الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصيح. فمعنى الفصاحة كما يتضح من هذه الاستعمالات، يدور حول الظهور والبيان والبلاغة في اللغة كلمة كما قلنا تنبئ عن الوصول والانتهاء، من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها، ومبلغ الشيء منتهاه. ويقال: بلغ الرجل بفتح اللام كذا بلوغًا إذا وصل وانتهى إليه. ويقال: بلغ بضم اللام بلاغة إذا أتى بكلام بليغ مؤثر يصل إلى أعماق النفس، وسميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. هكذا في (لسان العرب) في مادة بلغ. وإذا كان الأمر كذلك فنعرض للمعنى الاصطلاحي لكلمتي الفصاحة والبلاغة عند المتأخرين، فنقول: إن معنى الفصاحة يختلف باختلاف موصوفها، وهي تقع صفة للكلمة والكلام والمتكلم. تقول: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح.
العيوب المخلة بفصاحة الكلمة
فصاحة الكلمة تعني أن تكون الكلمة جارية على القواعد المستنبطة من استقراء كلام العرب، متناسبة الحروف، كثيرة الاستعمال متداولة على الألسن، وإن شئت فقل: أن تكون الكلمة سلسلة سائغة واضحة المعنى موافقة للعرف اللغوي، وقد عرفها علماء البلاغة بقولهم: هي سلامتها من عيوب ثلاثة: تنافر الحروف، ومخالفة القياس اللغوي، والغرابة. أما تنافر الحروف، فهو -كما ذكر الخطيب القزويني في (الإيضاح) - وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها
وكراهيتها في الأسماع، فإذا تنافرت حروف الكلمة كان ذلك عيبًا مخلًّا بفصاحتها، وهذا التنافر منه ما هو متناه في الثقل، ومنه ما هو دون ذلك.
فمن الأول الذي يوجب التناهي في الثقل كلمة "الهخع" هكذا بهاء مضمومة في أوله، في قول عربي سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهخع. وقد قالوا: إنه اسم نبات ترعاه إبل. وقيل: إنه كلمة معاياه لا أصل لها. وعلى أي حال فأنت تدرك ما في هذه الكلمة من الثقل الشديد، ومن هذا القبيل أيضًا كلمات: عقجق والظش والصصا والشصاصا. ومثال الثاني الذي أقل في تناهيه في الثقل عن سابقه، كلمة مستشزرات في قول امرئ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم
…
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
المتعثكل: يعني المتراكم. غدائره: الغدائر هي الزوائد.
مستشزرات إلى العلا
…
تضل المدار في مسنًّا ومرسل
يقول: إن ذوائب شعرها مرتفعات، ولكثرته تغيب خصله وتختفي في المفتول منه والمرسل، أو تغيب المدارى في المفتول منه والمرسل. فأنت تجد في كلمة مستشزرات هنا تنافرًا يحسه السمع، وتكرهه الأذن، وإن كان أخف في الثقل على اللسان من النوع الأول، وقد نشأ الثقل من توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة، ومن هذا القبيل أيضًا كلمة اطلخم في قول الشاعر:
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت
…
عشواء تالية غُبْسًا دهاريسا
اطلخم يعني: اشتد وتفاقم. عشواء: صفة لمحذوف أي ليلة عشواء شديدة الظلمة. غبسًا: جمع غبساء كعشواء. والدهاريس يعني: الدواهي.
وككلمة النُقَاخ في قول الشاعر:
وأحمق ممن يكرع الماء قال لي
…
دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد
ومثل كلمة سويداواتها في قول المتنبي:
إن الكريم بلا كرام منهم
…
مثل القلوب بلا سويداواتها
وقد نشأ ثقلها من طولها كما ترى، وأيضًا من ذلك كلمة الجِرِشَّا في قول المتنبي يمدح سيف الدولة:
مبارك الاسم أغر اللقب
…
كريم الجرشا شريف النسب
ولعلك تدرك التنافر في كلمة الجرشا بالإضافة إلى خفاء معناها، ففيها غرابة أيضًا، ولا مانع من وجود أكثر من عيب في الكلمة الواحدة، كالتنافر والغرابة معًا. ولكن ما سبب التنافر؟ وهل هناك ضابط يمكن الاحتكام إليه في الحكم على الكلمة بالتنافر أو عدمه؟ قالوا في الإجابة عن ذلك: إن التنافر يكون لتقارب مخارج الحروف جدًّا، فهي بمنزلة مشي المقيد أو لتباعد مخارج الحروف جدًّا، فهي بمنزلة الطفرة، ومع أنه لا يمكن تجاهل ما لمخارج الحروف وهيئة تأليفها من الأثر في خفة الكلمة وثقلها إلا أنه لا يجري على قاعدة معروفة مضطردة، بل هو أمر أغلبي، فقد تكون الكلمة فصيحة مع قرب مخارج حروفها، مثل كلمة: الجيش والشجر. ومثل: ذقته بفمي. فالباء والميم أحرف شفوية متقاربة المخارج، ولا ثقل فيها.
