الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: وَهَذَا كالمتعين؛ لِأَن التَّعْلِيم لَا يكَاد يحصل إِلَّا فِي مجْلِس.
قُلْتُ: وَرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ الَّتِي قدمناها صَرِيحَة فِي كَونهَا فِي مجْلِس وَاحِد.
وَلم يظفر بهَا النَّوَوِيّ فَهِيَ رَافِعَة لهَذَا الْخلاف، وَالله سبحانه وتعالى أعلم.
الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
«أنَّه صلى الله عليه وسلم توضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا فَقَالَ: من زَاد عَلَى هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» ، عَن مُسَدّد، ثَنَا أَبُو عوَانَة، عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ الطّهُور؟ فَدَعَا بِمَاء فِي إِنَاء فَغسل كفيه ثَلَاثًا، ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا، ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ وَأدْخل أصبعيه السباحتين فِي أُذُنَيْهِ، وَمسح بإبهاميه عَلَى ظَاهر أُذُنَيْهِ، وبالسباحتين بَاطِن أُذُنَيْهِ، ثمَّ غسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوضُوء، فَمن زَاد عَلَى هَذَا (أَو نقص) فقد أَسَاءَ وظلم - أَو ظلم وأساء» .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» من حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مُوسَى (بن) أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ:
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» ، عَن عَلّي بن مُحَمَّد، نَا خَالِي يعْلى، عَن سُفْيَان، عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: « (جَاءَ) أَعْرَابِي
…
» الحَدِيث بِلَفْظ النَّسَائِيّ إلَاّ أَنه قَالَ: «فقد أَسَاءَ أَو تعدى، أَو ظلم» ، بِلَفْظ «أَو» . وَأخرجه أَحْمد فِي «مُسْنده» بِسَنَد النَّسَائِيّ وَلَفظه، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِلمام» : إِسْنَاده صَحِيح إِلَى عَمْرو. فَمن احْتج بنسخة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، فَهُوَ عِنْده صَحِيح.
قلت: احْتج بهَا الْأَكْثَرُونَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبا، لَا جرم أَن ابْن خُزَيْمَة أخرجه فِي «صَحِيحه» من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة بِلَفْظ «أَن أعرابيًّا أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَن الْوضُوء فَتَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا ثَلَاثًا، فَقَالَ: من زَاد فقد أَسَاءَ وظلم - أَو اعْتَدَى وظلم» ، ثمَّ قَالَ: لم يوصله غير الْأَشْجَعِيّ ويعلى.
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كِتَابه «الطّهُور» ، عَن الحكم بن بشير بن سُلَيْمَان، عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا:«الْوضُوء ثَلَاث، فَمن زَاد أَو نقص، فقد أَسَاءَ وظلم - وَقَالَ الحكم: أَو قَالَ: ظلم وأساء» .
وَزعم أَبُو دَاوُد فِي كتاب (التفرد) أَنه من مُفْرَدَات أهل الطَّائِف، وَأما صَاحب «القبس» فَقَالَ: صَحَّ أَنه عليه السلام تَوَضَّأ مرّة مرّة، ومرتين مرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا وَثَلَاثًا (قَالَ) : وَرُوِيَ: «فَمن زَاد أَو اسْتَزَادَ فقد تعدى وظلم» . قَالَ: وَهَذَا لم يَصح.
وَالظَّاهِر أَن مُرَاده رِوَايَة ذَلِكَ إِثْر الحَدِيث السالف قبل هَذَا الحَدِيث.
فَائِدَة: (اخْتلف) أَصْحَابنَا فِي مَعْنَى قَوْله عليه الصلاة والسلام: «أَسَاءَ وظلم» عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الإِساءة فِي النَّقْص، وَالظُّلم فِي الزِّيَادَة، فَإِن الظُّلم مُجَاوزَة الْحَد وَوضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَهَذَا يدل لَهُ صَرِيحًا رِوَايَة أبي عبيد.
الثَّانِي: عَكسه؛ لِأَن الظُّلم يسْتَعْمل بِمَعْنى النَّقْص كَقَوْلِه تَعَالَى: (آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا) .
الثَّالِث: أَسَاءَ وظلم فِي النَّقْص، وأساء وظلم فِي الزِّيَادَة.
