المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفى هذه الآيات لَا يزال الكلام عن المنافقين متصلا، فالله - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وفى هذه الآيات لَا يزال الكلام عن المنافقين متصلا، فالله

وفى هذه الآيات لَا يزال الكلام عن المنافقين متصلا، فالله سبحانه وتعالى يعيب عليهم حالهم في عدم تدبر القرآن الكريم والتفكر في معانيه؛ لأن التدبر في القرآن يجعلهم يفكرون في عاقبة أمرهم، ويستيقظون من سباتهم الذي يملك عليهم نفوسهم، ويتجسد أمام بصائرهم ما سوف ينالهم من جزاء يوم القيامة.

وهم لو تدبروا القرآن لرأوا فيه العجب العجاب، ولتبين لهم أن هذا الكتاب منزل من الله رب العالمين، وأن محمدا عبد الله ورسوله.

ص: 1781

فالقرآن الكريم يحمل بين جنباته دلائل صدقه، وبراهين أنه من لدن حكيم حميد، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه تناقضا في القضايا، واختلافا في الألفاظ، وتضاربا في المعاني، ولضربت الآيات بعضها بعضا؛ لأن الإنسان من البشر إذا تكلم بكلام كثير، لابد أن يوجد في كلامه اختلاف، لاختلاف مزاجه بين الحين والحين، ولما يعتوره من الصحة والمرض، ولاختلاف مواقفه في الزمان والمكان، فيظهر ذلك كله في صورة تناقض في اللفظ أو الوصف، أو في المعاني، أو الصدق والكذب إلى غير ذلك من صور الاختلاف.

ولكن القرآن الكريم بين أيديهم، فليتدبروه حق التدبر، فلن يجدوا فيه اختلافا في وصف، ولا ردا في معنى، ولا تناقضا في قضاياه، ولا كذبا فيما يخبر به من أمور الغيب، ولكنهم بإعراضهم عن التدبر، يظلون كالأنعام بل هم أضل، قد أغلقوا قلوبهم عن الهدى، وأصموا آذانهم عن صوت البشير النذير، فما لهم لَا يعقلون، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا)، فهم لَا يفقهون.

* * *

ص: 1781

(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‌

(83)

* * *

عجبا لأمر هؤلاء المنافقين، إنهم يسارعون في الفتنة، ويتحينون الفرص ليزرعوا الشكوك والظنون في صدور المؤمنين، ويشيعون الأخبار على غير حقيقتها، فإذا سمعوا خبرا عن أمن المسلمين أو انتصارهم، أو عن الخوف عليهم

ص: 1781

والإشفاق من تحركاتهم، أسرع هؤلاء المنافقون لإذاعة الشائعات، وأظهروها وتحدثوا بها قبل أن يقفوا على حقيقتها، وقد يكون في ذلك ضرر بالإسلام والمسلمين، ولكنهم لَا يبالون، بل ربما كان ذلك هو ما يبتغون.

وقال بعض المفسرين إن ضعاف المسلمين كانوا يفعلون ذلك أيضا، فقد كان بعضهم يفشي أمر النبي صلى الله عليه وسلم، دون إذن في ذلك، ويحسبون أنهم لَا يخطئون فيما يفعلون، ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون.

وسواء أكان ذلك من المنافقين أم من ضعاف المسلمين فهو خطأ لَا يجوز أن يحدث، لذلك يجيء الأمر من الله تعالى بألا يسرع المسلم في الحديث بأخبار لم يتحقق منها، ولم يتبين له صدقها من كذبها، ولم يميز من أمرها بين النفع والضرر، بل يجب على هؤلاء وأولئك أن يردوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينتظروا حتى يكون عليه الصلاة والسلام، هو الذي يتحدث به ويكشف عن صدقه، ويبين نفعه للمسلمين أو ضرره، وهذا الحكم ماضٍ في كل زمان ومكان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، فإنه قد ورَّث العلم لطائفة من أمته هم أولو العلم وأولو الأمر، وأهل الفقه في الدين، فيجب على المسلمين أن يردوا مثل هذه الأمور إليهم، لأنهم إذا ردوا الأمر إليهم (لَعَلِمَة الَّذِينَ يَسْتَنيِطُونَهُ مِنْهُم) أي يستخرجون معثاه، ويبينون فحواه، فإذا الأمر معلوم، والحق واضح لَا شبهة فيه، ولا غموض.

والاستنباط هو استخراج الماء من البئر، فشبهت الأفكار التي تدور في خَلَد الإنسان بالماء الذي في البئر، والعلماء يستخرجون هذه الأفكار ويكشفون عن معناها، فيعلمون ما ينبغي أن يقال وما يجب أن يستر ويكتم فلا يشيع بين الناس.

وفى تلك الجملة دليل على جواز اجتهاد العلماء في الأمور الفقهية عن طريق القياس، والحكم بما يبينه ذلك القياس، ما لم يكن هناك نص من القرآن أو السنة، وما لم يكن هناك إجماع.

ص: 1782