الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذلك أيضًا: باب نعم وبئس، على جعل المخصوص بالمدح أو بالذم مبتدأ خبره محذوف. نحو: نعم الرجل عمرو، وبئس الرجل زيد. كأنه قيل: مَن الممدوح؟ ومن المذموم؟ فأجيب: زيد المذموم وعمرو الممدوح، فكل من زيد وعمرو: مبتدأ محذوف الخبر، والقرينة: وقوع المخصوص في جواب سؤال مقدر.
أسباب ذكر المسند في الكلام
وننتقل للحديث عن ذكر المسند:
فقد ذكر البلاغيون أن المسند يذكر في الكلام؛ لكون ذكره هو الأصل، وليس في الكلام ما يقتضي العدول عنه. وذلك كقولك ابتداء: زيد صالح. وتذكر المسند؛ لأنه ليس في الكلام ما يدعو إلى حذفه. وملاحظة مقتضَى المقام هنا هو المزية البلاغية. قالوا: ويذكر للاحتياط لضعف التعويل على القرينة، أي: أن في الكلام قرينة تدل على المحذوف لو حذف، إلا أنه ليس لها من القوة والإيضاح ما يلهم السامع المعنى، ويضعه من أول الأمر بين عينيه، وذلك كقولك لِمَن سأل: من أكرم العرب وأشجعهم في الجاهلية؟ فتقول في جوابه: عنترة أشجع العرب، وحاتم أجودهم. فتذكر أشجع، وأجود؛ خشيةَ أن يلتبس على السامع، إذا قلت: عنترة وحاتم، من غير أن تعين صفة كل واحد منهم، فلا يدرَى أيهم الأشجع والأجود؟
وقد ذكر العلامة سعد الدين مثالًا لهذا الغرض، هو قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9). حيث ذكر المسند في قوله: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، مع دلالة السؤال عليه؛ احتياطًا لضعف التعويل على القرينة.
وقد يذكر المسند للتعريض بغباوة السامع، كقوله تعالى:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (االأنبياء: 63). وذلك في جواب قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (االأنبياء: 62). فلو قال: بل هذا، لكان المسند مفهومًا لدلالة السؤال الصريح عليه، إلا أنه عليه السلام عدَل عن الحذف؛ لأن في الحذف تعويلًا على ذكاء المخاطب، وتنويهًا بفهمه. ألا ترى أن المولى عز وجل إذا خاطَب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي؟ وإذا خاطب بني إسرائيل، أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطًا؟ ومثله: قولك: محمد نبينا. في جواب مَن قال: من نبيكم؟ فتذكر المسند، ولو حذفته لدل عليه السؤال دلالةً واضحةً، ولكنك ذكرته؛ تعريضًا بالسامع، فإنه لو كان له فهم لم يسأل عن نبينا؛ لأنه أظهر من أن يُتوهم خفاؤه، فيجاب بذكر أجزاء الجملة؛ إعلامًا بأن مثله لا يكفي معه إلا التنصيص؛ لعدم فهمه بالقرائن الواضحة.
وقد يذكر ليتعين بالذكر كونه فعلًا، فيفيد التجدد والحدوث؛ لأن الفعل في أصل وضعه يدل على ذلك، أو ليتعين كونه اسمًا فيفيد الثبوت والدوام. تقول: زيد منطلق، وعمرو ينطلق. فلو حذفت المسند الثاني، وقلت: زيد منطلق وعمرو. لفهم انطلاق عمرو من الكلام الأول. ولكنك آثرت ذكر المسند؛ لتدل بصيغة الفعل على أنه يتجدد منه شيئًا فشيئًا، فهو ينطلق انطلاقًا عقب انطلاق. وتقول: زيد ينطلق وعمرو منطلق. فتذكر المسند فيهما، ولو حذفت الثاني لفهم من الكلام السابق انطلاق عمرو فقط، ولم يفهم منه الاستمرار. فأردت أن تنص على استمرار انطلاق عمرو، فذكرت المسند.
