المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرجوع في الأيمان إلى النية أم العرف] - شرح الزركشي على مختصر الخرقي - جـ ٧

[الزركشي الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌[كتاب الأضاحي]

- ‌[حكم الأضحية]

- ‌[ما يستحب للمضحي إذا دخل عشر ذي الحجة]

- ‌[تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة في الأضحية]

- ‌[ما يجزئ في الأضحية من الضأن]

- ‌[ما يجزئ في الأضحية من البقر]

- ‌[ما يجزئ في الأضحية من الإبل]

- ‌[ما يشترط في الأضحية]

- ‌[الحكم لو أوجب الأضحية سليمة فتعيبت عنده]

- ‌[ما تتعين به الأضحية]

- ‌[بيع الأضحية في الدين]

- ‌[كيفية تقسيم الأضحية بعد الذبح]

- ‌[استبدال الأضحية]

- ‌[وقت ذبح الأضحية]

- ‌[ذبح الكتابي للأضحية]

- ‌[استحباب أن يذبح المضحي بنفسه]

- ‌[النية والتسمية عند الأضحية]

- ‌[الاشتراك في الأضحية]

- ‌[حكم العقيقة]

- ‌[على من تكون العقيقة ووقت ذبحها]

- ‌[ما يجزئ في العقيقة ومصرفها]

- ‌[كتاب السبق والرمي]

- ‌[ما يكون فيه السبق]

- ‌[أخذ العوض في المسابقة]

- ‌[كتاب الأيمان والنذور] [

- ‌أولا: كتاب الأيمان]

- ‌[اليمين المنعقدة]

- ‌[من شرط الحنث في اليمين التذكر]

- ‌[اليمين الغموس]

- ‌[اليمين اللغو]

- ‌[اليمين المكفرة]

- ‌[الحلف بالعتق]

- ‌[كفارة اليمين قبل الحنث أم بعده]

- ‌[الاستثناء في اليمين]

- ‌[الاستثناء في العتق والطلاق]

- ‌[حكم تعليق العتق والطلاق على شرط]

- ‌[ما تحمل عليه ألفاظ اليمين]

- ‌[حكم فعل المحلوف عليه ناسيا]

- ‌[حكم التأويل في اليمين]

- ‌[كتاب الكفارات]

- ‌[خصال الكفارة في اليمين على التخيير]

- ‌[الإطعام في كفارة اليمين]

- ‌[الكسوة في كفارة اليمين]

- ‌[العتق في كفارة اليمين]

- ‌[الصيام في كفارة اليمين]

- ‌[باب جامع الأيمان] [

- ‌الرجوع في الأيمان إلى النية أم العرف]

- ‌[ثانيا: كتاب النذور]

- ‌[أنواع النذر]

- ‌[ما يلزم من نذر التصدق بجميع ماله]

- ‌[حكم من نذر نذرا فعجز عنه]

- ‌[حكم من نذر صياما أو صلاة ولم يذكر عددا]

- ‌[ما يلزم من نذر المشي إلى بيت الله الحرام]

- ‌[ما يلزم من نذر عتق رقبة]

- ‌[حكم إضافة النذر لوقت]

- ‌[نذر صيام شهر ولم يسمه فمرض أو حاضت المرأة]

- ‌[قضاء نذر الطاعة عن الميت]

- ‌[كتاب أدب القاضي]

- ‌[شروط القاضي]

- ‌[مشاورة القاضي لأهل العلم والأمانة]

- ‌[قضاء القاضي بعلمه]

- ‌[نقض القاضي حكم غيره]

- ‌[اشتراط عدالة الشهود]

- ‌[شهادة مستور الحال]

- ‌[شهادة الفاسق]

- ‌[اتخاذ القاضي كاتبا عدلا]

- ‌[حكم الهدية للقاضي]

- ‌[عدل القاضي بين الخصمين]

- ‌[كتاب القاضي إلى القاضي]

- ‌[القضاء على الغائب]

- ‌[حكم القسمة وكيفيتها]

- ‌[كتاب الشهادات]

- ‌[شروط الشاهد]

- ‌[نصاب الشهادة]

- ‌[حكم الشهادة]

- ‌[اشتراط العقل والإسلام والعدالة والبلوغ في الشاهد]

- ‌[تعريف العدالة]

- ‌[شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر]

- ‌[موانع قبول الشهادة]

- ‌[حكم الشهادة على الشهادة]

- ‌[كتاب الأقضية]

- ‌[اليمين التي يبرأ بها المدعى عليه]

- ‌[حكم اختلاف شهود الزنا]

- ‌[حكم الرجوع عن الشهادة]

- ‌[ظهور كفر الشاهدين أو فسقهما بعد تنفيذ الحكم]

- ‌[حكم شهادة الزور]

- ‌[شهادة الطبيب العدل في الموضحة]

- ‌[حكم من ادعى زوجية امرأة فأنكرته]

- ‌[حكم من ادعى دابة في يد رجل فأنكره]

- ‌[حكم من كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره]

- ‌[حكم من مات وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل منهما أنه على دينه]

- ‌[الحكم لو افترق الزوجان وادعى كل منهما أن ما في البيت له]

- ‌[حكم من كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال]

- ‌[كتاب العتق]

- ‌[أحكام متفرقة في العتق] [

- ‌الحكم لو كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه]

- ‌[الحكم لو كان العبد بين اثنين فادعى كلاهما العتق]

- ‌[وطء الجارية المشتركة]

- ‌[حكم ملك من يعتق عليه]

- ‌[الإعتاق في مرض الموت]

- ‌[حكم إضافة العتق لوقت]

- ‌[حكم التدبير]

- ‌[أحكام المكاتب]

- ‌[تعجيل نجوم الكتابة]

- ‌[ولاء المكاتب]

- ‌[جناية المكاتب]

- ‌[حكم عجز المكاتب]

- ‌[الحكم لو ادعى المكاتب وفاء كتابته]

- ‌[حكم ولد المكاتبة]

- ‌[بيع المكاتب]

- ‌[الحكم لو ملك المكاتب أباه أو ذا رحم]

- ‌[كتاب عتق أمهات الأولاد]

- ‌[أحكام أمهات الأولاد]

- ‌[جناية أم الولد]

- ‌[وصية الرجل لأم ولده]

- ‌[قذف أم الولد]

الفصل: ‌الرجوع في الأيمان إلى النية أم العرف]

[باب جامع الأيمان] [

‌الرجوع في الأيمان إلى النية أم العرف]

ش: الأولى قراءة باب، أي هذا باب جامع الأيمان، لأن المقصود الحكم على أيمان مختلفة، لا الحكم على من جمع أيمانا والله أعلم.

قال: ويرجع في الأيمان إلى النية.

ش: وذلك لما تقدم في المعاريض من حديث سويد بن حنظلة رضي الله عنه.

3731 -

وعن «أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق؛ وإنما يعني سبيل الخير» . رواه أحمد والبخاري.

3732 -

وفي «حديث ركانة الذي في السنن أنه لما طلق امرأته ألبتة، وقال للنبي: والله ما أردت إلا واحدة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما أردت إلا واحدة؟» : فقال: «والله ما أردت إلا واحدة» ؛ وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال

ص: 155

بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وأيضا فإن كلام الشارع ورد على لغة العرب، ولا ريب أنه محمول على مراده الثابت بالدليل.

3733 -

كما في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] ؛ والمراد نعيم بن مسعود {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] والمراد أبو سفيان وأصحابه، وهو كثير لا يكاد يحصى، فكذلك كلام غيره يحمل على مراده، إذا تقرر هذا فشرط الرجوع إلى النية احتمال اللفظ لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما إذا نوى باللفظ ما لا يحتمله أصلا، كأن حلف لا يكلم زيدا، وأراد لا يدخل بيتا ونحو ذلك فهذه نية مجردة، لا ارتباط لها باللفظ، فوجودها كعدمها، ثم النية تارة توافق ظاهر اللفظ، كما إذا نوى بالعموم العموم، وبالخصوص الخصوص، وبالإطلاق الإطلاق، ونحو ذلك، فهذه مؤكدة للفظ ومقوية له، كالشرط الموافق في العقد لمقتضاه، وتارة تخالف ظاهره، كأن يريد بعام خاصا، أو بمطلق مقيدا، أو بخاص عاما، ونحو ذلك مثل أن يحلف لا يأكل لحما ويريد لحم الإبل مثلا لا غيره، أو ليعتقن عبدا، ويريد عبدا بعينه، أو لا يأوي

ص: 156

مع امرأته في دارها مثلا، ويريد جفاءها بترك اجتماعه معها في جميع الدور ونحو ذلك.

(تنبيه) : رجوع الحالف إلى نيته هو فيما بينه وبين الله تعالى، بشرط احتمال اللفظ له كما تقدم، وعدم ظلمه كما تقدم أيضا، أما عند الحاكم فإن قرب ما ادعاه أنه قصده من الظاهر سمع منه، وإن بعد لم يسمع، وإن توسط فروايتان، والناظر الفهم في مظان ذلك لا يخفى عليه ما قلناه والله أعلم.

قال: فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها.

ش: إذا لم ينو شيئا - لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره كما تقدم - رجع إلى سبب اليمين وما هيجها، أي أثارها، فإذا حلف مثلا أن لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار، لضرر لحقه من جيرانها، أو منة حصلت عليه بها ونحو ذلك اختصت يمينه بها كما هو مقتضى اللفظ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها، ولا أثر للدار فيه، تعدى ذلك إلى كل دار، المحلوف عليها بالنص، وما عداها بعلة الجفاء التي اقتضاها السبب، (وكذلك) : إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه، أو لا يكلم زيدا لشربه الخمر مثلا، فزال الظلم، وترك زيد شرب الخمر، جاز له الدخول والكلام، لزوال العلة المقتضية لليمين، وذلك لأن السبب يدل على النية؛ لأنه الداعي للحالف على الحلف، والداعي إلى الشيء تتعلق الإرادة

ص: 157

به فيصير مرادا، ولهذا لما قال الحطيئة يهجو بني عجلان:

ولا يظلمون الناس حبة خردل

كان ذلك هجاء قبيحا، ولو قاله في مقام المدح كان مدحا حسنا، وما ذاك إلا لاختلاف المقام.

ص: 158

وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصا والسبب يقتضي التعميم كما مثلناه أولا، أو عاما والسبب يقتضي التخصيص كما مثلناه ثانيا، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي للتعميم لما تقدم، واختلف في عكسه فقيل فيه وجهان، وقيل روايتان، وبالجملة فيه قولان أو ثلاثة:(أحدها) - وهو المعروف عن القاضي في التعليق، وفي غيره، واختيار عامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما - يؤخذ بعموم اللفظ، وهو مقتضى نص أحمد في رجل حلف لا صدت من هذا النهر. وكان سبب يمينه ظلم السلطان فزال السلطان، لم

ص: 159

يصطد فيه، وكذلك قال فيمن حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم، فقال: النذر يوفى به، وقال أيضا في رواية المروذي فيمن قالت له زوجته: قد تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق، فإن المخاطبة تطلق مع نسائه مع أن دلالة الحال تقتضي إخراجها، إذ القصد إرضاؤها، ووجه ذلك الاعتماد على ظاهر اللفظ وهو العموم، والسبب لا ينافيه ولا معارضة بينهما، وصار هذا كألفاظ الشارع العامة، على المعروف عندنا وعند الأصوليين، تحمل على مقتضاها من العموم، ولا تخصص بأسبابها، وبنى أبو الخطاب ذلك على ما إذا اجتمع التعيين والإضافة.

والقول الثاني - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، وحكي عن القاضي في موضع -: يحمل اللفظ العام على السبب، ويكون ذكر السبب مبنيا على أن العام أريد به خاص، لما تقدم، وأيضا فإن السبب هو العلة المقتضية للحكم، فيزول الحكم بزوالها، وخرج عن ذلك ألفاظ الشارع، فإن العلة في وجودها ليس السبب، ثم المقصود في ألفاظ الشارع تقرير الحكم وتعميمه لجميع المكلفين وفي جميع الصور، بخلاف غيره.

والقول الثالث: لا يقتضي التخصيص فيما إذا حلف لا يدخل البلد لظلم رآه فيه، ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى، أو حلف لا يخرج عبده أو زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك، وقد أشار القاضي إلى هذا في التعليق، فقال - بعد ذكر صورة الغداء، وفيما إذا تأهبت امرأته للخروج فقال: إن خرجت فأنت

ص: 160

طالق -: لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا، وقياس المذهب أن يمينه لا تقصر على الخروج الذي تأهبت له، ولا على الغداء عنده، لعموم اللفظ، ولقول أحمد - وذكر مسألة الصيد من النهر - قال: وقيل تقصر يمينه على الغداء عنده، وعلى الخروج الذي تأهبت له لأنه لا عموم لهذا اللفظ، إذ قوله: إذا خرجت، يقتضي خروجا واحدا، وكذلك: إن تغديت، يقتضي غداء واحدا، فيختص ذلك الواحد المنكر بدلالة الحال.

تنبيهان: (أحدهما) : هذا الذي قاله الخرقي - من تقديم النية على السبب - هو الذي اعتمده عامة الأصحاب، وعكس ذلك الشيرازي، فقدم السبب على النية.

(الثاني) : إذا اختلف السبب والنية، كأن تمن امرأته عليه بغزلها، فحلف: لا لبست ثوبا من غزلها؛ وقصده اجتناب اللبس خاصة، دون الانتفاع بالثمن، قدمت النية على السبب وجها واحدا، لموافقتها مقتضى اللفظ، وإن قصد ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، إذ السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد، فإذا خالف حقيقة القصد كان وجوده كعدمه، وقدم القاضي والحال هذه السبب لموافقته العموم، فيجتمع ظاهران على مخالفة النية، قلت: وهذا متوجه في الحكم.