حَكَى هَذِه الْأَقَاوِيل الثَّلَاثَة النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» . قَالَ:
وَاخْتَارَ ابْن الصّلاح الثَّالِث؛ لِأَنَّهُ ظَاهر الْكَلَام، قَالَ: وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَكْثَرين: «فَمن زَاد فقد أَسَاءَ وظلم» وَلم يذكرُوا النَّقْص، وَهَذِه الإِساءة وَالظُّلم مَعْنَاهُمَا أَنه مَكْرُوه (كَرَاهِيَة) تَنْزِيه، هَذَا قَول الْجُمْهُور.
وَقيل: تحرم الزِّيَادَة عَلَى الثَّلَاث.
وَقيل: لَا تحرم وَلَا تكره لَكِنَّهَا خلاف الأولَى. وَالصَّوَاب الأول، فَلَو زَاد أَو نقص لم يبطل وضوءه عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء. وَحَكَى الدَّارمِيّ عَن قوم أَنه يبطل كَمَا لَو زَاد فِي الصَّلَاة رَكْعَة أَو نقص مِنْهَا، هَذَا غلط فَاحش.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمَشْهُور فِي كتب الْفِقْه وشروح الحَدِيث وَغَيرهَا لِأَصْحَابِنَا وَغَيرهم أَن قَوْله صلى الله عليه وسلم: «فَمن زَاد أَو نقص» مَعْنَاهُ زَاد عَلَى الثَّلَاث أَو نقص مِنْهَا، وَلم يذكر أَصْحَابنَا وَغَيرهم غير هَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» : يحْتَمل أَن المُرَاد بِالنَّقْصِ نقص الْعُضْو.
وَجزم بِهَذِهِ الْمقَالة الشَّيْخ زكي الدَّين فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا تَأْوِيل غَرِيب ضَعِيف مَرْدُود. قَالَ: وَمُقْتَضَاهُ أَن تكون الزِّيَادَة فِي الْعُضْو وَهِي غسل مَا فَوق الْمرْفق والكعب إساءة وظلمًا وَلَا سَبِيل إِلَى ذَلِكَ، بل (هُوَ) مُسْتَحبّ، وَالْبَيْهَقِيّ مِمَّن نَص عَلَى اسْتِحْبَابه وَعقد فِيهِ بَابَيْنِ:
أَحدهمَا: بَاب اسْتِحْبَاب إمرار المَاء عَلَى الْعَضُد.
وَالثَّانِي: بَاب الإشراع فِي السَّاق. وَذكر (فِيهَا) حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق.
قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن قيل كَيفَ يكون النَّقْص عَن الثَّلَاث إساءة وظلمًا ومكروهًا وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فعله كَمَا (جَاءَ) فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة؟ قُلْنَا: ذَلِكَ الِاقْتِصَار كَانَ لبَيَان الْجَوَاز فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحَال أفضل؛ لِأَن الْبَيَان وَاجِب.
فصل
هَذَا أول حَدِيث أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده وَهِي تَرْجَمَة اخْتلف فِي الِاحْتِجَاج بهَا ولنلخص الْكَلَام فِيهَا فِي مقامين:
أَحدهمَا: هَل يحْتَج بِهِ هُوَ نَفسه وَفِي ذَلِكَ مقَال.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «الضُّعَفَاء» : قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: كنت إِذا [أَتَيْته] غطيت رَأْسِي حَيَاء من النَّاس. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد: هُوَ عندنَا واهٍ. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: رُبمَا احتججنا بِهِ، وَرُبمَا وَحش فِي الْقلب مِنْهُ شَيْء، وَله مَنَاكِير. وَقَالَ فِي رِوَايَة: لَيْسَ بِحجَّة. وَقَالَ فِي رِوَايَة: هُوَ ثِقَة فِي نَفسه إِنَّمَا بلي بِكِتَاب عَن أَبِيه عَن جده. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَنه رَوَى صحيفَة كَانَت عِنْده. انْتَهَى مَا نَقله
ابْن الْجَوْزِيّ. وَقَالَ سُفْيَان: كَانَ مُغيرَة لَا يعبأ بِصَحِيفَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده.
وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: حَدِيثه عَن أَبِيه عَن جده (عِنْد) النَّاس فِيهِ شَيْء.
وَقَالَ ابْن عدي: قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ أَحْمد: أَصْحَاب الحَدِيث إِذا شَاءُوا احْتَجُّوا بحَديثه عَن أَبِيه عَن جده، وَإِذا شَاءُوا تَرَكُوهُ. هَذَا كَلَام من طعن فِيهِ.
