الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهذا العلم الجديد القدر، العظيم الشأن، الذي هو بالنظر إلى سائر العلوم العربية من الأهمية بمكان، وقد زاد من أهميته أن عليه المعوّل الأكبر في تدبر معاني ومعالم ما جاء به الوحي المبين، وأن عليه المعول الأكبر أيضًا في تذوق وفهم ما خلفه أجدادنا من كنوز التراث.
ومن المهم أن تكون بداية لقائي بكم عن معرفة فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراستها، ثم التثنية بعد بما اعتاده علماء البلاغة قبل الخوض في دراسة مباحث علم المعاني، من حديث عن الفصاحة، وعلاقتها بالبلاغة.
إن علم البلاغة معدود من جملة العلوم الإسلامية كما أنه معدود في جميع علوم الأدب وتحتل البلاغة بين هذه العلوم مكانة سامية ومنزلة رفيعة، وموضع علم البلاغة من العلوم العربية موضع الرأس من الإنسان أو اليتيمة من قلائد العقيان، فهي مستودع سرها، ومظهر جلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام إلا بما يحويه من لطائفها، ويودع فيه من مزاياها وخصائصها، ولا تبريز لمتكلم على آخر إلا بما يحوقه من وشيها، ويلفظه من درها، وينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع ثمرها.
دراسة علوم البلاغة وقواعدها تمكن الدارس من تحقيق الأهداف والفوائد التي توخاها المؤلفون في هذا العلم، ويمكن تلخيص هذه الفوائد فيما يلي:
1 -
أنها وسيلة إلى معرفة إعجاز القرآن الكريم، فإذا أغفل الإنسان علم البلاغة وأخل بمعرفة قواعدها لم يستطع أن يدرك إعجاز النظم الكريم، ولم يعرف من أي جهة أعجز الله العرب عن أن يأتوا بسورة من مثله، وكان الرأي البعيد عن الصواب رأي إبراهيم النظام صاحب مذهب الصرفة إذ قال:"إن القرآن ليس معجزًا بفصاحته وبلاغته وأن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك تصديقًا لنبيه وتأييدًا لرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يؤدي رسالة ربه". وقد انبرى للرد على النظام جم غفير من العلماء، منهم الجاحظ والباقلاني والفخر الرازي، وناضلوا نضالهم المحمود، الذي خلد لهم في بطون الكتب، فكتبوا الفصول الممتعة مبينين فساد رأي النظام مقررين أن إعجاز القرآن إنما كان بما حوى من وجوه بلاغية، فاق فيها كلام العرب شعرهم ونثرهم، وارتقى بذلك عن مستوى كلام البشر. وإنما كان ردهم لقوله بالصرفة من وجوه:
أولها: أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن، وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين. ثانيها: أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب، فلو كان الإعجاز بالصرفة، لكانت على خلاف المعتاد؛ أعني لكانت الصرفة إلى كل واحد ضرورة بالنسبة إليه فحسب، فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادًا له، وليس للقرآن كذلك.
ثالثها: وقد استدل به بعضهم على فساد القول بها، وهو قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) ومن المعلوم أن القرآن تحدى العرب غير ما مرة، ولو بمثل أقصر سورة منه، ثم سجل العجز عليه وقال بلغة واثقة: أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا، ولو ظاهرهم الإنس والجن، فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا، ولو كانوا أجبن خلق الله؟.
رابعها: أن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب، ويبلغ فيه الغاية القصوى، ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله، والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها، وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديًا بمعارضتها، فلو أتى الرسول بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق وكثرة دواعي التحدي؛ علم أن ذلك من عند الله بلا ريب. خامسها: أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم، كما كانت صناعتهم البيان، وديدنهم التنافس في ميادين الكلام، فكيف لا يحركهم هذا التحدي والاستفزاز؟ وكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة؟.
سادسها: أن القرآن فضلًا عما ذكر أثار حفائظهم، وسفه عقولهم وعقول آبائهم، ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك، بل وأقام حربًا شعواء على أعز ما لديهم من عقائد وعوائد، فكيف يسكتون بعد كل هذا التقريع والتشنيع ما دامت هذه المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو كان ذلك باستطاعتهم؟.