ص: 161

(الثالث) : بحث شهاب الدين القرافي بحثا ملخصه الفرق بين النية المخصصة والمؤكدة، وقال: إن أهل العصر لا يكادون يفرقون بينهما، فالحالف إذا حلف لا يلبس ثوبا ونوى الكتان لا يحنثوه بغيره، قال: وهو خطأ بالإجماع، إذ العام إذا أريدت به أفراده حصل التحنيث بها في اللفظ والنية المؤكدة، وإن لم ترد حنث باللفظ، وإن نوى بعض الأفراد غافلا عن البعض الآخر حنث في المنوي باللفظ والنية المؤكدة وفي البعض الآخر باللفظ، وإن أطلق العام ونوى إخراج بعض أفراده لم يحنث بالمخرج، ثم بين ذلك بقاعدة، وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص ومعارضا له، وقصد البعض مع الغفلة عن الباقي لا معارضة فيه، ونظر ذلك بـ (اقتلوا الكفار، اقتلوا اليهود) فاقتلوا اليهود، لا يعارض الأول، بل يؤكد بعض أنواعه، ولو قال: لا تقتلوا أهل الذمة؛ لخصص لحصول المنافاة،

ص: 162

ثم أورد على نفسه أن العلماء يستعملون العام في الخاص وهو ما تقدم، وأنه لو قال: لا لبست ثوبا كتانا، اختصت يمينه بالكتان، وأجاب عن الأول بأن معنى قولهم، إطلاق اللفظ، وإخراج بعض مسمياته عن الحكم المسند للعموم، لا قصد بعض العموم، وعن الثاني بأن المستقل إذا لحقه غير مستقل صيره غير مستقل، والصفة هنا وهي «كتانا» لا تستقل، فإذا لحقت مستقلا وهو الموصوف قبلها صيرته غير مستقل فأبطلت عمومه، وأورد على هذا لم لا تجعل الصفة مؤكدة للعموم في البعض، ويبقى الباقي على عمومه كما في النية، إذ التأكيد يكون باللفظ إجماعا، وأجاب بأن الصفة لفظ له مفهوم مخالفة، وهو دلالته على العدم عن غير المذكور، والمفهوم من دلالة الالتزام، والنية لا دلالة لها، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، لأنها من المعاني، والمعاني مدلولات، فليس فيها ما يقتضي إخراج غير المنوي، فبقي الحكم للعموم.

وهذا البحث الذي قاله حسن، إلا أن ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يخالفه، والظاهر أن مثل هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وقوله: إن معنى ذلك إطلاق اللفظ وإخراج بعض مسمياته؛ منازع فيه، بل هو إطلاق العام مريدا لخاص، كإطلاق الثوب مريدا به الكتان، وقد وقع للقاضي من أصحابنا أن اللفظ في نفسه لا يتصف بعموم ولا خصوص إلا بقصد المتكلم، فإذا قال

ص: 163

الحالف: لا لبست ثوبا، يقصد الكتان، فقصده لا يتناول غير الكتان، فلا يحنث إلا به، وقد حكى القاضي عبد الوهاب - وناهيك به - أن العموم هل يقصر على مقصوده، أو يحمل على عموم لفظه؟ على قولين لأصحابه وغيرهم، ونصر قصره، وهذا هو هذه المسألة بعينها والله أعلم.

قال: ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته، فإن تخلف عن الخروج حنث.

ش: لأن يمينه اقتضت المنع من السكنى، فمتى تأخر عن الخروج حنث، لأنه يصدق عليه أنه ساكن، (وظاهر) إطلاق الخرقي يقتضي أنه لو أقام لنقل متاعه وأهله، أو لخوف من الخروج، ونحو ذلك أنه يحنث، والمعروف خلاف هذا، إذ الانتقال عرفا إنما يكون بالأهل والمال وعلى وجه يمكنه، فهو غير داخل في اليمين، (وظاهر) إطلاقه أيضا أنه لو خرج دون أهله ومتاعه أنه لا يحنث، والمعروف حنثه أيضا في الجملة، اعتمادا على العرف كما تقدم، إذ العرف أن السكنى تكون بالأهل والمال، ألا ترى أنه يقال: فلان ساكن في كذا. وهو غائب عنه، وفرق أبو محمد في المغني، فحنثه

ص: 164

بالأهل دون المتاع، واتفق هو والأصحاب فيما علمت أنه لو أودع متاعه أو أعاره، أو أزال ملكه عنه، أو أبت امرأته من الخروج ولم يمكنه إكراهها أنه لا يحنث بالخروج وحده.

(تنبيه) : هذا مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالاعتماد عليه كما تقدم، وكذلك في كل صورة تأتي والله أعلم.

قال: ولو حلف لا يدخل دارا فحمل وأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث.

ش: لأن الفعل غير منسوب إليه ولا موجود منه، وخرج من كلامه ما إذا دخلها من غير حمل فإنه يحنث مطلقا، حتى لو دخلها في ماء أو من ظهرها، لوجود المحلوف عليه، نعم يستثنى من ذلك ما إذا دخلها ناسيا على المذهب، إلا في الطلاق والعتاق، أو مكرها على أشهر الروايتين، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما وخرج أيضا ما إذا أمكنه الامتناع ولم يمتنع فإنه يحنث، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، لأن له نوع اختيار، أشبه ما لو كان الدخول بأمره؛ (الوجه الثاني) - وحكي عن القاضي -: لا يحنث، لأن الفعل منسوب إلى غيره، وحيث لم نحنثه بالدخول ففي حنثه بالاستدامة وجهان، والله أعلم.

قال: ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث.

ص: 165

ش: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه - كما إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فأكل أو شرب بعضهما - ففيه روايتان مشهورتان:(إحداهما) - وهي اختيار الخرقي والقاضي وغيره وأبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم -: يحنث بفعل البعض، لأنه منع نفسه من فعل المحلوف عليه، فوجب أن يمتنع من كل جزء منه كالنهي والجامع المنع فيهما.

ودليل الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» ، وقد رد هذا بأن النهي عن الشيء ليس نهيا عن أجزائه، كالنهي عن خمس ركعات في الظهر، نعم النهي عن الشيء نهي عن أجزائه، كالنهي عن الحرير، نهي عن الأسود والأبيض منه، فالقياس على النهي غير صحيح، (والرواية الثانية) - واختارها أبو الخطاب فيما قاله أبو محمد - لا يحنث إلا بفعل الجميع.

3734 -

لأن «النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إلى عائشة - رضي الله

ص: 166

عنها - وهو معتكف فتغسله وهي حائض» والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد.

