المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فالكتاب، ينطق بالحق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: فالكتاب، ينطق بالحق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم

فالكتاب، ينطق بالحق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه يُتبع الكفر بكل ما سبق الكفر باليوم الآخر، والكفر باليوم الآخر هو طريق الضلال البعيد، الذي لَا يستطيع التائه الضال إذا سار فيه أن يعود إلى الحق، إذ كلما أصر على الكفر باليوم الآخر ضل في فهم معنى الحياة، وبذلك ينزل إلى مرتبة الحيوان الذي لَا يعرف أنه موجود لغاية، وأن له نهاية هي ابتداء لحياة أفضل وأبقى، ومن ظن ألا حياة إلا هذه الحياة الفانية، فهو يلهو ويلعب، ويعيث. ويفسد، ولا ينتقل من ضلال إلا إلى ضلال، لَا يهتدي بهدى، ولايسترشد بإرشاد.

وإن قوة الإيمان وعظمة الإذعان تكون في الإيمان بالغيب، لأن المؤمن يخرج من أسر الحسِّ إلى انطلاق الروحانية، فيعلو فيها مدارج، ويسلك سبلا فجاجا.

وإن قوة الإيمان يقين ثابت مستمر، فلا هداية لمن يكون مزعزع العقيدة، مضطرب النفس يعرض له عارض فيرى نور الإيمان، ثم تعرض ظلمة فينطمس، ويستمر حائرًا بائرًا، ولذا قال سبحانه في أصحاب هذه الحال:

* * *

ص: 1905

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا

(137)

* * *

قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب، فقال في ذلك: " عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.

ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم عبدوا العجل وحرَّفوا التوراة، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرَّفوه وكفروا بعيسى وبالله، إذ جعلوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ".

ونرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم - سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت، ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا. . وما قاله ابن جرير يؤدي إلى أن يكون الكلام في طائفتين: إحداهما اليهود والأخرى النصارى، ولذلك نرى

ص: 1905

ترجيح قول الذين قالوا إن هذا النص في مرضى القلوب والمنافقين الذين اضطربت عقائدهم، فهم يؤمنون أول النهار، ويكفرون آخره، فيعتريهم قبس الإيمان، فيهتدون حينا فيؤمنون، ثم تعتريهم ظلمة نفوسهم فيكفرون، ثم لَا يزالون يترددون حتى تنطفئ قبسات النور من قلوبهم، وبذلك يزدادون كفرا، وذلك وصف دقيق للمترددين الحائرين، يبتدئون بحيرة مضطربة بين النور والظلمة، ثم يوغلون في الظلام إيغالا.

وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لَا تنالهم المغفرة، ولذا قال سبحانه:

(لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) هذا نفي مؤكد للغفران والهداية معا، فالله لَا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا مستقيما، بل هم في حيرة مستمرة، واللام في قوله:(لِيَغْفِرَ)، و (لِيَهْدِيَهمْ) هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون،، ككان ويكون، ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس، فيقول بعض الناس: لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك، أي ليس من شأني وحالي المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدي إليه الكفر.

وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء، ولا أن يهديهم السبيل، والسبب في ذلك أنه لَا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق، والإنابة إلى الله، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجبُّ ما قبلها من الذنوب، إذ أن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر، وكذلك لَا يهديهم سبيلا؛ لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه، ولمن أراد الهداية، وهؤلاء لَا يريدونها.

فنفي الغفران، ونفي الهداية، بسبب أنهم أركسوا في الشر، وأحاطت بهم خطيئاتهم، ولقد قال في ذلك الزمخشري رضي الله عنه: " والمعنى أن الذين

ص: 1906

تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر، والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت، يرضاه الله؛ لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب ضربت بالكفر، ومرنت على الردَّة، حيث كان الإيمان أهون شيء عندهم، وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى ".

اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب، إنك سميع الدعاء.

* * *

(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

* * *

ص: 1907

كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء، ومبدع الكون. ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لَا يستقرون على حال، وهم قسمان: قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية. والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر؛ إذ إنه مهما يطوِ اعتقاده في نفسه لَا بد أن يظهر على لسانه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

وهذه الآيات في شأن المنافقين:

ص: 1908

(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لَا موضع له في قلوبهم، وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية؛ وذلك لأن النفاق قسمان: نفاق خالص، وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لَا يتصل بالعقيدة، بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث " آية المنافق أربع: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر " (1)، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة (2). وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا.

والتعبير بقوله: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) فيه نوع مجاز؛ لأن البشارة لَا تكون غالبا إلا في الخبر السار، ويقول في ذلك الأصفهاني في مفرداته: " وبشرته أخبرته بسار

(1) روى البخاري: الإيمان - علامة النفاق (34)، ومسلم: الإيمان - بيان خصال النفاق (58) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو.

(2)

عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإِذَا اؤْتمِنَ خَانَ "[رواه البخآرى: الأدب].

ص: 1908