المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لَا - زهرة التفاسير - جـ ٤

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لَا

ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لَا هداية فيه! بسبب هذا لعنهم الله تعالى بأن طردهم من رحمته، فكتب عليهم بُغض الناس في الدنيا، والذل والمقت فيها، وعذاب الله تعالى في الآخرة. والإشارة في قوله تعالى " أولئك " إشارة إليهم موصوفين بالصفات التي وصفهم الله بها من نفاق، وخداع، وكذب، وتعصب وسيطر؛ الهوى على نفوسهم، وضياع الحقوق بينهم، وهذه الصفات هي سبب الطرد من رحمة الله تعالى. وإذا كانوا مطرودين من رحمة الله قد كتب الله تعالى غضبه عليهم، فلن ينصرهم أحد من أهل الأرض (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، فإذا كانوا قد ذهبوا إلى أهل مكة يستنصرون بهم فلن ينصروهم، ولن يثقوا بِهم، ولذلك قال تعالى:(فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) أي فلن تجد للملعون الذي طرده الله تعالى من رحمته نصيرا ينصره من الناس، و " لن " هنا لتأكيد النفي، ويقول الزمخشري (إن لن تفيد تأكيد النفي أبدا)، أي أنهم لم ينصرهم الله ولن يجدوا أبداً نصيرا من الناس تستمر نصرته، وإذا استطاعوا أن يستنصروا بأمثالهم في هذه الأيام، فإن الخذلان وراءهم إن شاء الله تعالى، وهم أشد مقتا عند الله وعند الناس في هذه الأيام كما كانوا في كل ماضيهم، والله المنتقم الجبار. وقد أخبر الله تعالى نبيه بأنهم إذا كان لهم أحيانا نصيب من الملك غير مستقر ولا دائم، فسيكون ظلما كبيرا ولا يرضي الله لعباده أن يستمر فيهم ظلم.

* * *

ص: 1715

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ

(53)

* * *

(أم) هنا تفيد الانتقال في القول من التعجب من حالهم في ممالأة المشركين إلى بيان حالهم العجيب إذا أُوتوا أي حظ من السلطان والحكم؛ والمعنى: أثَبتَ أنهم إذا كان لهم حظ من الملك والسلطان ولو كان ضئيلا يحكمون بالعدل، ويقومون بالقسطاس المستقيم؛ والاستفهام لنفي الوقوع، وهو نفي لوقوع العدل منهم إذا أعطوا أي حظ من الحكم؛ ذلك لأن المنافق لَا يمكن أن يكون عادلا؛ لأن العدل والالتواء نقيضان لَا يجتمعان، ولأنهم أهل هوى، ولا عدل مع سيطرة الهوى، ولأنهم غلبت عليهم عصبية دينية جامحة، وكل حكم

ص: 1715

يصدر من التعصب لَا يكون عدلا بالنسبة لمن تعصب عليه. ولذا قال سبحانه فيهم إذا حكموا:

(فَإِذًا لَا ئؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) النقير العلامة السوداء الصغيرة التي تكون في ظهر النواة، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة، ويضرب به المثل في الشيء الصغير البالغ أقصى حدود الصغر. والمعنى: إذا تولى هؤلاء نصيبا من الملك والسلطان، فإنهم لَا يعطون الناس أي قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضآلة؛ ذلك لأن العادل يكون حكمه لمصلحة المحكومين، لا لمصلحته. وهؤلاء لَا ينظرون إلا إلى منافعهم الذاتية. ولأن العادل يحس بأنه من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وهؤلاء يظنون أنهم صنف في الخليقة ممتاز، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، والناس جميعاً دونهم. ولأنهم يبغضون الناس جميعا؛ لأنهم يظنون أنهم سلبوهم حقوقهم، بمقتضى ما لهم من امتياز بمقتضى التكوين. فهم بهذه الأهواء الواهمة عادوا الناس وأبغضوهم، ويحسبون أنفسهم في حرب مستمرة من البشر! أنقذ الله أهل الإسلام من شرهم، وأرْدَاهم هم ومن يعاونونهم على الغَي والظلم والفساد، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ.

* * *

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ

ص: 1716

كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

* * *

الآية موصولة بما قبلها، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن يقولوا وهم أهل كتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده. وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم، وجزاء الضالين يوم القيامة، ثم جزاء المهتدين. والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولذا قال سبحانه:

ص: 1717

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الحسد هو الألم الشديد لما يصيب الناس من خير، وتمنى زواله، ثم العمل على زواله، فهو يبتدئ بألم شديد يحز بالنفس الحاسدة، ثم يصحبه تمنى الزوال، ثم يكون بعد ذلك بخس المحسود حظه وحقه، والنيل منه! والفرق بينه وبين الغبطة أن الغبطة السرور بما ينال الغير من خير، وذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" المؤمن يغبط والمنافق يحسد "(1)! والحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها، ولقد قال الحسن البصري:" ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد "! وإن من يحسد إنما يعادي الله ويعادي نعمه؛ لأنه كلما آتى الله أحدا نعمة نقمها على صاحبها، فكأنما يعادي الله الذي أعطاها، ويعاديها، ولقد قال عبد الله بن مسعود: (لا تعادوا نعم الله!

(1) المؤمن يغبط والمنافق يحسد. من كلام الفضيل بن عياض كما في كشف الخفا للعجلوني (2694).

وفى سير أعلام النبلاء (ج 5، ص 483): " وعن الفضيل قال: المؤمن يَغْبِطُ ولا يحسدُ، الغبطة من الإِيمان، والحسدُ من النفاق.

ص: 1717

قيل له ومن يعادي نعم الله؟ قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).

والناس هنا في النص الكريم، قيل العرب، وعندي أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إن أريد التخصيص، وإن كان التعميم فهي على عمومها. وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس، فهم إذا حسدوا النبي والمؤمنين، فلأنهم ناس آتاهم الله تعالى جزءا من فضله، فإن فضله عظيم، فـ " مِن " هنا للبعضية، أو نقول إنها بيانية، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه. وفي هذا إشارة إلى أن الذين يحسدون من يتكرم عليه الله، فإنما يعاندون الله تعالى. وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس، وقد بيَّن اللهُ سبحانه أن ذلك وهم، فقال تعالت كلماته:

(فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم، وأنكم أهل الوحي دون غيركم، فقد كذبتم على أنفسكم، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحاق الكتاب، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة. والحكمة، أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع وإصلاح بين الناس، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة، ولستم مختصين بإبراهيم، فله قرابة غيركم كانوا في العرب، ولم يكن تلقي الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا:

ص: 1718

(فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) أي فمن قرابة إبراهيم وذريته وأوليائه الذين جاءوا، من آمن بما جاء به من هدى، وسار على مقتضاه، وانتفع به انتفاعا كليا، أو نهل من موارده العذبة، أو أخذ بقدر ما تقوى عليه نفسه، وهو في ضمن الهديين، ومنهم من أعرض عنه، وإن ذلك المعرض له جزاؤه، وهو جهنم التي تلتهب نارها، وتستعر، فلم يكن من آل إبراهيم وذريته

ص: 1718