3735 -

ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: «لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة من القرآن» ، فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها، ولأن اليمين تناولت الجميع فلم يحنث بالبعض

ص: 167

كالإثبات، وبهذا استدل أحمد فقال: الكل لا يكون بعضا، والبعض لا يكون كلا، وقد يجاب عن هذا بأن الاعتكاف عبارة عن ملازمة المسجد للطاعة، ومن أخرج بعضه يصدق عليه أنه ملازم للمسجد، لا أنه مفارق له، على أن هذه واقعة عين، فيحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى هذا القدر، وهذا هو الجواب عن قصة أبي بن كعب إذ هي واقعة عين، فيحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ذلك ناسيا، ولعله الظاهر، فلما ذكر حين خرج استدرك فعلمه في الحال.

إذا تقرر هذا (فمن صور) الخلاف إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها أو نسجها أو شرائها فلبس ثوبا شوركت في غزله أو نسجه أو شرائه، أو لا يبيع أمته أو لا يهبها فباع بعضها ووهب بعضها، وما أشبه ذلك، واختلف الأصحاب فيما إذا قال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه، فقال القاضي وأبو الخطاب في الهداية: إنه على الروايتين، لأن المعنى لا ألبس ثوبا من غزلها لأن الغزل لا يلبس بمفرده، واختار الشيخان تحنيثه على الروايتين، لأنه يصدق أنه لبس من غزلها، (ومن صور) المسألة عند الأكثرين والقاضي

ص: 168

وغيره مسألة الخرقي، وهو ما إذا حلف لا يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، يده أو رجله ونحو ذلك، لأنه منع نفسه من الدخول، وإذا تساويا معنى تساويا حكما، كمنع نفسه من أكل الرغيف مثلا، ولا ريب أن المسألة فيها روايتان منصوصتان وإنما اختلف الأصحاب في المختار منهما، فالقاضي والأكثرون على التحنيث كالمسألة السابقة، تسوية بينهما، وأبو بكر وأبو الخطاب في الهداية اختارا عدم التحنيث، بخلاف المسألة السابقة، فإن أبا بكر يختار فيها الحنث كالجماعة، وكأن الفرق أن الحالف لا يدخل دارا إذا أدخلها بعض جسده لا يصدق عليه أنه دخل، وإنما أدخل يده أو رجله مثلا، فلا يكون مخالفا ليمينه.

(تنبيهان) : «أحدهما» : محل الخلاف كما تقدم في اليمين المطلقة، أما إن نوى الجميع أو البعض اعتمدت نيته، وكذلك إذا قامت قرينة تقتضي أحد الأمرين كما إذا حلف لا يشرب النهر، أو: لا أكلت الخبز، أو لا كلمت المشركين، أو لا أهنت الفقراء؛ ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق ببعض ذلك وجها واحدا، وعكس هذا إذا حلف لا يصوم يوما، أو لا يصلي صلاة، أو علق طلاق امرأته على وجود حيضة ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق بالجميع.

«الثاني» مما مثل به أبو محمد في الكافي، وابن عقيل في التذكرة للمسألة: إذا حلف لا يأكل رغيفا فأكل بعضه، وترجمها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون اليمين على شيء معين أو مبهم، والله أعلم.

ص: 169

قال: ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل جميعه.

ش: لا نزاع في هذا فيما نعلمه، إذ اليمين تناولت فعل الجميع، فلم يبر إلا به، كما لو أمر بشيء فإنه لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بفعل الجميع بلا ريب، ومثل هذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف ونحوه، فإنه لا يبر إلا بأكل جميعه والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا هو لابسه، نزعه من وقته، فإن لم يفعل حنث.

ش: أما نزعه من وقته فليمتثل ما حلف على تركه، وأما تحنيثه إذا لم ينزع في الحال فلأن استدامة ذلك يسمى لبسا، ولذلك يقال: لبست هذا الثوب شهرا ويرشح هذا منع الشارع من استدامة المخيط في الإحرام كابتدائه، وحكم: لا يركب دابة هو راكبها كذلك، بخلاف: لا يتزوج، ولا يتطيب، ولا يتطهر، فإنه لا يحنث باستدامة ذلك على المذهب، لأنه لا يقال: تزوج شهرا، إنما يقال: منذ شهر، وكذلك في التطيب والتطهير، وحنثه القاضي في كتاب إبطال الحيل، والله أعلم.

قال: وإن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر، حنث إلا أن يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء.

ص: 170

ش: أما مع النية فواضح، وأما مع عدمها فاختلف الأصحاب في ذلك، فعن بعضهم أنه خرجها على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن الضمير في: اشتراه. يرجع إلى الطعام، والطعام لم ينفرد زيد بشرائه، إنما اشترياه معا. واختار الشيخان أنه يحنث على الروايتين، لأن زيدا مشتر لنصفه، ونصفه طعام، فوجب أن يحنث به لوجود المحلوف عليه، كما لو انفرد زيد بشرائه، وهذا مقتضى قول القاضي في جامعه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا وغيرهم، فإنهم جزموا في هذه الصورة بالحنث، مع حكايتهم الخلاف في الصورة السابقة، وكذلك قطع هؤلاء بالحنث فيما إذا قال: لا آكل مما طبخه زيد، أو لا ألبس ثوبا خاطه زيد، أو لا أدخل دارا لزيد، مع حكايتهم الخلاف في الأصل السابق، ووافقهم أبو محمد في الأولى، وخالفهم في اللتين بعدها، فأجرى فيهما الخلاف، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يكلمهما أو لا يزورهما، فكلم أو زار أحدهما حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يجتمع فعله بهما.

ش: أما إذا كانت له نية فلا إشكال في اعتمادها، كما إذا قصد أن لا يجتمع فعله وهو الزيارة أو الكلام بأحدهما، فإنه لا يحنث إلا بزيارتهما أو كلامهما، ولو قصد ترك كلام أو زيارة كل منهما منفردا حنث بكلام أو زيارة أحدهما، وإن أطلق خرج على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن

ص: 171

الحالف على كلام شخصين أو زيارتهما إذا كلم أو زار أحدهما فعل بعض المحلوف عليه، قال أبو محمد: ويمكن أن يقال: إن تقدير يمينه: لا كلمت هذا، ولا كلمت هذا؛ لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه، فيصير كقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي وحرمت عليكم بناتكم، وإذا يصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا، كما لو صرح بذلك. قلت: هذا على القول الضعيف للنحاة من أنه يقدر للمعطوف عامل مثل عامل المعطوف عليه، أما على القول المشهور من أن العامل فيهما واحد - وهو الأول - فلا يمشي ما قاله، وحكم: لا آكل خبزا ولحما ونحو ذلك حكم ما تقدم، أما: لا أدخل هاتين الدارين، ولا أعصي الله في هذين البلدين ونحو ذلك ففيه الروايتان بلا ريب، ولا يجري فيه تردد أبي محمد، إذ لا عاطف ومعطوف، أما إن كان تعليق على شيئين، كأن

ص: 172

قال لزوجته: إن كلمت زيدا وعمرا فأنت طالق، أو قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقتان. ونحو ذلك، فعن بعض الأصحاب تخريجه على الخلاف، واختار أبو محمد في المغني - وهو احتمال له في الكافي - أنه لا يحنث إلا بفعل الشيئين، إذ المشروط لا يوجد إلا بتكامل مشروطه، وجعل في الكافي مسألة: إن حضتما. مسألة اتفاق، في أنه لا يحنث إلا بوجود الحيض منهما. والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا، فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، وكذلك إن انتفع به أو بثمنه.