قد يذكر المسند لزيادة تقرير الكلام، وتثبيت معناه وتوضيحه حين يتعلق الغرض بذلك كما سبق أن ذكرنا، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. فإن المسند لو حذف لدل عليه السؤال، وقد جاء كذلك في آيات أخرى إلا أن المقصد من ذكره هنا زيادة تقرير خلق الله للسموات والأرض. ومثله: قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 78، 79) وقد ذكر المسند في قوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} . وفي السؤال ما يدل عليه كما ترى. والمقصود من الذكر: أن يتقرر أن الله أحياها، وفيه إشارة أخرى، وأنه لا يُسأل عن الإحياء بعد الموت أعني: عن إمكانه. سؤال مستبعد منكر إلا مَن في عقله غشاوة تحجبه عن الإدراك النافذ والرؤية الصادقة.
ومثله: لا يعول في خطابه على ذكاء، وهذه إشارة تجدها أيضًا في الآية السابقة:{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . وفي الآية لمحة ثالثة، نراها في قوله:{الَّذِي أَنْشَأَهَا} وكان يمكن أن يقال: يحييها الله، ولكن هذه الصلة تضمنت البرهان الصادق على جواب سؤالهم، وكأنه قال: يحييها الله بدليل أنه أنشأها أول مرة، وهذا أسلوب عجيب كما ترى. فقد قرر القضية بذكر المسند، وأقام بُرهانًا بذكر الموصول، فأصاب في الإفحام. وأدمج القضية ودليلها في أنفذ عبارة وأبينها، وكأنه يجمع بين الإيجاز الشديد وذكر ما يمكن حذفه. وهكذا الأساليب العالية لا تتبين فيها موضع إطناب من وجه إلا وترى إيجازًا خفيًّا من وجه آخر.
وإذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النحل: 90). وجدته كلامًا في غاية الحسن، وجدته أيضًا يقرر بعضُه بعضًا، ويدل بعضه على بعض. فالإحسان داخل في العدل، وإيتاء ذي القربى داخل في الإحسان، وكذلك الفحشاء داخل
في المنكر. ولو قال: إن الله يأمر بالعدل لأفاد كل هذه المعاني؛ لدخول الإحسان وإيتاء ذي القربى في العدل، ولأفاد أيضًا النهي عن الفحشاء والمنكر؛ لأن مَن يأمر بالعدل ينهى عن ضده. والفحشاء والمنكر يدخلان في هذا الضد، إلا أن الآية الكريمة نصت على كل معنى من هذه المعاني، فذكرتْ العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر، وكان لهذا التنصيص زيادة في التقرير والتثبيت، وكان الكلام كما ترى.
ولهذه القيمة البلاغية، عمَد القرآن في كثير من المواطن إلى أسلوب التكرار؛ ليوثق المعاني في النفوس. فجاء المسند مكررًا في مواضع كثيرة جدًّا، من ذلك: قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر:3، 4) يكرر هنا وعيدًا، ويؤكد ليثبت الخوف في أرجاء النفس، ويملؤها بالإشفاق والحذر؛ فتنكف عن إصرارها على العناد والكفر.
من ذلك: قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح:5، 6) كرر الوعد وأكده؛ ليرسل في النفس أطياف الأمل فتتبدد أشباح اليأس. هكذا نجد أن التكرار أشبه ما يكون بدندنة تستعذبها النفس المليئة، أو المستفزة شاجية كانت أو طروبة، وهذا يفسره من بعض جوانبه قولهم: إن باب الرثاء أولى ما تكرر فيه الكلام؛ لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع. وقيل لبعضهم: متى تحتاج إلى الإكثار؟ فقال: إذا عظم الخطب.
ولقد كانت الخنساء تلح على مقاطع من المعنى كأنها جذور غارت في ضميرها، فتجد في هزها ما يخفف آلامها الكظيمة، خذ مثلًا: طلب البكاء من عينيها تجده يشيع في ديوانها، وهو في حقيقته مظهر استسلامها لأساها، وعجزها عن فلسفة التصبر التي كانت من الممكن أن تكفكف بعض دموعها.
تقول:
أعيني جودا ولا تجمدا
…
ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجواد الجميل
…
ألا تبكيان الفتى السيدا
وتقول:
وابكِ أخاك ولا تنسي شمائله
…
وابك أخاك شجاعًا غير خوار
وابك أخاك لأيتام وأرملة
…
وابك أخاك لحق الضيف والجار
فانظر في هذا السياق إلى كلمة: أخاك، وتأمل ما فيها من إحساس بفقد الكلأ والحماية، وتأمل ما تضمره هذه الإضافة من حنين تفجر كوامن الحزن.
هكذا، نجد أن ذكر المسند في الكلام يثير في النفس الكوامن.
أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم.