بحسب الإمكان، وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله تعالى به وأنزل به الكتاب والميزان، فإنه قصاص بمثل ما نزل بذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب به بقدره، أو يزيد قليلا أو ينقص قليلا، وذلك عفو لَا يدخل تحت التكليف ".

سقنا هذا الكلام مع طوله لأن فيه توضيحا للنظرة الإسلامية السليمة في المساواة والتماثل بين الجريمة والعقوبة، وإن ترك تلك السنة إلى التعزير أدى إلى التفاوت بين الناس في العقاب، وذلك ما لَا يقره الكتاب ولا السنة ولا يؤيده قياس، بل يؤيده أعراف فاسدة، وأخذ ظالم بنظام الطبقات المفرِّق. (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفَّارَةٌ لهُ) الكفارة ستر الذنوب، بألا يحاسب عليها بين يدي الله تعالى، بل يغفرها الله تعالى له ويسترها فلا يظهرها، بل تكون عند الله تعالى من التائبين المنيبين إليه سبحانه، تقدست ذاته، وتعالت صفاته.

وهذا النص يفتح باب التسامح من المجني عليه، وهذا يدل على أن العقوبة لم يقصد بها الانتقام المجرد، بل قصد الزجر، وإشعار الجاني بأن سوط العقاب مسلط عليه؛ ولذلك دعا القرآن الكريم إلى العفو إن كان له موضعه، فقال تعالى:(. . . فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. . .).

فكان في هذا النص تحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حكم بالقصاص دعا إلى العفو، ولكن بعد أن يعطي لولي الدم أو المجني عليه زمام الأمر وتمكينه من القصاص ليشفي غيظه، ويردع الجاني بجعل حياته أو جسمه رهن إشارته.

وفى قوله تعالى: (فَمَن تَصدَّقَ بِهِ) الضمير يعود إلى القصاص، والمعنى من تصدق بهذا القصاص على الجاني، فإنه صدقة كسائر الصدقات، والصدقة كما

ص: 2213

قال عليه الصلاة والسلام " تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار "(1) وإذا كان العفو صدقة فهو كفارة ساترة للذنب مذهبة للعقاب، ويرجى معها الثواب، وقد قال تعالى:(. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .).

ومذهب الإسلام في إلزامه القضاء الحكم بالقصاص وفتح باب العفو - توسط بين ما جاء في التوراة من القصاص، وما جاء في المسيحية من عفو، فكان المسلمون أمة وسطا.

ويلاحظ أن العفو أو التصدق بالقصاص يسقط حق المجني عليه، ولكن لا يسقط حق المجتمع من ضرورة العمل على منع ارتكاب الجرائم، فلولي الأمر أن يحكم بتعزيره إذا عفا ولي الدم، والتعزير عقوبة غير مقدرة يراها ولي الأمر رادعة.

(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ) ختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة، وفيها إشارة إلى أن هذا القصاص حكم الله تعالى الذي لا يتغير ولا يتبدل؛ ولذلك كان في شريعة موسى عليه السلام، وفي شريعة النبيين من بعده، وجعلها القرآن الكريم شريعته، وفيه إشارة إلى أن العدالة التي أوجبتها المساواة بين الجريمة وعقوبتها من غير هوادة من أخذ المجرم بجريمته إذا أصر عليها ولي الدم أو المجني عليه - هي حكم الله تعالى الخالد الباقي المنزل على رسله.

ونجد النص هنا يحكم بأن من لم يحكم بما أنزل الله تعالى يكون ظالما، وفى الآية السابقة نص على أنه كافر، والسبب الذي يظهر لنا في ذلك أن الآية الأولى كانت تذكر ما اشتملت عليه التوراة من هداية ونور، فكان الذين لَا ينفذون أحكامها مع ما هي عليه منكرين لتلك الأوصاف العالية التي اشتملت عليها من غير تبديل، فكانوا بذلك كافرين، أما هذه الآية فإنها تشتمل على أحكام عملية، فعدم الأخذ بها يتضمن ظلما؛ لأنها عدل في ذاتها، ومشتقة من قانون الفطرة

(1) سبق تخريجه.

ص: 2214

الإنسانية. . وفق الله تعالى المسلمين للعمل بشريعته، والأخذ بكتاب الله وسنة رسوله فبهما عزُّوا، وبهما يعتزون إن شاء الله تعالى.

* * *

(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

* * *

ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالتوراة من وجوب التزام أحكامها، وتنفيذها، وأنه قد نفذت تلك الأحكام على يد النبيين، وطبقوها على أكمل وجوه التطبيق، وجاء من بعدهم العلماء الذين فقهوا معانيها ودونوا فقهها، والقضاة الذين خلصوا أنفسهم من أدران الهوى، وسلطان الشهوات، حتى صاروا ربانيين يقومون على الحق والقسط، ويشهدون الله على ما يفعلون، فهم شهداء الله تعالى، لَا يخضعون لغيره، ولا يريدون إلا رضاه، ولا يبتغون غير سبيله سبيلا.