ش: هذه المسألة من فروع اعتبار سبب اليمين، وأن الحكم قد يتعدى لغير الملفوظ به، نظرا لسبب اليمين الجاري مجرى العلة الشرعية، فإذا امتنت عليه زوجته بثوب، فحلف أن لا يلبسه، والباعث له على ذلك المنة، فإن يمينه تتعدى سبب ذلك إلى غير الثوب، فإذا اشترى به أو بثمنه ثوبا حنث، وكذلك إن انتفع بثمنه، لوجود المنة بالثوب، إذ بدل الشيء يقوم مقامه، وخرج ما إذا انتفع لها بثوب آخر، لأن المحلوف عليه ثوب بعينه، فتعلقت اليمين به.

وقول الخرقي: إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، يحترز عما إذا لم يمتن عليه به، ولا قصد هو أيضا قطع منتها، فإن يمينه تتعلق بلبسه خاصة، اعتمادا على اللفظ المجرد.

قال: ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار، فأوى

ص: 173

معها في غيرها، حنث إذا كان أراد بيمينه جفاء زوجته، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه.

ش: هذا من فروع اعتبار النية، فإذا حلف لا يأوي مع زوجته في دار عينها، يقصد بذلك جفاءها، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه، فأوى معها في غيرها حنث، لأن وجود الدار والحال هذه كعدمها، لما اقتضته نيته من جفائها الموجود بالإيواء معها في كل دار، وإن كان للدار سبب باعث على اليمين، كأن امتن عليه بها ونحو ذلك، لم يحنث بالإيواء معها في غيرها، لعدم ما يقتضي التعدية إلى غيرها، فصار ذلك كما لو عدمت النية والسبب، فإن يمينه لا تتجاوز ما حلف عليه، وهو الإيواء معها في تلك الدار.

(تنبيه) : معنى الإيواء المبيت والله أعلم.

قال: ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه.

ش: لأن اليمين على الغد، وفي الغد لم يكن الحالف مكلفا، فلم يتعلق به حنث، وكذلك لو جن في اليوم واستمر به ذلك إلى فوات الغد، لما تقدم من خروجه عن التكليف في وقت اليمين. (قلت) : وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه، فإنه يحنث، لبقاء التكليف، أما لو ارتد فينبغي بناؤه على تكليف الكفار بالفروع، والمذهب التكليف.

ومقتضى كلامه أنه لو مات الحالف في غد أنه يحنث،

ص: 174

وهو يشمل وإن لم يتمكن من ضربه، وهو المذهب، لأنه أدرك وقت الفعل وهو من أهل التكليف، ويشهد لهذا من قاعدتنا أن الوجوب في الصلاة والزكاة ونحوهما يتعلق بأول الوقت، وإن لم يتمكن من الفعل، وقيل: لا يحنث مطلقا، وقيل: إن تمكن من الضرب في الغد حنث، وإن لم يتمكن فلا، لأن الترك لم يكن باختياره فهو كالمكره، وهذه الأقوال الثلاثة لم أرها مصرحا بها في هذه المسألة بعينها، لكنها تؤخذ من مجموع كلام أبي البركات وغيره.

ومقتضى كلام الخرقي أيضا أنه لو لم يمت الحالف في اليوم لكنه مرض فيه أو نحو ذلك، بحيث تعذر عليه الفعل في الغد أنه يحنث، وهو كذلك والله أعلم.

قال: فإن مات العبد حنث.

ش: لا نزاع في هذا إذا كان موت العبد باختيار الحالف، كما إذا قتله، أما إن كان بغير اختياره فلا يخلو إما أن يكون قبل الغد أو فيه، فإن كان قبل الغد ففيه قولان، المذهب المنصوص منهما الحنث أيضا، كما قاله الخرقي، لعدم المحلوف عليه في وقته، أشبه ما لو ترك الضرب مع بقاء العبد لصعوبته عليه، ونحو ذلك. (والثاني) : لا يحنث، لأن عدم ضربه بغير فعل منه، أشبه المكره.

وحيث حنث فهل يحنث في الحال - وهو المذهب المنصوص - لأن يمينه منعقدة وقد تحقق عدم الفعل، فأشبه

ص: 175

ما لو لم يوقت بوقت، أو لا يحنث إلا إذا جاء الغد، أو لا يحنث إلا في آخر الغد؟ على ثلاثة أقوال، وإن كان في الغد بعد التمكن من ضربه حنث، وكذلك قبله على المذهب، ثم هل يحنث عقب التلف، أو في آخر اليوم؟ فيه القولان السابقان والله أعلم.

قال: وإذا حلف أن لا يكلمه حينا، فكلمه قبل ستة أشهر حنث.

ش: الحين عند الإطلاق يحمل على ستة أشهر، نص عليه أحمد والأصحاب، فإذا حلف لا يكلمه حينا، وكلمه قبل ستة أشهر حنث، لمخالفته لما حلف عليه، وإن كلمه بعدها لم يحنث، لأنه وفى بمقتضى يمينه، وهو عدم كلامه حينا، وإنما قلنا: الحين عند الإطلاق ستة أشهر - وإن كان الحين في أصل الوضع زمنا مبهما، يطلق على القليل والكثير - لأن الله سبحانه أطلقه وفسر بذلك في قَوْله تَعَالَى:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] .

3736 -

كذا قال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وناهيك به لمعرفته بالقرآن إن صح عنه، وما أطلق والمراد به أكثر من ذلك،

ص: 176

كما في قوله سبحانه وتعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فإنه عبر به عن عدة سنين، قيل: ثلاث عشرة سنة. فما ذكرناه هو الأقل وهو المتيقن، ولا يرد نحو قوله سبحانه:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لقيام القرينة الدالة على أن المراد وقت المساء ووقت الصباح، ولا نحو:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] أي يوم القيامة، لقيام القرينة أيضا على إرادة الزمن الطويل، والله أعلم.

قال: وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت، فقضاه قبله لم يحنث، إذا كان أراد بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت.