وقد تكون الكلمة فصيحة مع بعد مخارج حروفها مثل: علم وأمر وألم، بل إن الكلمتين قد تتركبان من حروف واحدة، وتكون إحداهما ثقيلة دون الأخرى، وذلك مثل علم، ومَلَع، فالأولى خفيفة على اللسان، ولا ينبو عنها الذوق، بخلاف الثانية مع اتحاد حروفها. والحق أن المعول عليه في ذلك، هو الذوق العربي
السليم المكتسب بالنظر في كلام العرب وتذوق أساليبهم، فما يعده الذوق السليم ثقيلًا عسر النطق فهو متنافر، سواء أكان ذلك من قرب مخارج الحروف أو من بعدها أم من غير ذلك، وما كان خفيفًا على اللسان لا ينفر منه السمع، ولا ينبو عنه الطبع فهو فصيح.
ونحن إذا احتكمنا إلى الذوق السليم في كلمة مستشزرات الواردة في معلقة امرئ القيس، نجد أنها قد عبرت عن المعنى الذي يريده الشاعر أصدق تعبير، فهو يصف شعرها بكثرته وتداخله وتشابكه، ولذلك عمد إلى كلمة فيها هذا التداخل والتشابك، وهي مستشزرات التي تداخلت أصوات حروفها، وكاد صوت التاء والشين يختفي بين صوتي الراء والسين، فهي أكثر ملاءمة للمقام الذي وردت فيه من بديلتها مرتفعات مثلًا أو مستشرفات، وصورتها توحي بصورة الشعر الذي يصفه الشاعر لا سيما بعد قوله:"أثيث كقنو النخلة المتعثكل" فالسياق يستدعي كلمة مستشزرات ويلح عليها، ولذلك جاءت معبرة عن مراده في دقة ومؤثرة في قوة. كذا قاله البعض، وذهب إليه.
كما أن طول الكلمة ليس عيبًا في كل الأحوال وعلى الإطلاق، وقد وردت في القرآن الكريم كلمات طويلة، ومع ذلك، فهي خفيفة على اللسان، لا ثقل فيها مثل قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (النور: 55) وأظنك معي، لا تجد صعوبة في النطق بهاتين الكلمتين {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} ، و {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ومثلهما {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} (هود: 28) فطول الكلمة ليس على إطلاقه يعد عيبًا، ولذلك نقول: إن الأحكام البلاغية يجب أن تبنى على الأعم الأغلب، ولا تبنى على القطع والإطلاق؛ لأن القاعدة لا تطرد في كل الأحوال، والذوق العربي السليم هو الحكم الفيصل في مثل هذه الأمور.
