الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) العبادات في الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل إن كل عمل فيه خير إذا قصد به إرضاء الله سبحانه وتعالى يكون عبادة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى "(1) وإن محبة أي شيء لله تعالى عبادة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله "(2).
ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجي والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف، وإبعاد المنكر - من يفعل ذلك طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغي سواه، فإن الله تعالى سيؤتيه جزاء عظيما بالغا أقصى درجاث العظمة. وسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل.
وعلى الناس من بعد أن يطلبوا مرضاة الله بقوة إيمان في كل ما يتجهون إليه من إصلاح شئون الجماعة، فلا بركة في عمل، مهما يكن صالحا في ذاته، إلا إذا طلب به إرضاء الله، فالقوانين والثظم التعاونية والاشتراكية إذا لم يقصد بها وجه الله لَا بركة فيها. فعلينا أن نتجه إلى الله في كل ما نعمل:
* * *
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
(2)
سبق تخريج ما في معناها من حديث صحيح.
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
…
(115)
* * *
إن الكثير الذي يتناجى به الآثمون هو في أكثر أحواله يكون منشؤه أنهم لا يندمجون بإحساسهم مع المؤمنين، فهم في جانب بإحساسهم وشعورهم، والرسول والمؤمنون في جانب آخر، وهم في الجانب الذي اختاروه يجعلون السلطان عليهم لجماعة أخرى، كأولئك المنافقين الذين كانوا يجعلون نصرهم في أمرهم لليهود أو للمشركين، وهذا معنى قوله تعالى:(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، والشقاق أو المشاقة، وهو أن يكون في شق، والآخرون في شق، أي يكون في جانب بإحساسه وولائه، والرسول والمؤمنون في جانب آخر بإيمانهم وولائهم لله تعالى، وذلك كله بعد أن يتبين له الحق وقامت أدلة الهداية.
ومن يفعل ذلك فإنه يكون قد خرج من ولاية المؤمنين ونصرتهم إلى ولاية من يتولونه ونصرته، أي أنهم يكونون قد انضموا إلى أعداء الله تعالى!.
وقد قال الإمام الطبري في تفسير هذا النص: " ومن يباين الرسول من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله؛ لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجه.
(نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى): يجعل ناصره ما استنصره، واستعان به "، ونرى من هذا أنه يجعل الشاقين كافرين، وذلك حق، ولكننا نخصهم بالمنافقين من الكفار؛ لأنهم الذين كانوا مع إظهارهم الإسلام يكونون في شق، والمؤمنون والرسول معهم في جانب الحق، وقد ذكر سبحانه العقوبة المترتبة على ذلك فقال:
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أصل الصلى إيقاد النار، وصلى بالنار بلى بها، وصلى النار دخل فيها، وأصلاه فيها أدخله فيها، فمعنى قوله تعالى:
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أدخلناه جهنم يشوى فيها كما تشوى الشاة، وأنها باقية، وهو يخلد فيها لَا يخرج منها يوم القيامة أبدا. كذا قال تعالى:(وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أي أنها مصيره الدائم الباقي ولا مصير له سوأه؛ لأنه كافر معاند للحق بعد أن تبينت له كل الأدلة المثبتة، وما أشد ذلك المصير سوءا وقبحا، وهو جزاء لما كانوا يعملون.
وقبل أن نختم الكلام في ذلك النص نقول: إن بعض علماء أصول الفقه قالوا إن هذه الآية دليل على أن الإجماع حجة وينسبون ذلك الاستدلال إلى الشافعي، ولم نجد فيما كتبه الإمام الجليل ما يدل على أنه استشهد بها في بيان حجية الإجماع، ولا نجد روح الآية ومعناها يدل على ذلك لأنها كانت في قوم منافقين كافرين، شاقوا الرسول والمؤمنين. وقد رد الغزالي في كتاب " المستصفى " القول بأنها دليل على حجية الإجماع، وكان كلامه حقا، والله سبحانه وتعالى أعلم، اللهم لَا تجعل ولايتنا لغيرك واجعل ولايتنا لك ولرسولك وللمؤمنين.