ش: كما إذا حلف ليقضينه حقه في رمضان، فقضاه في شعبان ونحو ذلك، وهذه المسألة من فروع اعتبار النية، فإنه إذا قصد أن لا يتجاوز رمضان، فمعنى يمينه أني لا أؤخر القضاء لبعد رمضان، فما قبل رمضان كله ظرف للقضاء، فإذا قضاه في شعبان مثلا لم يحنث، لوجود القضاء

ص: 177

في وقته، وكذلك إذا كان السبب يقتضي ذلك، لقيامه مقام النية، كما تقدم ذلك للخرقي، أما إن عدما فظاهر كلام الخرقي وأبي البركات واختاره أبو محمد أنه لا يبر إلا بالقضاء في الوقت الذي حلف عليه، وهو رمضان على ما مثلنا، اعتمادا على اللفظ، وقال القاضي: يبر مطلقا، نظرا للعرف، فإنه يقضي بالتعجيل في مثل هذه اليمين، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله.

ش: هذه المسألة قد تقدم الكلام عليها عند قوله: إذا حلف لا يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم.

قال: ولو قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه لم يحنث.

ش: لأن يمين الحالف انصبت على أنه لا يفارقه، فهي على فعل نفسه، فمتى هرب منه المحلوف عليه لم يوجد منه فعل، فلم يحنث، ومنصوص أحمد رحمه الله في رواية جعفر بن أحمد بن شاكر أنه يحنث لأن المقصود من نحو هذه

ص: 178

اليمين أن لا يحصل بيننا مفارقة، فاليمين توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث، فهو كما لو قال: لا افترقنا، واختار أبو البركات متابعة لما جزم به أبو محمد في الكافي أنه متى أمكنه متابعته وإمساكه فلم يفعل حنث، لأنه والحال هذه مختار للمفارقة، فينسب إليه، بخلاف ما إذا لم يمكنه ذلك، فإنه لم توجد منه المفارقة ولا نسبت إليه.

(تنبيه) : لو فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه، فهل يحنث نظرا إلى أن المفارقة وإن كان سببها من غيره قد وجدت منه، أو لا يحنث لأن الفعل والحال هذه لا ينسب إليه، لعدم اختياره له؟ يخرج على روايتي ما إذا فارقه مكرها بضرب، وما أجري مجراه والله أعلم.

قال: ولو قال: لا افترقنا. فهرب منه حنث.

ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأن المحلوف عليه هنا عدم المفارقة منهما، وقد وجدت مع الهرب، فيحنث، نعم لو أكرها معا على الفرقة ففي الحنث خلاف كما تقدم.

(تنبيه) : الفرقة ما يعده الناس فراقا كما في البيع، والله أعلم.

قال: ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك في كل مرة، إلا أن يكون نوى مرة واحدة.

ش: إذا حلف على زوجته أنها لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو حتى يأذن لها، فخرجت بغير إذنه حنث، لوجود المخالفة فيما حلف عليه، وانحلت يمينه بلا نزاع، إذ حرف «أن» لا يقتضي التكرار، وإن أذن لها فخرجت لم يحنث

ص: 179

بلا ريب، لعدم المخالفة، ثم هل يحتاج بعد ذلك في كل خروج إلى إذن أو قد انحلت يمينه بالإذن الأول؟ فيه روايتان، المذهب منهما الأول، وهذا معنى قول الخرقي: فذلك في كل مرة، أي إذا لم يحنث، وأصل الخلاف والله أعلم من قوله: إن خرجت. معناه خروجا، وخروجا نكرة في سياق الإثبات، لكنها في سياق الشرط، فمن لحظ كونها في سياق الشرط - وهو التحقيق - قال: تعم كل خروج، فكل خروج محلوف عليه أنها لا تخرج إلا على صفة، وهو الإذن فإذا خرجت بغير إذنه حنث، وإن كان قد أذن لها في خروج سابق، ومن لحظ كونها نكرة في سياق الإثبات، مع قطع النظر إلى الشرط، قال: إنما تناولت خروجا واحدا على صفة وهو الإذن، فإذا أذن لها فخرجت زالت اليمين، لوجود المحلوف عليه، هذا كله مع الإطلاق، أما مع التقييد باللفظ، كما إذا قال: حتى آذن لك مرة، أو في كل مرة، فلا ريب في اعتماد ذلك، وتقوم مقام اللفظ النية، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله.

(تنبيه) : أخذ أبو الخطاب في الهداية الرواية الثانية من قول عبد الله عن أبيه: إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه، إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل مرة، وتكون يمينه على ما نوى، وإن قال: كلما خرجت فهو بإذني، أجزأه مرة واحدة، وهذا ظاهر في الأخذ، وكذلك تبعه أبو البركات، وأبو محمد

ص: 180

في المقنع على حكاية الرواية، إلا أن قول أحمد رحمه الله في: كلما خرجت فهو بإذني، أنه يجزئه مرة واحدة، فيه نظر، لأن هذا صريح في العموم، وقد يحمل قوله: أجزأه مرة واحدة. إذا نوى بالمرة الإذن في كل مرة، أو أنه عبر بالعام - وهو كل خروج - عن الخاص، وهو خروج واحد مجازا، اهـ. وقطع أبو محمد في المغني بالرواية الأولى، وجعل رواية عبد الله فيما إذا أذن لها مرة أنه يسمع منه، وكأنه أخذ ذلك من قوله في الرواية: وتكون يمينه على ما نوى. والظاهر خلافه والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب، فأكله تمرا حنث، وكذلك كلما تولد من ذلك الرطب.

ش: أصل هذه المسألة إذا اجتمع في المحلوف عليه التعيين والصفة، أو التعيين والاسم، فهل يغلب التعيين - كما اختاره الخرقي وعامة الأصحاب، منهم ابن عقيل في تذكرته، ولهذا كان التعريف بالإشارة من أعرف المعارف - أو الصفة والاسم، وهو اختيار ابن عقيل على ما حكاه عنه أبو البركات، وأومأ إليه أحمد في رواية مهنا، فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكله أنه لا يحنث، لأن ذلك بمنزلة العلة، فيزول الحكم بزوالها. على قولين.

ص: 181

ويدخل تحت ذلك صور (منها) مسألة الخرقي وهي ما إذا حلف لا يأكل هذا الرطب، فصار تمرا أو دبسا أو خلا، ونحو ذلك؛ (ومنها) : إذا حلف لا آكل هذه الحنطة؛ فصارت دقيقا، أو خبزا، أو هريسة أو نحو ذلك. (ومنها) : لا آكل هذا اللبن، فصار جبنا، أو كشكا ونحو ذلك، أو لا آكل هذا الحمل، فصار كبشا، أو لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء أو حماما، ونحو ذلك، أو لا أكلم هذا الصبي، فصار شيخا، أو لا أكلم زوجة فلان هذه، أو عبده سعيدا ونحو ذلك، فطلق الزوجة، وباع العبد، أو: لا لبست هذا القميص فصار سراويل أو رداء ونحو ذلك، واستثنى أبو محمد من ذلك إذا استحالت الأجزاء، أو تغير الاسم، مثل أن يحلف لا آكل هذه البيضة، فتصير فرخا، أو الحنطة، فتصير زرعا، فهذا لا يحنث بأكله، قال: وعلى قياسه الخمر إذا صارت خلا، وعن ابن عقيل أنه طرد القول حتى في البيضة والزرع، ولعله أظهر، إذ لا يظهر بين صيرورة البيضة فرخا وصيرورة الرطب خلا ونحو ذلك فرق طائل، وأبعد من ذلك الخمر إذا صارت خلا، فإن الماهية باقية، وإنما تغيرت الصفة، وقد قال أبو البركات: إذا حلف ليأكلن من هذه البيضة أو التفاحة ثم عمل منها ناطفا أو شرابا، بر على القول بتقديم التعيين، ولا يبر على القول

ص: 182

باعتبار الصفة، وليس في الشراب إلا مائية ماء من التفاح.