ثاني هذه الأمور المخلة بفصاحة المفردة أو اللفظة أو الكلمة بعد تنافر الحروف: مخالفة القياس اللغوي، وهي أن تجيء الكلمة على خلاف ما ثبت عن العرب الخلص، كأن تستعمل في غير ما وضعت له في عرف اللغة لا على سبيل المجاز مثل الأيم في قول البحتري:
يشق عليه الريح كل عشية
…
جيوب الغمام بين بكر وأيم
وقد استعمل الأيم بمعنى الثيب؛ حيث جعلها في مقابل البكر، والأيم في اللغة تطلق على المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أم ثيبًا، قال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: 32) وليس مراده تعالى نكاح الثيبات منهن دون الأبكار، وإنما أراد اللاتي لا أزواج لهن، ومنه أن تكون الكلمة مخالفة للقياس الصرفي، كما في قول أبي النجم العجلي:
الحمد لله العلي الأجلل
…
الواهب الفضل الكريم المجزل
فإن القياس يقتضي إدغام المتماثلين، فيقول: الأجل، ولكنه فك الإدغام لضرورة الشعر مخالفًا بذلك ما تقرره القواعد الصرفية، ومنه كذلك قول أبي الطيب المتنبي:
فإن يك بعض الناس سيفا لدولة
…
ففي الناس بُوقَات لها وطبول
فكلمة "بوقات" غير فصيحة لأن القياس يقتضي جمع بوق على أبواق جمع تكسير، ولم يرد جمعه على بوقات. ومن صور المخالفة أيضًا حذف بعض الكلمة، كما في قول الشاعر:
فلست بآتيه ولا أستطيعه
…
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: ولكن اسقني. فحذف النون، وهكذا نرى أن مخالفة الكلمة في الوضع اللغوي عيب في صيغتها يخرجها عن الفصاحة، ومن ثم عن البلاغة. ولعلك
تلاحظ أن العيب المخل بالفصاحة هنا ليس مقصورًا على مخالفة القياس الصرفي فقط، بل تعددت صوره ومواضعه ليدخل فيه كل ما ينكره أهل اللغة لمأخذ لغوي أو صرفي، أو تصرف في الكلمة بزيادة أو نقص غير معهودين؛ ولذلك سمي هذا العيب مخالفة القياس اللغوي، فالقول بأنه مخالفة القياس الصرفي قول ناقص، وإن شئت فقل: مخالفة الوضع اللغوي، أما مخالفة القياس فقط، فلا تكفي؛ إذ قد يحمله بعض الناس على القياس الصرفي فقط، وهذا خطأ؛ لأن مخالفة القياس الصرفي لا تخل دائمًا بالفصاحة، فقد تكون الكلمة مخالفة لقواعد الصرف، وهي مع ذلك فصيحة لموافقتها للوضع اللغوي، مثل كلمة استحوذ، والقياس الصرفي يقتضي إعلالها بقلب الواو ألفًا فيقال: استحاذ كاستقام واستجاب، نقول في مثلها: نقلت حركة الواو إلى الحرف الساكن الصحيح قبلها، ثم قلبت الواو الساكنة ألفًا لانفتاح ما قبلها، فتصير استحاذ، كاستقام واستجاب. وهي مع ذلك فصيحة لموافقتها ما نقل عن واضع اللغة.
ومن هذا القبيل كلمات: آل، وماء، وأبا يأبى، بفتح العين في المضارع، وعور يعور، فآل، وماء أصلهما: أهل ومَو، فأبدلت الهاء همزة، وإبدال الهمزة من الهاء مخالف للقياس، وأما يأبى، فالقياس فيه كسر العين، وهي هنا الباء؛ لأن فعل بفتح العين لا تفتح عينه في المضارع إلا إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق، كسأل وقرأ ومنع، وأما عور يعور فقد بقيت الواو على حالها، ولم تقلب ألفًا لأن الوصف منه على أفعل فعلاء، وهو أعور عوراء، فالفعل لم يستوف شرط الإعلال؛ ولذلك استعمل هكذا عور يعور، بدون إعلال. فهذه الأمثلة وما يشاكلها فصيحة الاستعمال، وإن خالفت القياس الصرفي لثبوت استعمالها لدى العرب الفصحاء، فهي موافقة لما ثبت عن الواضع.
ثالث هذه العيوب المخلة بفصاحة الكلمة بعد تنافر الحروف ومخالفة القياس اللغوي: الغرابة، وهي أن تكون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص. ويفهم من هذا أن غير العرب الخلص من المحْدثين، الذين ظهروا بعد تفشي اللحن وشيوع الخطأ في اللغة، وضعف الملكات اللغوية، هؤلاء وغيرهم من المولدين لا يعول عليهم في الحكم على الكلمة بالغرابة، وفهم معنى الكلمة الغريبة يحتاج إلى أحد أمرين: البحث، والتنقيب عنها في كتب اللغة المبسوطة.
