المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد خَرَّجَ بعض المفسرين العطف على أساس التغاير في الذات، - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وقد خَرَّجَ بعض المفسرين العطف على أساس التغاير في الذات،

وقد خَرَّجَ بعض المفسرين العطف على أساس التغاير في الذات، ففسروا النور بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو نور الأنوار، كما عبر الآلوسي (1)، والكتاب بأنه القرآن الكريم، فهو سجل الإسلام لَا يغادر شيئا منه إلا بَيَّنَه، إما بالتفصيل، أو بالإجمال الذي بينته السنة.

وفسر آخرون النور بأنه القرآن الكريم، كما فسر الكتاب المبين به على أساس المغايرة من حيث الأثر والبيان، فالقرآن نور؛ لأن فيه بيان الحق الذي لا تنكره العقول، والشرع الجامع الذي أتت به كل الرسائل، وهو من ناحية أخرى الشيء المكتوب المسجل الباقي إلى يوم القيامة لَا يعتريه تغيير ولا تبديل، فالمغايرة في العطف مغايرة وصف وأثر لَا مغايرة ذات، إذ القرآن المبين نور، وكتاب مكتوب مسجل باق إلى يوم القيامة. وقد اختار هذا الوجه الزمخشري ولم يذكر غيره.

والذي نراه في تفسير النص السامي، هو أن هذا فيه بيان لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أتى بعلم كاشف هو نور، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم نور في ذاتها، وأتى بكتاب معجز دال على رسالته، ومشتمل على شريعته، وهو حجته إلى يوم القيامة.

وقد بين سبحانه وتعالى الغاية الكبرى من رسالته إلى أهل الأرض، ومن النور الذي جاء به الرسول والكتاب الذي أنزله، فقال:

* * *

(1) قال الألوسي في تفسيره (ج 6، ص 96)(قَد جَاءَكُم مَنَ الله نُورٌ) عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى الله عليه وسلم.

ص: 2091

(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ

(16)

* * *

هذه هي الثمرات التي ترجى من الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، وكونها نورا يهتدي به الساري، وفيه شريعة قائمة في كتاب محفوظ إلى يوم القيامة، وهذه الثمرات ثلاث أولها: هداية إلى الحق، وإخراج من الظلمات إلى النور، ويهدي به الله سبحانه إلى صراط مستقيم لا عوج ولا أمت.

ص: 2091

أما الأولى - فقد عبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله تعالت كلماته: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) والضمير في قوله تعالى: (بِهِ) يعود إلى مجموع ما ذكر، أو يعود إلى القرآن وحده، والظاهر ذلك؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وفي عود الضمير إلى القرآن تضمين لكل ما ذكر؛ لأن القرآن هو وعاء الشريعة، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم القائمة إلى يوم القيامة، وهو مصباح النور المحمدي الذي لَا ظلام فيه، وقد ذكر سبحانه من يهتدي بالقرآن، وموضع الهداية، فليس كل إنسان أهلا لهداية القرآن والانتفاع به، فإن من يهتدي لَا بد أن يكون فيه عقل يدرك لم تظله غشاوة رانت عليه، وبصيرة نافذة، وقلب قد استقام لطلب الحكمة، وقد ذكر سبحانه أن الذي يهتدي بالحق والنور الكاشف من اتبع رضوانه، واتباع رضوان الله تعالى: طلبه ذلك الرضوان، ومعنى طلب ذلك الرضوان: أن يكون قلبه مخلصا لطلب الحق، لم يرنق قلبه بغرض باطل أو أهواء مردية، أو انحراف في طلب عن الغاية، بل يتجه اتجاها مستقيما إلى الحق لَا يبغى سواه، ولا يطلب إلا رضوان الله تبارك وتعالى، فإن الإخلاص يجعل العقل يشرق، والقلب يمتلئ بالحكمة.

وأما ما يهتدي إليه فهو سبل السلامة، والصفاء وعدم وجود البغضاء، فالسلام هو: السلامة من كل أدران الحقد والحسد، والسلامة من كل ما يؤدي إلى البغضاء والعداوة، وسبلها هو: الأعمال الصالحة، فيعمل للدنيا بأخلاق مستقيمة، ونفس لَا يخالطها فساد، ولا تستولي عليه الشهوات، فيكون مع الناس في أمن وسلام، وفي الآخرة يكون في دار السلام، كما قال تعالى في شأن المتقين المهتدين:(لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عندَ رَبِّهِم. . .)، وكما قال تعالى:(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44).