(تنبيه) : محل الخلاف مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالحكم له كما تقدم، والله أعلم.

قال: وإذا حلف أن لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث.

ش: هذا واضح، إذ المحلوف عليه التمر، والرطب غيره فلا يحنث به، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يأكل اللحم، فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث، إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم.

ش: أما مع عدم الإرادة فلأن الشحم والمخ - وهو الذي في العظام - والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ليسوا بلحم حقيقة ولا عرفا، فالحالف لا يأكل لحما لا يحنث بذلك، لعدم تناول يمينه له، وعلى قياس ذلك الألية وكل ما لا يسمى لحما، كالكبد والطحال، والرئة والمصران، والكرش والقانصة، والقلب والأكارع والكلية، وكذلك ما كان لحما إلا أنه اختص باسم، إما لغة أو عرفا، كلحم خد الرأس، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي،

ص: 183

وكاللسان على أظهر الاحتمالين، وعن أبي الخطاب: يحنث بأكل لحم الخد، وهو مناقض لاختياره في الهداية، فيما إذا حلف لا يأكل رأسا؛ لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفردا، فغلب العرف، مع أنه قد يقال: إنه عرف فعلي ولم يغلب هنا العرف مع أنه نقلي، وقد ناقض القاضي أيضا قوله هذا فقال - تبعا لابن أبي موسى - فيما إذا أكل هنا مرقا يحنث، لأنه لا يخلو من أجزاء لحم تذوب فيه، وجرى أبو الخطاب على الصواب، وتبعه الشيخان فقالا: لا يحنث؛ لأنه على تقدير تسليم أن فيه أجزاء لحم ذائبة فذلك لا يسمى لحما، لا حقيقة ولا عرفا، وأحمد قال في رواية صالح لا يعجبني. اهـ.

وأما مع إرادة الدسم، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يحنث بشيء من ذلك إلا بالشحم، لأنه المتبادر من إرادة الدسم، وقال الشيخان وغيرهما من الأصحاب: يحنث بجميع ذلك، لوجود الاسم فيه.

(تنبيه) : اختلف في بياض اللحم - كسمين الظهر ونحوه - (هل حكمه حكم اللحم) فيحنث من حلف لا يأكل لحما فأكله، وهو قول ابن حامد والقاضي، وظاهر كلام أبي البركات أن المسألة اتفاقية، لدخوله في مسمى اللحم، ولهذا لو اشتراه من وكل في شراء لحم لزم موكله، (أو حكم الشحم) فيحنث من حلف لا يأكل شحما فأكله، وهو اختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشريف، وأبي الخطاب

ص: 184

والشيرازي وابن عقيل، واختيار أبي محمد، وقال: إنه ظاهر كلام الخرقي، وقول طلحة العاقولي، لشبهه للشحم في صفته وذوبه، ولأن الله تعالى استثناه من الشحم حيث قال:{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] الآية؛ على قولين، وفي كلا الدليلين نظر؛ إذ مجرد شبه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يسمى باسمه، ويعطى حكمه، على أن شبه سمين الظهر بالألية أقرب من شبهه بالشحم، وأما الاستثناء فقال البغوي وغيره:{إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما؛ اهـ. فالمستثنى شحم حقيقة وعرفا، إلا أن الله تعالى أرخص لهم فيه دفعا للحرج عنهم، والله أعلم.

قال: فإن حلف أن لا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث، لأن اللحم لا يخلو من شحم.

ش: قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله، وهو أن اللحم لا يخلو من شحم، فالحالف لا يأكل الشحم يمينه تشمل كل شحم، وهذا شحم فيدخل في يمينه، وقال عامة الأصحاب: لا يحنث، لأن وجود هذا والحالة هذه كالعدم، فاليمين لا تتناوله عرفا.

(تنبيه) : استنبط أبو محمد من هذا أن الشحم عند الخرقي كل ما يذوب بالنار، قال: وهذا ظاهر قول أبي الخطاب،

ص: 185

وقول طلحة، قال: ويشهد له ظاهر الآية والعرف، وبنى على هذا أنه يحنث بأكل الألية، وقال القاضي وغيره: إن الشحم هو الذي يكون في الجوف، من شحم الكلى أو غيره، فعلى هذا لا يحنث بأكل الألية واللحم الأبيض، ونحو ذلك، وهذا هو الصواب، وقد تقدم أن الآية لا تدل على ما ادعاه، وأن العرف عكس هذا، والله أعلم.

قال: وإن حلف أن لا يأكل لحما ولم يرد أكل لحم بعينه، فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث.

ش: أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الطائر فلا نزاع فيما نعلمه في حنثه، لدخول المحلوف عليه، وهو اللحم حقيقة وعرفا، وأما إذا أكل من لحم السمك ففي الحنث به وجهان، المشهور منهما - وهو اختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه - الحنث. (والثاني) - وهو اختيار ابن أبي موسى -: عدمه، ولعله الظاهر، لأن لحم السمك وإن كان لحما حقيقة، بدليل قَوْله تَعَالَى:{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] إلا أن أهل العرف خصصوا ذلك، كما خصصوا لفظ الدابة بذوات الأربع، وصاروا لا يسمونه لحما، وإنما يسمونه سمكا، ولهذا لا يكادون يقولون إذا أكلوا سمكا: أكلنا لحما. وإنما يقولون: سمكا، ولا ريب أن العرف ناسخ للحقيقة اللغوية،

ص: 186

إذ هي بالنسبة إليه مجاز، ولعل هذا الخلاف مبني على أنه هل وصل إلى حد النقل أم لا؟ فيكون الخلاف في تحقيق المناط، والظاهر وصوله، لأن ضابط المنقول أن يتبادر الذهن عند الإطلاق للمنقول إليه، ولا ريب أن إطلاق اللحم لا يفهم منه عند الإطلاق السمك، اهـ.