وفى هذا النص الكريم يذكر سبحانه أن عيسى عليه السلام جاء من بعدهم يصدق ما بين يديه من التوراة، وأتى معه بالإنجيل وفيه أحكام مقررة للتوراة، أو ناسخة أو مبينة، وأن على أهل الإنجيل الذين نزل عليهم وخوطبوا به أن يطبقوه، حتى تأتي الأحكام الخالدة القررة الثابتة إلى يوم القيامة التي نزلت بها شريعة القرآن كما ستدل على ذلك النصوص القرآنية التالية.

ص: 2215

(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي أرسلنا من بعد الذين حكموا بالتوراة من النبيين كداود وسليمان ومن قبلهما ومن بعدهما

ص: 2215

- بعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مقتفيا آثارهم مصدقا لما بين يديه من التوراة. . . وهنا بحوث لفظية تتبين من ذكرها معاني النص الكريم: أولها - في معنى " قفينا "، فقد قال علماء اللغة ومفسرو البيان: إن " قفَّى " معناه عقب، ويقال قفَّيته بكذا أي أتبعته به، وهنا نجد المفعول محذوفا، فلم يكن النص قفيناهم بعيسى ابن مريم، وحذف لأن كلمة (عَلَى آثَارِهِم) تدل على المحذوف، إذ إن المحذوف هو النبيون السابقون الذي يحكمون بالتوراة، وكلمة " على آثارهم " تدل على أنهم هم الذين اقتفيت آثارهم.

وذكر كلمة " على آثارهم " تدل على أن عيسى عليه السلام لم يكن بدعا من الرسل، بل سبقه آخرون سلك مسلكهم في إقامة التوراة وما بقي منها غير منسوخ بحكم ما جاء في الإنجيل، وآثار أولئك النبيين هي الحكم الخالص لله الذي اتبعوه في تنفيذ أحكام التوراة، فآثارهم معنوية وليست مادية.

وقال علماء الاشتقاق في اللغة: إن كلمة قفى مأخوذة من القفا، وهو مؤخر الرقبة، يقال: قفا أثره إذا جاء من ورائه واتبعه في سيره حسا، ثم صار يطلق على السير وراءه معنى، كالشأن في كثير من الألفاظ التي تدل على معان حسية، فإنها تنتقل من بعد إلى مدلولات معنوية.

ثاني الأمور البيانية - هو في ذكر عيسى في القرآن مقرونا بكلمة " ابن مريم "، لأن ذلك يتضمن ولادته الحسية منها، وأنه قد تكون جسمه من جسمها كسائر كل المولودين من أمهاتهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه محدث ككل المحدثات، وأنه كان من بعد أن لم يكن، وأنه لَا نسب له إلا من جهة أمه البتول عليها وعليه السلام، فليس له أب، وليس ابن الله تعالى، بل هو ابنها وحدها، ولا نسب له إلا إليها.

ثالثها - قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). وتصديق سيدنا عيسى للتوراة، لأنها كتاب في أصلها منزل من عند الله تعالى، فعيسى عليه

ص: 2216

السلام يصدق أصل نزولها، وينفذ أحكامها إلا ما جاء نسخه في الإنجيل منها، ولو سايرنا الواقع عند النصارى في هذه الأيام لكان لذكر كلمة التصديق في هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول، بل بالتنفيذ، لأن الإنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة، وليس ثمة نص قاطع في الأناجيل التي بين أيدينا يغاير ما جاء في التوراة من أحكام تتعلق بالأسرة، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاص، ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح عليه السلام تدل على العمل بأحكام التوراة، مثل قوله عليه السلام:" ما جئت لأنقض الناموس " وهو التوراة، ولعل التعبير بآثارهم يدل من بعد أو قرب على معنى هذا التصديق العملي، فضلا عن التصديق الاعتقادي والقولي.

وكلمة " بين يديه " تعبير قرآني، للدلالة، على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى عليه السلام وعلمها عنده، وهو علم خالي من التحريف والتبديل، أوحى الله تعالى به إليه، ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ القائم من الاستعارات الرائعة، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى ابن مريم عليه السلام كعلم المحسوس يكون موضوعا بين يديه.

ومن الفروق الدقيقة أن الله تعالى عبر عن مجيء عيسى بالإنجيل بقوله تعالت كلماته: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم). وعندما أخبر عن مجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن قال تعالت كلماته: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. . .). فهو ليس منفذا، ولكن هو مسيطر وحاكم على ما سبق من كتب.

(وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) عقب السيد المسيح عليه السلام الأنبياء الذين نفذوا أحكام التوراة، وطبقوها تطبيقا دقيقا من غير هوادة، ولا ظلم، ولا شطط مع الضعفاء، ومحاباة للأقوياء، وقد أعطاه الله تعالى قوة في رسالته، فأعطاه كتابا هو الإنجيل، وهو البشارة برحمة الله

ص: 2217

تعالى، والبشارة بمجيء نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم والتعبير بـ " آتيناه الإنجيل " فيه إشارة إلى تقوية ما جاء به، وإشارة إلى أنه ليس كل ما في التوراة نافذا وإن كان جله نافذا، وخصوصا ما يتعلق منه بتنظيم المجتمع في كل درجاته من الأسرة الصغرى إلى الأسرة الكبرى، وهي الإنسانية في أقاليم الأرض، فالإنجيل قد جاء بشريعة متممة لما جاء في التوراة من غير نقض لها.

وقد وصف الله سبحانه الإنجيل بأوصاف ثلاثة، وبين أنه مشتمل على أمرين، وجملة ما ذكر القرآن الكريم - تعالت كلمات الله - أن فيه خواص خمسا؛ وهي أن فيه هدى، وأن فيه نورا، وأنه مصدق للتوراة، وأنه هو ذاته هدى، وأنه موعظة للمتقين.

ولنتكلم بكلمات موجزات في معاني كل خاصة من هذه الخواص، لتتبين المغايرة بينها، ولتتميز كل خاصة عن أخواتها وإن كانت متقاربة في معانيها، ومتلاقية في غايتها:

والخاصة الأولى - أن فيه هدى؛ أي أنه اشتمل على الهدى، وهو الدلالة الحق على تنزيه الله تعالى ووحدانيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأن عيسى هو ابن مريم وحدها، ونسبه إليها، وليس له لله تعالى نسبة إلا أنه خلقه بكلمة كن فيكون، فهو بهذا المعنى كلمة الله تعالى، وقد ألقاها إلى مريم، وروح القدس وهو جبريل الذي بلغها، وفيه بيان أن عيسى عليه السلام رسول الله تعالى وقد خلت من قبله الرسل.

وهذه الهداية تقرير للحقيقة الثابتة من مبدأ الوجود؛ لأنها تدل على صفات منشئ هذا الوجود.

أما الخاصة الثانية - فهي أنه مشتمل على نور مرشد موجه هاد، فإذا كانت الخاصة الأولى مقررة لأمر ثابت قد وقع، فالخاصة الثانية مثبتة لأمر آخر يتعلق بالمستقبل، وهو أنه يضيء وينير لتمييز الحق من الباطل، وبين ما جاءت به رسالة

ص: 2218

المسيح من دعوة البشر إلى الخير وإلى صراط مستقيم فالإنجيل بإضافة هذه الخاصة إلى سابقتها يكون مشتملا على أمرين: أولهما - تقرير للحقيقة الثابتة الخالدة، وهي وحدانية الله تعالى في الإنشاء والتكوين، والذات والعبادة. وثانيهما - أنه مرشد إلى مكارم الأخلاق ومنير العقول لإدراك المستقبل، ويدخل في ذلك بشارته بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو " البارقليط " كما جاء في نسخة متى، وكما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:(. . . وَمبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. . .).

والخاصة الثالثة - وهي وصف لذات الإنجيل، وقد ذكرها سبحانه بقوله تعالى:(مصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). أي أن الإنجيل قد كان بذاته مصدقا للتوراة من حيث صدق نسبتها إلى الله تعالى قبل تحريفها، وقبل أن ينسوا حظا منها. ولا تكرار في وصف التصديق، لأن ما ذكر أولا كان وصفا لعيسى عليه السلام إذ قال سبحانه:(وَقَفَّيْنَا عَلَى آتارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا). وأما ما ذكر هنا فهو وصف للإنجيل نفسه، وكأن التصديق من جانب عيسى عليه السلام للتوراة جاء من ناحيتين، من عيسى، ومن الإنجيل ذاته، وتلاقى التصديقين يفيد إقرار أكثر أحكام التوراة الاجتماعية والقانونية، ويفيد أن رسالة الرسل متصلة موصولة، حتى يختمها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم النبيين، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.

والخاصة الرابعة - وهي من صفاته الذاتية أنه هو ذاته هدى، وسبب وصفه بهذا الوصف بعد ذكر أنه قد اشتمل على هدى ونور هو استمرار الهدى له، وللإشارة إلى أنه منزل من عند الله تعالى، وهو بهذا الوصف يكون فيه دلالة ذاتية على الحق، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد، وكان الهدى في هذا المقام وصفا ذاتيا؛ لأنه مأخوذ من اسمه؛ إذ إن الإنجيل معناه البشارة، ولعله سمى إنجيلا، لأنه الكتاب المنزل الذي كان فيه البشارة المباشرة بمحمد صلى الله عليه وسلم بعبارات إن لم تكن صريحة فهي واضحة كالصريحة.

ص: 2219