وأما الثانية - فقد عبر عنها تعالى بقوله: (وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) ومرجع الضمير هنا هو مرجع الضمير في الجملة السامية السابقة، فالقرآن والنور والهداية المحمدية كل هذا يخرج الناس من ظلمات الباطل إلى النور

ص: 2092

الواضح بإذن الله تعالى وبعلمه وتقديره، فالإذن هنا معناه العلم والإرادة، أي أن ذلك الإخراج من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى بعلمه تعالى وإرادته، وإرادته لا تكون إلا على مقتضى حكمته في خلقه، وهو العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، السميع البصير، تعالت أسماؤه الحسنى.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الضلال بالجمع والنور بالإفراد؛ وذلك لأن طرق الشيطان مختلفة، وكل طريق منها ظلمة في ذاته، فالشرك ظلمة، والبغضاء ظلمة، والمعصية ظلمة، وأكل مال الناس بالباطل ظلمة، ووأد البنات ظلمة، واسوداد الوجه بالكآبة عند ولادة المرأة ظلمة، والظلم ظلمات قد تعددت فنونه، وتباينت أقسامه والنور والقرآن والهدى المحمدي هو الذي يكشف هذه الظلمات، وينير الطريق للخروج، بإذن الله تعالى وعلمه وإرادته يخرجهم النور من هذه الظلمات المتكاثفة.

وأما الثالث - فقد قال تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرِاطٍ مسْتَقِيم) والمعنى أن الله تعالى يهدي طالب إلى طريق مستقيم لَا التواء فيه، والهداية في الحقيقة من الله تعالى، فهو الذي يهدي ويرشد، والمهتدي هو من يطلب الحق إرضاءً لله تعالى، ونسبت الهداية إلى القرآن؛ لأنه الذي اشتمل على ما فيه الهداية من أحكام، وفضائل، وبيان لمعنى الرسالة الإلهية؛ ولأنه هو المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، والطريق المستقيم هو دين الله تعالى القيم، دين التوحيد، دين الإسلام والتسليم والتفويض لله تعالى بعد القيام بالعمل، وهو دين الخير في الدنيا والآخرة، فمن اتبعه فقد رشد، ومن تركه فقد ضل، وهو وإن تعددت أنواع العمل طريق واحد موصل للغاية من أقرب اتجاه، وهو طريق الله تعالى، وقد قال تعالى:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153). [الأنعام (1)]

اللهم اهدنا صراطك المستقيم.

(1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنا عنْدَ النبِي صلى الله عليه وسلم فخَط خَطًّا وَخَط خَطين عَنْ يَمِينِهِ وَخَط خَطيْنِ عَنْ يَسَاره، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَط الأوسَط ققَالَ:" هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ " ثمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (11).

ص: 2093

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

* * *

ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن اليهود حرفوا الكلم بتبديل عبارات التوراة، وتحريف معانيها وتفسيرها بغير ما يراد منها، ثم بإخفائهم كثيرا مما اشتملت عليه من أحكام تكليفية، ثم تحللهم من أحكام الباقي، وأن النصارى مثلهم نسوا حظا مما ذكروا به، بل أهملوا لب الدين، وحقيقة التوحيد فيه، وتفرقوا فرقا مختلفة وأغريت بينهم العداوة والبغضاء، فكان في الماضي التذبيح بين الملكانية واليعقوبية، وكان من بعد ذلك ما كان بين غيرهم، حتى تركوا الدين من حياتهم، ولم يبق منه عندهم إلا ما يعاند الوحدانية، ويضطهدون به أولياءها وأنصارها، وقد جاء الإسلام منذ تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم به، يبين كثيرا مما أخفوا، وحقيقة الرسالة التي تنزل من الله تعالى لخلقه، والتي هي لب اليهودية الأولى، ونصرانية المسيح عليه السلام، وفي هذه الآيات المتلوة يبين سبحانه لب ما غيروا فقال تعالى:

ص: 2094

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي، وفي عصور الإسلام الأولى كان النسطوريون منهم يقولون: إن المسيح ليس ابن الله تعالى في الألوهية، ولكنها بنوة النعمة، وقد ذهبت هذه الفرقة في عبر التاريخ، أو تكاد، فلا تكاد تسمع ذلك الصوت الآن إلا عند بعض الموحدين الذين ظهروا في طائفة البروتستانت، ولكنهم عدد نادر، لَا يعترف بهم على أنهم نصارى.

وإذا كان الأمر المعروف عندهمْ أن يسوع ابن الله، وفيه عنصر إلهي، فقد قالوا: إن الألوهية قد حلت فيه، ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد، ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه، وقد قال في ذلك البيضاوي:" هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم، ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا لَا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.

وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية، وأنه ابن الله، وبذلك يكون قوله تعالى في هذه السورة سورة المائدة:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ فَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ. . .) متلاقيا مع هذا النص الكريم، فهنا صرح بلازم قولهم، وهنالك صريح بذات قولهم.

والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لَا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة، وأنها شيء واحد، وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو المسيح، والله هو روح القدس، فقد قال الدكتور " بوست " في تاريخ الكتاب المقدس: " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال

ص: 2095

على السواء، أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم، كما هي في العهد الجديد ".

ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه، فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الآب، كما أن الله هو روح القدس.

وذكر الله سبحانه وتعالى الإخبار عن المسيح بأنه الله؛ لأن فيه إشارة واضحة إلى بطلان العقيدة، لأن المسيح وُلِد، ورئي يتحدث مع الناس، وأكل وشرب، وقتل وصلب في زعمهم! فكيف يكون هو الله تعالى؟!.

والحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح عليه السلام ما سادت الفكر النصراني إلا في عهد قسطنطين، وقبل ذلك كان الأكثرون موحدين، ولكن وجد بجوارهم من بقايا الفلسفة الأفلاطونية الحديثة من زعم أن القوى المسيطرة على الوجود ثلاثة، ولننقل لك ما قاله ابن البطريق المسيحي في كتابه " تاريخ البطارقة " قال في مجمع نيقية الذي أعلن ألوهية المسيح ما نصه:

" كتب الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان. . فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية، ويسمون " المريميين ". . ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية. . ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه. . ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت، كواحد منا في جوهره، وان ابتداء الابن من مريم، وأنه مصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة؛ ولذلك سمي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة

ص: 2096

أسماء، ولا يسمونه الكلمة، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ".

وذكر فكرة أرتوس، وكانت شائعة، وهي إنكار ألوهية المسيح، والإيمان بالوحدانية، واختار قسطنطين من (2048) الثمانية والأربعين والألفين عدد (318) الذين قالوا بألوهية المسيح، وبذلك ساد هذا القول بسلطان قسطنطين.

وإن ذلك القول بلا ريب باطل، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو الذي يحى ويميت، وقد أمر الله نبيه بالرد عليهم بأمر محسوس.

(قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ادعاءهم، بإثبات القدرة لله تعالى، فإن صفة الله الذي يعبد لأجلها أساسها القدرة على الإنشاء وعلى الإفناء من غير قيد يقيدها ولا مانع يمنعها، فإذا كان المسيح لَا يملك أن يدفع عن نفسه الإعدام، فهو أولى بألا يستطيع الإنشاء ولا الإفناء.

والمعنى: قل لهؤلاء الذين يدعون الألوهية للمسيح: من يملك من دون الله أمرا يستطيع أن يمنعه سبحانه بأي قدر من قدرته تعالى إن اتجهت إرادته العالية إلى إهلاك المسيح وأمه، وفي الجملة السامية إشارات بيانية:

منها - في قوله: (فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) لأن (يملك) معناه يتضمن معنى يمنع، أي من يمنع من قدرة الله وأمره شيئا، وتنكير كلمة " شَيْئًا " للتصغير، أي قدرا ولو كان ضئيلا.

ومنها - أن التعبير بـ " يملك " يستفاد منها أن قدرة الله تعالى قدرة من يملك، وليست قدرة مستعارة أو مأخوذة من غيره.

ص: 2097

ومنها - أن ذكر الإهلاك في هذا المقام فيه دلالة مادية في زعمهم على بطلان ما يدعون؛ لأنهم زعموا أن عيسى أهلكه الرومان بتحريض وشهادة الزور من اليهود لعنهم الله، فكيف يكون إلها، وهو لَا يملك حماية نفسه، مع أن وصف الإله يوجب أن تكون قدرته على الإهلاك والإبقاء ثابتة.

ومنها - أنه ذكر المسيح مضافا إلى أمه، على أنه متولد منها، فكيف يكون من الفاني الإله الباقي، وهو ابن الله في زعمهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وإن الذي يستمسكون به بالباطل في هذا الزعم الباطل أنه خلق من غير أب، وقد رد سبحانه وتعالى زعمهم في قضية عامة بقوله تعالى: (وَللَّه مُلْكُ

السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).

هذه الجملة السامية مع إبطالها لزعمهم في مقام الحال من الجملة السابقة، فهي مؤيدة لمعنى القدرة على الإبقاء والإهلاك والإحياء، ورادة على زعمهم أن عيسى خلق من غير أب، فيكون ابنا لله، تعالى الله عند ذلك. والمعنى أن لله سبحانه وتعالى الملكية التامة للتصرف في السماوات بطبقاتها المختلفة، والنجوم ومداراتها وما بين السماء والأرض من فضاء تجري فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير، ويسبح فيه، ثم ما يصنعه الإنسان من طائرات تقطع أجواء الفضاء، كل ذلك مملوك ملكية تامة لله تعالى، ولا توجد ملكية تامة في شيء من الأشياء إلا لله سبحانه وتعالى، فكل مالك من الناس ملكيته نسبية، وليست تامة أو مطلقة، بل هي مقيدة.

وإرادته سبحانه وتعالى مطلقة في خلق الأشياء؛ ولذلك قال تعالى: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ). وهذه الجملة في مقام الثمرة والنتيجة لما قبلها من قدرة مطلقة لَا حد لها، ومن ملكية مطلقة لَا قيد يقيدها، فهو يخلق ما يشاء ويريد، فيخلق ذكرا أو أنثى فهو يجعل لهذا ذكرانا، ولهذا إناثا، ويجعل من يشاء عقيما، ولا قيد يقيد إرادته، في طريقة الخلق والتكوين، فيخلق الناس من أب وأم، ويخلق آدم من غير أب ولا أم، ويخلق عيسى من أم، ومن غير أب. . وهكذا.

ص: 2098