* * *
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
* * *
كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شِق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لَا يرجون خيرا إلا منهم، ولا يقدمون الولاء لغيرهم، وفى هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لَا يسرفوا على أنفسهم، ويقنطوا من رحمة الله تعالى، وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وفى نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) أي أن الله سبحانه وتعالى لَا يغفر الشرك به، والمراد بالشرك أن يعبد مع الله تعالى غيره، فالشرك في ذاته غير قابل للغفران، لأنه إلغاء لمعنى الوحدانية التي هي سمة الإسلام، وروح العبادة ومعناها. وإنه يدخل في الإشراك بالله إنكار رسالة الرسل، بعد قيام الأدلة القطعية، لأن ذلك تحكيم للهوى، وإبطال للغاية من الوحدانية، إذ هي طريق العبادة الصحيحة، كما قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
فإذا كانت العبادة الصحيحة هي ثمرة الخلق والتكوين والخضوع المطلق لسلطان الله تعالى، فإن العبادة في القول والعمل ومعرفة الكون لَا تكون إلا برسالة الله تعالى وحده إلى الإنسان، فمن كفر بهذه الرسالة فقد ألغى معنى الوحدانية.
والله تعالى لَا يغفر الشرك، وكان تعبيره سبحانه بقوله:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ) للإشارة إلى أنه لَا يغفر ذات الشرك، ولكن يغفر للمشرك إذا خلعه وتاب عنه، ودخل فيما يدعو إليه الرسل، كما قال تعالى:(قُل لِلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ).
ولذلك أضيف نفي الغفران إلى الشرك لَا إلى من تلبس به، فإن الغفران يلحقه إذا خلعه.
وما دون الشرك وإنكار الرسالة من العاصي، يكون تحت غفران الله سبحانه وتعالى، ويتعلق بمشيئته، ومشيئته سبحانه قد أشار إلى بعض ما تتعلق به من أعمال العباد، ومنها التوبة، فإن التوبة النصوح تخلع المؤمن من ذل المعصية إلى عزة القبول، ومنها كثرة الحسنات وقلة السيئات، فان الله تعالى يقول:(. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .). فمن رجحت كفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة، قد وعدنا رب العالمين بأنه يغفر له، ومشيئة الله تعالى لا حدود لها، ولكن منها ما بينه.
وقد قالوا في سبب نزول هذه الآية: إنه جاء شيخ من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله تعالى ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم مستغفر، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت هذه الآية (1).
(1) أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في تفسير الآلوسي، وذكره القرطبي في التفسيرج 5، ص هـ 38 عن الضحاك.
وفيها ما يدل على أن الله يغفر للتائبين المستغفرين الخارجين من نطاق المعصية إلى سعة الفضيلة، وإن ذلك لَا يمنع غفران الله تعالى لمن كانت له معاصي وطاعات، والمعاصي لم تغلب عليه ولم تفسد نفسه، بل استمر قلبه مضيئا بنور الإيمان والحق.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا) قد يسأل سائل: إذا كانت التوبة تجبُّ ما قبلها، والإيمان يجبّ ما قبله، فإذا انخلع الشرك، وحلت محله عقيدة الوحدانية، وغفر الله ما تقدم من الشرك، كما ورد النص الذي تلوناه، فلماذا يفرق بين الشرك وغيره من المعاصي؟ والجواب عن ذلك أن الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها، كان الخروج منه صعبا وعسيرا، ولذا قال سبحانه:(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا).
والضلال هو السير في غير الطريق الموصل، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوْغَل في الضلال، والمشرك الذي تدرنت نفسه بالشرك قد ضل عن طريق النجاة، وكلما استمر في سيره كان مستمرا في الضلال، فمن يشرك بالله غيره، فَيدَّعي أن له شريكا في الخلق والتكوين، أو في الوجود مما يماثله ذاتا أو صفات، أو يدعي أنه يستحق العبادة معه، فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا، ومن ضل سيجد كلما سار أبوابا من الشر، فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع، وتكون له حسنات بجوار السيئات، فيكون باب الغفران مفتوحا، أما من أشرك بالله، فقد كان في معاص مستمرة، وليس له من الحسنات ما يرجح كفة الميزان؛ لأن الشرك يقتل الحسنات قتلا، فلا تقبل فيه طاعة.
والشرك هنا هو نقيض الوحدانية، وهناك شرك خفي، وهو أنه يرائي في عبادته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك "(1)!.
(1) رواه أحمد عن شداد بن أوس، وقد سبق تخريجه.