وَلَكِن الْجُمْهُور وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ، كَمَا قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد قَالَ البُخَارِيّ: رَأَيْت أَحْمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يحتجون بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده. قَالَ البُخَارِيّ: مَن النَّاس بعدهمْ؟ .
قلت: وَمَعَ هَذَا (القَوْل) فَمَا احْتج بِهِ البُخَارِيّ فِي «صَحِيحه» ، نعم احْتج بِهِ فِي كتاب «الْقِرَاءَة خلف الإِمَام» .
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سُئِلَ يَحْيَى بن معِين عَنهُ فَغَضب وَقَالَ: مَا شَأْنه؟ ! رَوَى عَنهُ الْأَئِمَّة، وَرَوَى مَالك عَن رجل عَنهُ.
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن معِين قَالَ: إِذا حَدَّث عَن أَبِيه عَن جده
فَهُوَ كتاب. قَالَ: فَمن هَذَا جَاءَ ضعفه.
وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: مَا رَأَيْت أحدا من أَصْحَابنَا مِمَّن ينظر فِي الحَدِيث وينتقي الرِّجَال، يَقُول فِي عَمْرو بن شُعَيْب شَيْئا، وَحَدِيثه صَحِيح وَهُوَ ثِقَة ثَبت (و) الْأَحَادِيث الَّتِي أَنْكَرُوا من حَدِيثه إنَّما هِيَ لقوم ضعفاء رووها عَنهُ، وَمَا رَوَى عَنهُ الثِّقَات فَصَحِيح.
وَسُئِلَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: أَيّمَا أحب إِلَيْك عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (وبهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه عَن جده؟) فَقَالَ: عَمْرو أحب إِلَيّ.
(وَقَالَ أَبُو زرْعَة: رَوَى عَنهُ الثِّقَات وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَثْرَة رِوَايَته عَن أَبِيه عَن جده. وَإِنَّمَا سمع أَحَادِيث [يسيرَة] وَأخذ صحيفَة كَانَت عِنْده فرواها) . وَقَالَ أَبُو زرْعَة أَيْضا: هُوَ مكي ثِقَة فِي نَفسه. وَقَالَ أَحْمد الْعجلِيّ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: هُوَ ثِقَة يحْتَج بِهِ. وَفِي رِوَايَة عَنهُ قَالَ: هُوَ واهي الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارمي: هُوَ ثِقَة، رَوَى عَنهُ الَّذين نظرُوا فِي أَحْوَال الرِّجَال كأيوب وَالزهْرِيّ وَالْحكم، وَاحْتج أَصْحَابنَا بحَديثه.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح: وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: (عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده)(إِذا كَانَ الرَّاوِي عَن عَمْرو ثِقَة فَهُوَ) كأيوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر. وَهَذَا فِي التَّشْبِيه نِهَايَة الْجَلالَة من مثل هَذَا الإِمام.
وَقَالَ ابْن عدي: رَوَى عَنهُ أَئِمَّة النَّاس وثقاتهم [وَجَمَاعَة من الضُّعَفَاء] وَلَكِن أَحَادِيثه عَن أَبِيه عَن جده - مَعَ احتمالهم إِيَّاه - لم يدخلوها فِي الصِّحَاح.
قلت: بل أدخلوها فِي الحسان المحتج بهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: سَمِعت عدَّة من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يذكرُونَ (أَن) عَمْرو بن شُعَيْب فِيمَا رَوَاهُ عَن سعيد بن الْمسيب وَغَيره فَهُوَ صَدُوق، وَمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه عَن جده يجب التَّوَقُّف فِيهِ.
وَقَالَ عبد الْحق فِي «الْأَحْكَام» : عَمْرو بن شُعَيْب ثِقَة، وَإِنَّمَا تكلم فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يحدث عَن صحيفَة جده.
وَقَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي كتاب الْهِبَة: لَا أعلم خلافًا فِي عَدَالَة عَمْرو بن شُعَيْب؛ إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي سَماع أَبِيه من جده.
وَقَالَ الْحَافِظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي جُزْء «فِيمَن تكلم فِيهِ وَهُوَ
موثق» عَمْرو بن شُعَيْب صَدُوق فِي نَفسه لَا يظْهر لي تَضْعِيفه بِحَال وَحَدِيثه قوي.