وظاهر إطلاق الخرقي أنه يحنث بأكل كل لحم، فيدخل في ذلك اللحوم المحرمة، كلحم الخنزير ونحوه، وهو أشهر الوجهين، وبه قطع أبو محمد، لدخوله في مسمى اللحم حقيقة وعرفا. (والثاني) : لا يدخل ذلك، لأن قرينة حال المسلم تقتضي أنه لا يريد ذلك، والقرائن تخصص، وينبغي على هذا التعليل أن يدخل ذلك في يمين الكافر وجها واحدا، وقد يدخل في كلام الخرقي أيضا لحم الخد، ولحم اللسان، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم.

قال: وإذا حلف أنه لا يأكل سويقا فشربه، أو لا يشربه فأكله حنث، إلا أن يكون له نية.

ش: أما مع النية فلا كلام كما تقدم غير مرة، وأما مع عدمها ففيه ثلاثة أقوال. (أحدها) : الحنث كما قاله الخرقي، لأن مقصود اليمين في مثل ذلك الاجتناب، فكأنه حلف أن يتجنب ذلك عن إيصاله إلى باطنه. (والثاني) : عدم الحنث، أخذا من قول أحمد في رواية مهنا - فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكل -: لا يحنث، لأن أنواع الأفعال

ص: 187

كالأعيان، ولا ريب أنه لو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره، فكذلك الأفعال. (والثالث) : إن عين المحلوف عليه: كلا أكلت هذا السويق. حنث بشربه تغليبا للتعيين كما تقدم، بخلاف ما إذا لم يعين: كلا أكلت سويقا. فإنه لا يحنث، وهذا قول القاضي في المجرد، وعنده في الروايتين أن محل الخلاف مع التعيين، أما مع عدمه فلا يحنث قولا واحدا، وخرج أبو الخطاب وأبو محمد الخلاف في كل ما حلف لا يأكله فشربه، أو لا يشربه فأكله، حتى قال أبو محمد - فيمن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به -: أنه يجيء على قول الخرقي أنه يحنث، ونص أحمد في رواية إبراهيم الحربي - فيمن حلف لا يشرب شيئا، فمص قصب السكر -: ليس عليه شيء، وكذلك لو حلف لا يأكل شيئا، فمص قصب السكر، لم يكن عليه شيء، على ما يتعارفه الناس أن الرجل لا يقول: أكلت قصب السكر، وتبع النص ابن أبي موسى. والله أعلم.

قال: وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله.

ش: مسألة الخرقي رحمه الله إذا شك في التمرة التي أكلها هل هي المحلوف عليها أم لا، واختياره والحال هذه اجتناب

ص: 188

الزوجة، للشك في تحريمها، أشبه ما لو اشتبهت أخته بأجنبية، وتبعه على ذلك ابن البنا، وقال أبو الخطاب وغيره: إنه لا يجب عليه اجتنابها، بل الأولى له ذلك، إذ الأصل الحل، فلا يزول بالشك، وفارق المقيس عليه، إذ الأصل عدم الحل، إلا بعقد يتحقق صحته، بوجود شروطه، وانتفاء موانعه ولم يوجد، أما إذا علم أكل التمرة التي حلف عليها، بأن أكل التمر كله، أو الجانب الذي وقعت فيه، ونحو ذلك فلا ريب في حنثه، وإن علم أن التمرة التي أكلها غير المحلوف عليها فلا ريب أيضا في عدم حنثه، وحل زوجته.

وقول الخرقي: من حلف بالطلاق؛ يشمل البائن والرجعي، وهو مبني على قاعدته في تحريم الرجعية، أما على قول غيره في حلها فلا اجتناب، إذا كان الطلاق رجعيا لأن قصاراه وطء رجعية وهو مباح، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة، لم يبر في يمينه.

ش: هذا هو المذهب المشهور، لأن الأسواط آلة أقيمت مقام المصدر، فمعنى الكلام: لأضربنه عشر ضربات بسوط، ولو قال كذلك لم يبر إلا بعشر ضربات، فكذلك هذا، يحقق ذلك أنه لو ضربه عشر ضربات بسوط بر اتفاقا، ولو عاد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد، كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط.

3737 -

ولا ترد قصة أيوب عليه السلام وإن قلنا: شرع من قبلنا

ص: 189

شرع لنا؛ لأن ذلك رخصة في حقه، رفقا بامرأته، لإحسانها إليه، ولذلك امتن عليه بذلك، ولو كان الحكم عاما له ولغيره لما اختص بالمنة، وكذلك الكلام في المريض الذي يخشى تلفه، يقام عليه الحد بعثكال من النخل ونحوه، ترخيصا من الشارع، رفعا للحرج والمشقة، ولهذا لا يجوز أن يضرب في حال الصحة بالسياط المجموعة بلا ريب، (وعن ابن حامد) أنه يبر بذلك، أخذا من قول أحمد في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال النخل، يسقط عنه الحد، واستدلالا بقصة أيوب عليه السلام.

3738 -

وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في المريض الذي زنا: «خذوا له عثكالا، فيه مائة شمراخ، فاضربوه بها ضربة واحدة» ، وقد تقدم الجواب عن ذلك، ثم كان من حق ابن حامد أن

ص: 190

يسوي بين الأصل والفرع، فلا يقول بالبر إلا في حق من له عذر يبيح ضربه في الحد بالعثكال، وإذا كان يقرب قوله، ولهذا قال أبو محمد: لو قيل بهذا كان له وجه، والله أعلم.

ص: 191

قال: ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه.

ش: أما إذا قصد بيمينه أن لا يكلمه مشافهة، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا إشكال في أنه لا يحنث بمكاتبته أو مراسلته، لعدم التكليم مشافهة، وإن قصد ترك مواصلته، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا ريب أيضا في حنثه بمكاتبته ومراسلته، لوجود مواصلته المحلوف على تركها، وإن عريت اليمين عن قصد وسبب ففيه روايتان، حكاهما في الكافي (إحداهما) - وهي التي حكاها في المغني عن الأصحاب -: الحنث أيضا، لأن الظاهر من هذه اليمين هجرانه، فتحمل يمينه عليه، اعتمادا على الظاهر؛ (والثانية) - وإليها ميل أبي محمد -: عدم الحنث والحال هذه، لأن ذلك ليس بكلام حقيقة، ولهذا يصح نفيه فيقال: ما كلمته، وإنما كاتبته، ولأن الله تعالى امتن على موسى عليه السلام فقال سبحانه:{يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل، وأما قَوْله تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فاستثنى الرسول من التكليم، وذلك بالنظر إلى الاشتراك في أصل معنى التكليم وهو التأثير، إذ هو مأخوذ من الكلم وهو الجرح، ولا شك أن المراسلة والمكاتبة يؤثران في المرسل إليه والمكتوب له، ولذلك جعل سبحانه الكلام قسيما للوحي في

ص: 192

موضع آخر، لا من أقسامه فقال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] نظرا إلى أن كلا منهما يختص عند الإطلاق باسم، وبالجملة ميل أبي محمد هنا إلى الحقيقة، وميل الأصحاب إلى المعنى، وهو أوجه، والله أعلم.

ص: 193