سابع هذه الوجوه في رد القائلين بالصرفة: أن العرب قد تفننوا واستفرغوا وسعهم في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى تآمروا على قتله، وأرسلوا إليه الأذى في مهاجره، فشبت الحرب بينهم وبينه في خمس وسبعين موقعة، منها سبع وعشرون غزوة، وثمان وأربعون سرية، فهل يقول عاقل: إنهم كانوا في تشاغل عما كان يتحداهم به، غير معنيين، ولا آبهين له، أو يقول: إنهم -أو واحد منهم- حال المعارضة بمقتضى دافع الصرفة؟ ثم ألم يكف القائلين بالصرفة -قديمًا وحديثًا أعني بهم السابقين وأذنابهم من المعاصرين- شهادة أعداء القرآن أنفسهم في أوقات تخليهم عن عنادهم، فتلك الشهادة التي خرجت من فم الوليد، والفضل ما شهدت به الأعداء.
ونخلص من كل هذا إلى أنه، وبدراسة الأسباب التي تكون الجملة بها بليغة، وبدراسة أنواع الأساليب الموجز منها والمطنب، وبدراسة أبواب التشبيه والاستعارة والكناية، وأبواب البديع وغير ذلك من الوجوه والألوان؛ نعرف كيف ارتفع الأسلوب القرآني إلى مستوى الإعجاز، وليس بعجيب أن يكون الهدف الأول والأسمى من دراسة علوم البلاغة الوصول إلى معرفة إعجاز القرآن، فإن علوم العربية نشأت أصلًا لتخدم هذا الكتاب المبين، وتحفظه من التحريف، وتظهر فضله على جميع الكلام الآخر. فالبلاغة من هذه الجهة لها غاية دينية تتصل بالدين والعقيدة، وهذه الغاية هي التي رأيناها عند أوائل الكاتبين في هذا العلم، بل إن كلامهم في إعجاز القرآن كان هو الدعامة التي قام عليها هذا العلم.
ثاني فوائد تعلم البلاغة وقواعدها: هو استجلاء ما في القرآن الكريم من معان وأحكام وأخبار وقضايا، فلا بد للناظر في القرآن من الإلمام بقواعد هذا العلم لمعرفة ما يدل عليه التكرار، وما ينطوي عليه الحذف، وما يفيده هذا التأويل، وغير ذلك مما يتصل
بقواعد هذا العلم. فالمفسر الذي يتعرض لتفسير آية من آيات الذكر الحكيم لا بد له من الإلمام بقواعد البلاغة، والفقيه المستنبط للأحكام لا بد له من معرفة قواعد البلاغة، والمتعرض لقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم وما يتعرض لأخبار الأمم وسيرهم، لا بد لكل هؤلاء من معرفة قواعد البلاغة وأصولها.
الفائدة الثالثة: التدرب على التكلم بالبليغ من القول، فإذا أراد صاحب اللسان العربي أن ينشئ أدبًا، شعرًا كان أو نثرًا، لا يتسنى له ذلك إلا إذا ألمّ بقواعد هذا العلم، وجعله مصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة، وأسباب رفعتها وجمالها، أما إذا فاته هذا العلم المفرق بين كلام جيد وآخر قبيح، وبين شعر بارد وآخر رصين كان ذلك سببًا لأن يمزج الصفو بالكدر من الأساليب، ويخلط بين الرفيع والوضيع، وقد قالوا: شعر الرجل قطعة في عقله. الفائدة الرابعة: أن علوم البلاغة تعد من أمضى أسلحة الناقد الأدبي، فهي بلا شك تصقل الذوق، وتنمي في صاحبها القدرة على التفرقة بين الكلام الجيد والكلام الرديء، فهي تساعد على إدراك الجمال وتذوق الحسن في ألوان الكلام، فالناقد الأدبي وهو يتعرض لنتاج أدبي لا يستطيع الحكم على هذا النتاج إلا بمعرفة قواعد علم البلاغة، حتى يمكن إبراز ما تضمنه هذا العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداءة.
أما الفائدة الخامسة لتعلم البلاغة: فهي القدرة على حسن الاختيار، فإذا أراد مؤلف أن يضع كتابًا، فإن معرفته بقواعد البلاغة تعينه على أن يختار فيه من جيد المنظوم والمنثور ما يثري به مادته العلمية، ويجعله شاهدًا على ما يسوقه من معان وأفكار.