الْمقَالة الثَّانِيَة: أنَّ هَذِه التَّرْجَمَة نسبت إِلَى الإِرسال والانقطاع.
قَالَ أَبُو حَاتِم (بن حبَان) : لَا يجوز الِاحْتِجَاج عِنْدِي بِمَا رَوَاهُ عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده؛ لِأَن هَذَا الإِسناد لَا يَخْلُو من أَن يكون مُرْسلا أَو مُنْقَطِعًا (لِأَنَّهُ) عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. فَإِذا رَوَى عَن أَبِيه عَن جده، (فَأَرَادَ بجده مُحَمَّدًا) فمحمد لَا صُحْبَة لَهُ. وَإِن أَرَادَ عبد الله فأبوه شُعَيْب لم يلق عبد الله، والمنقطع والمرسل لَا تقوم بهما حجَّة؛ لِأَن الله - تَعَالَى - لم يُكَلف عباده أَخذ الدَّين (عَمَّن) لَا يعرف.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: جده الْأَدْنَى مُحَمَّد وَلم يدْرك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وجده الْأَعْلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وَلم (يُدْرِكهُ) شُعَيْب. وجده الْأَوْسَط عبد الله وَقد أدْركهُ. فَإِذا لم يسم جدّه احْتمل أَن يكون مُحَمَّدًا، وَاحْتمل أَن يكون عمرا فَيكون فِي الْحَالين مُرْسلا، وَاحْتمل أَن يكون عبد الله الَّذِي أدْركهُ فَلَا يَصح الحَدِيث وَيسلم من الإِرسال إلَاّ أَن يَقُول عَن جدِّه عبد الله بن عَمْرو.
وَقَالَ الإِمام الشَّافِعِي فِيمَا نَقله ابْن معن الدِّمَشْقِي فِي كِتَابه الْمُسَمَّى
ب «التنقيب» والقلعي فِي كَلَامه كِلَاهُمَا عَلَى الْمُهَذّب: «لَا أحتج بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب حَتَّى أعلم عَن أَي جديه يروي، فإنْ رَوَاهُ عَن جده مُحَمَّد بن عبد الله فَهُوَ مُرْسل لَا أحتج بِهِ، وإنْ رَوَاهُ عَن جد أَبِيه فجد أَبِيه عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فَهُوَ صَحِيح يجب الْعَمَل (بِهِ) .
وَنقل الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي نَحْو هَذَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة.
وَنقل أَبُو عبد الله الْقطَّان فِي «مَنَاقِب الشَّافِعِي» (أَن الشَّافِعِي) غمض عَلَى عَمْرو بن شُعَيْب.
وَالْجَوَاب: أَنه قد صَحَّ وَثَبت أَن شعيبًا سمع من جده عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فروَى الْبَيْهَقِيّ فِي «السّنَن الْكَبِير» فِي الْحَج وَالْحَاكِم فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي الْبيُوع عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه «أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عَمْرو (يسْأَله) عَن محرم وَقع (بامرأته) فَأَشَارَ إِلَى عبد الله بن عمر، فَقَالَ:(اذْهَبْ) إِلَى ذَلِكَ فَاسْأَلْهُ. قَالَ شُعَيْب: فَلم يعرفهُ الرجل فَذَهَبت مَعَه فَسَأَلَ ابْن عمر، فَقَالَ: بَطل حجك. قَالَ الرجل: فَمَا أصنع؟ قَالَ: (اخْرُج) مَعَ النَّاس واصنع مَا يصنعون، فَإِذا أدْركْت [قَابلا فحج] واهد، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه فَأخْبرهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى عبد الله بن عَبَّاس فَاسْأَلْهُ. [قَالَ شُعَيْب:
فَذَهَبت مَعَه إِلَى ابْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ] فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو وَأَنا مَعَه فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: مَا تَقول أَنْت؟ قَالَ: قولي مثل مَا قَالَا» .
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث رُوَاته ثِقَات حفاظ وَهُوَ كالأخذ بِالْيَدِ فِي صِحَة سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد من جده عبد الله بن عَمْرو. قَالَ: وَقد كنت أطلب الْحجَّة الظَّاهِرَة فِي سَماع شُعَيْب بن مُحَمَّد (عَن) عبد الله بن عَمْرو (فظفرت بهَا الْآن) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح. قَالَ: وَفِيه دَلِيل عَلَى صِحَة سَماع (شُعَيْب) بن مُحَمَّد بن عبد الله من جده عبد الله بن عَمْرو.
