الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبتأمل الأساليب نجد المعاني الإنشائية قد ترد في أسلوب الخبر، كقولك مثلًا: غفر الله لك، وفرج كربك وأثابك. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب))، كما أن المعاني الخبرية قد ترد في أسلوب الإنشاء، نحو قوله تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 29)، وكقوله صلى الله عليه وسلم:((مَن كذَب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))، ولك أن تخبر عن أساليب الإنشاء فتقول: تمنيت لك الخير، وأمرت خالدًا بالمعروف، ونهيته عن المنكر، واستفهمته عن موعد الاختبار، وناديت عمرًا فأقبل إليَّ، ورجوت لك الخير والصلاح، وأقسمت بالله أن أبر والدي، وعندئذٍ يأخذ الأسلوب طابع الحكاية والخبر، فيكون كلامًا يحتمل الصدق والكذب.
أقسام الأسلوب الإنشائي
هذا وينقسم الإنشاء إلى قسمين: إنشاء طلبي، وإنشاء غير طلبي.
أما الإنشاء الطلبي: فهو ما يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقتَ الطلب، ويشمل أساليب الأمر، والنهي، والتمني، والاستفهام، والنداء. كما في قوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94)، وقوله:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169)، وقول عمر يوصي ابنَه عبد الله رضي الله عنهما:"يا بني، اتقِ الله، فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده". كذا قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24)، وقوله -جل وعلا-:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (البقرة: 142) إلى غير ذلك.
فإن هذه الشواهد قد اشتملت على أساليب إنشائية يطلب بها أمر غير حاصل وقت الطلب، فالله -عز وجل- يأمر نبيه:{فَاصْدَعْ} ، {وَأَعْرِضْ} ، والأمر: طلب للفعل. وينهاه: رلَا تَحْسَبَنَّ}، والنهي: طلب الكف عن الفعل. وعمر ينادي عبد الله: "يا بني"، في النداء طلب الإقبال. والكافر يتمنى:{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ} ، والتمني: هو طلب المحبوب الذي لا طمع فيه. والسفهاء يسألون: {مَا وَلَّاهُمْ} ، والاستفهام: طلب الفهم.
فهذه الأساليب قد طلب بها -كما ترى- أمور غير حاصلة أثناء الطلب؛ ولذا كان الإنشاء فيها إنشاء طلبيًّا، فإذا استعملت تلك الأساليب الأمر والنهي والتمني والاستفهام والنداء في أمور حاصلة وقت الطلب وجب تأويلها بالطلب بحسب القرائن وما يناسب المقام، قوله تعالى مثلًا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 1)، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (النساء: 136) وقول عمر السابق: "يا بني، اتق الله". تجد بتأمل هذه الأساليب أن التقوى والإيمان المأمور بهما حاصلان وقت الطلب. فالمعنى فيهما على طلب دوام الإيمان واستمرار التقوى.
أما الإنشاء غير الطلبي: فهو ما لا يستدعي مطلوبًا، وله صيغ كثيرة؛ منها القسم قوله تعالى:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (الأنبياء: 57)، وأفعال المدح والذم كقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات: 48)، وقوله عز وجل:{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} (الجمعة: 5)، والترجي كما في قوله تعالى:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} (المائدة: 52)، وقوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6).
والتعجب كما في قول الشاعر:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُّبا
…
وما أحسن المُصطاف والمتربعا
فالربا: ما ارتفع من الأرض، والمصطاف: مكان الصيف، والمتربع: مكان الربيع. والمعنى: أفدي بنفسي تلك الأرض؛ لطيب رُباها العجيب، ولجمال فصليها.
ومن ذلك ألفاظ العقود كقولك: بعت، واشتريت، ومنها: رب، وكم الخبرية؛ لدلالتهما على إنشاء التقليل أو التكثير كما في قول القائل: رب أخ لك لم تلده أمك، وكما في قوله تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249).
ولكن البلاغيين اهتموا بدراسة أساليب الإنشاء الطلبي وأهملوا دراسة أساليب الإنشاء غير الطلبي؛ وحجتهم في ذلك: أن الإنشاء الطلبي غني بالاعتبارات والملاحظات البلاغية، وأن أساليبه وهي: الأمر، والنهي، والتمني، والاستفهام، والنداء قد ترد ويراد بها غيرُ معانيها. فالأمر لطلب حصول الفعل، وقد يرد للتهديد ونحوه. استفهام لطلب الفهم، وقد يرد للإنكار وغيره، وهكذا. فتلك الأساليب الطلبية يتولد منها بحسب القرائن والسياق معان بلاغية متعددة.
أما أساليب الإنشاء غير الطلبي فقد أهملوها؛ لأمرين:
1 -
أن أكثر هذه الأساليب في الأصل أخبار نُقلت إلى معنى الإنشاء.
2 -
أنها لا تُستعمل إلا في معانيها التي وُضِعت لها، فالقسم لا يفيد إلا القسم، والتعجب والتعجب لا يرد بغير التعجب. وهذا لا يعني أن تلك الأساليب خالية من الاعتبارات البلاغية والمزايا الجمالية، بل تكمن وراءها أيضًا ملاحظات بلاغية واعتبارات دقيقة، لكن ليس بالقدر الذي هو موجود في الإنشاء الطلبي.