وَهَذِه الْمقَالة الْمُتَقَدّمَة من الْحَاكِم تكون رُجُوعا عَمَّا قَالَه فِي «الْمُسْتَدْرك» فِي كتاب الصَّلَاة حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا قَالُوا فِي تَرْجَمَة عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده للإِرسال فَإِنَّهُ عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَشُعَيْب لم يسمع من جده عبد الله. وَقَالَ فِيهِ فِي الْهِبَة: أَنا عَلّي بن عمر الْحَافِظ سَمَاعا سَمِعت أَبَا بكر بن زِيَاد الْفَقِيه النَّيْسَابُورِي يَقُول: (سَمِعت) مُحَمَّد بن عَلّي
بن حمدَان الْوراق يَقُول: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: عَمْرو بن شُعَيْب سمع من أَبِيه شَيْئا؟ فَقَالَ: هُوَ عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو، وَقد صَحَّ سَماع عَمْرو بن شُعَيْب من أَبِيه شُعَيْب، وَصَحَّ سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمْرو (بن الْعَاصِ) . وَنقل نَحْو ذَلِكَ عَن الإِمام أَحْمد ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب «التَّحْقِيق» ، فَإِنَّهُ قَالَ: أثبت أَحْمد سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمْرو.
وَقَالَ البُخَارِيّ فِي «تَارِيخه» : سمع شُعَيْب من عبد الله بن عَمْرو، وَقَالَ لنا (أَبُو) حَيْوَة عَن زِيَاد بن عَمْرو: سَمِعت شُعَيْب بن مُحَمَّد أَنه سمع عبد الله بن عَمْرو. وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: سَمِعت عَلّي بن الْمَدِينِيّ يَقُول: قد سمع أَبوهُ شُعَيْب من جده عبد الله. (قَالَ) عَلّي: وَعَمْرو عندنَا ثِقَة، وَكتابه صَحِيح.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن حبَان من أَنه لم يَصح سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن عَمْرو خطأ، فقد رَوَى عبيد الله بن عمر الْعمريّ - وَهُوَ من الْأَئِمَّة الْعُدُول - عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد عبد الله بن (عمر) فجَاء رجل فاستفتاه فِي مَسْأَلَة فَقَالَ (لي) : يَا شُعَيْب امْضِ مَعَه إِلَى ابْن عَبَّاس.
فَهَذَا صَرِيح فِي سَماع شُعَيْب من جده عبد الله.
وَقَالَ (الْبَيْهَقِيّ) فِي بَاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح: (مَضَى) فِي بَاب وَطْء الْمحرم، وَبَاب الْخِيَار مَا دلّ عَلَى سَماع شُعَيْب (من) جده إِلَّا أَنه (إِذا) قيل: عَن أَبِيه عَن جده. يشبه أَن يُرَاد بالجد مُحَمَّد بن عبد الله وَلَيْسَت لَهُ صُحْبَة، فَيكون الْخَبَر مُرْسلا، وَإِذا قيل: عَن جده عبد الله. زَالَ الإِشكال واتصل الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الصّلاح فِي «عُلُوم الحَدِيث» : احْتج بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَكثر الْمُحدثين (حملا لجده عَلَى عبد الله دون التَّابِعِيّ) لما ظهر لَهُم من إِطْلَاقه ذَلِكَ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «التَّهْذِيب» : أنكر بَعضهم سَماع شُعَيْب من جده عبد الله بن (عَمْرو)، وَقَالَ: إِنَّمَا سمع أَبَاهُ مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو فَتكون رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه، عَن جده، عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُرْسلَة، وَهَذَا إِنْكَار ضَعِيف، وَأثبت الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من الْأَئِمَّة سَماع شُعَيْب من عبد الله، وَقَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي (عَلَى مَا نقل الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب الطَّلَاق قبل النِّكَاح) : صَحَّ سَماع عَمْرو من أَبِيه شُعَيْب وَسَمَاع شُعَيْب من جده عبد الله. قلت: وَقد ظَفرت بِحَدِيث آخر
فِي «سنَن الدَّارَقُطْنِيّ» يدل صَرِيحًا عَلَى أَن المعني بجد شُعَيْب عبد الله بن عَمْرو، وَأَن عمرا سمع من أَبِيه، وَأَن أَبَاهُ سمع من جده، وَلَعَلَّه الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ فِيمَا تقدم.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: نَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي [نَا عبد الله بن مُحَمَّد بن زِيَاد] نَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، حَدَّثَني عمي، حَدَّثَني مخرمَة بن بكير، عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن شُعَيْب يَقُول: سَمِعت شعيبًا يَقُول: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: «أَيّمَا رجل ابْتَاعَ من رجل بيعا فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ حَتَّى (يَتَفَرَّقَا من مكانهما) إِلَّا أَن تكون صَفْقَة خِيَار، وَلَا يحل لأحد أَن يُفَارق صَاحبه مَخَافَة أَن يقيله» .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَوْله «يقيله» أَرَادَ بِهِ - وَالله أعلم - يفسخه، فَعبر بالإِقالة عَن الْفَسْخ.
قلت: وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب عَلَى شَرط مُسلم.
وَأخرجه أَيْضا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث، عَن ابْن عجلَان، عَن عَمْرو بِهِ.
وَرَوَى أَيْضا أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه التَّصْرِيح بِسَمَاع شُعَيْب من جده من غير طَرِيق ابْنه، روياه من حَدِيث ثَابت يَعْنِي الْبنانِيّ، عَن (شُعَيْب) بن عبد الله، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو يَقُول: «مَا رُئي النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَأْكُل مُتكئا، وَلَا يطَأ عقبه رجلَانِ» . فقد ثَبت بأقاويل (هَؤُلَاءِ) الْأَئِمَّة وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ أَن عَمْرو بن شُعَيْب ثِقَة وَأَن رِوَايَة شُعَيْب عَن جده عبد الله بن (عَمْرو) صَحِيحَة لَا إرْسَال فِيهَا، وَأَن عمرا سمع من أَبِيه، وَأَن أَبَاهُ سمع من جده، فاضبط مَا حققناه لَك.
وَمن رِوَايَات عَمْرو بن شُعَيْب المستغربة مَا رَوَاهَا أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب الرجل يَبِيع مَا لَيْسَ عِنْده، عَن زُهَيْر بن حَرْب، ثَنَا إِسْمَاعِيل، (عَن) أَيُّوب، حَدَّثَني عَمْرو بن شُعَيْب، حَدَّثَني أبي، عَن أَبِيه حَتَّى ذكر عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يحل سلف وَبيع، وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، وَلَا ربح مَا لم يضمن، وَلَا بيع مَا لَيْسَ عنْدك» .
قَالَ (السُّهيْلي) فِي «الرَّوْض الْأنف» : هَكَذَا وَقع فِي «سنَن
أبي دَاوُد» عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه شُعَيْب، عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو، عَن أَبِيه عبد الله بن عَمْرو، وَهِي رِوَايَة مستغربة جدًّا؛ لِأَن الْمَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث أَن شعيبًا إِنَّمَا يروي عَن جده عبد الله لَا عَن أَبِيه مُحَمَّد؛ لِأَن مُحَمَّدًا أَبَاهُ مَاتَ قبل جده عبد الله، وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي: لم يقل أحد إِن شعيبًا يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد، وقلَّ من عمل لمُحَمد تَرْجَمَة، (قَالَ: فَدلَّ) عَلَى أَن عَمْرو بن شُعَيْب، (عَن أَبِيه) ، عَن جده عبد الله صَحِيح مُتَّصِل.
قلت: وَحَدِيثه هَذَا: «لَا يحل سلف وَبيع» ، رَوَاهُ مَعَ أبي دَاوُد التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع، عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، (ثمَّ) قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث يزِيد بن زُرَيْع وَمعمر كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده كالروايات الْمَعْرُوفَة.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث حَمَّاد بن زيد، عَن أَيُّوب، وَمن حَدِيث أبي كريب، عَن إِسْمَاعِيل بن علية، عَن أَيُّوب. فَلم يتَّفق فِيهِ عَلَى إِسْمَاعِيل بِزِيَادَة ذكر مُحَمَّد بن عبد الله.
وَرَوَى النَّسَائِيّ من حَدِيث وهيب، عَن عبد الله بن طَاوس، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عبد الله، وَقَالَ مرّة: عَن