ب- التخريج على وجه بعيد لتردد الكلمة بين معنيين أو أكثر بلا قرينة معينة، فمن النوع الأول الذي يحتاج إلى البحث والتنقيب عنه في معاجم اللغة، كلمتا: تكأكأتم، وافرنقعوا، في قول عيسى بن عمر النحوي حين سقط عن راحلته، فتجمع الناس حوله، فصاح فيهم:"ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا عني". ويريد اجتمعتم علي، فتنحوا عني. فقد استطاع هذا النحوي بذكائه أن يشغلهم بهاتين الكلمتين الغريبتين على سبيل المزاح والمداعبة حتى ينهض من عثرته، ويفلت من بين أيديهم، ولذلك قال بعضهم: دعوه، فإن شيطانه يتكلم بالهندية. وهذا دليل على ما في الكلمتين من غرابة تحتاج إلى مراجعة كتب اللغة المبسوطة؛ للكشف عن المعنى المراد منهما. ومن هذا النوع أيضًا كلمات الطرموق بمعنى الطين، بمعنى الإسهال والإطشاش والإبْرِغْشاش أي الشفاء، وفَدَوْكَس أي الأسد، وخنْدَرِيس أي الخمر، والابْتِشاك أي الكذب، كل هذه كلمات غريبة، قال الشاعر:
وما أرضى لمقلته بحِلم
…
إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
فالغرابة في هذه الكلمات تخل بفصاحتها، ومن ثم ببلاغتها؛ لما يترتب عليها من غموض المعنى وإبهامه. ومن النوع الثاني للغرابة الذي يحتاج في فهمه إلى تخريج، لكن على وجه بعيد قول رؤبة بن العجاج يصف محاسن محبوبته:
أيام أبدت واضحًا مفلجا
…
أغر براقا وطرفًا أدعجا
ومقلة وحاجبًا مزججا
…
وفاحمًا ومرسنًا مسرجا
فالمرسن: أنف الناقة، ثم أريد به مطلق أنف على سبيل المجاز المرسل، ثم أطلق على أنف محبوبته، والشاهد في قوله:"مسرجا". فقد وصف به أنف المرأة، وهو غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد به، وبالتالي فهو غير فصيح؛ ولذلك اختلفوا في تخريجه فقيل: هو من قولهم: سيوف سريجية. نسبة إلى حداد يقال له سريج يجيد صناعة السيوف. فهو يريد تشبيه أنفها بالسيف السريجي في الدقة والاستواء من نسبة المشبه إلى المشبه به، وقيل: هو مأخوذ من السراج أي المصباح أي أن أنفها شبيه بالسراج في الرونق والضياء، فهو مأخوذ من قولهم: سرج الله وجهه؛ أي: بهجه وحسنه. وعلى كلا التقديرين فهو غير ظاهر الدلالة على معناه؛ لأن مادة فعل بالتشديد إنما تدل على نسبة شيء إلى آخر، كما يقال: شرّف فلان فلانًا أي نسبه إلى الشرف. وكفره أي نسبه إلى الكفر. فهو مُشَرَّف ومُكَفَّر، أي منسوب إلى الشرف والكفر، لكن هذه النسبة لا تدل على تشبيه المنسوب بالمنسوب إليه كما أراد الشاعر؛ إذ لم يرد استعمال اللفظ فيها فدلالته على التشبيه بعيدة.
والواقع أن عزل الكلمة عن الإطار التي انتظمت في سلكه هو الذي يوحي بهذا الغموض في معنى اللفظ، بل ويؤدي إلى الجرأة في إصدار أحكام تحتاج في كثير
من الأحيان إلى مناقشتها قبل الإذعان لها أو التسليم بها. وعلى هذا الأساس نجد أن كلمة مسرجًا في قول رؤبة السابق تتصف بالغرابة على النحو الذي أشرنا إليه إذا أخذت وحدها من البيت الذي وردت فيه، وفي هذا تجاهل لدلالة السياق التي تعين المعنى عند الإشكال، وهي من أبرز القرائن الدالة على مراد المتكلم. فإذا نظرنا إلى الكلمة في سياقها، فسوف نجد أنها بعيدة عن الغرابة، هذا على رأي بعض البلاغيين المحْدثين؛ لأنها لا تحتمل إلا تخريجًا واحدًا، هكذا يقولون، وهو أن الشاعر يصف أنف محبوبته بالدقة والاستواء كالسيف السريجي المشهور بدقته واستوائه، فهذا المعنى هو الذي يلائم السياق، خاصة إذا علمنا أن الشاعر يتفجع على محبوبته الموصوفة بتلك الصفات. أما تشبيه الأنف بالسراج في بريقه، فلا معنى له، كما أنه لا يتفق مع الجو النفسي الذي يسيطر على عاطفة الشاعر.
إن وضع الكلمة موضعها من السياق والنظر إليها على أنها لبنة في بناء محكم الأواصر أمر ينبغي أن يوضع في الاعتبار لدى الدارسين في البلاغة والنقد؛ لأن الكلمات لا تكتسب دلالة محددة قبل أن توضع في السياق، ولله در عبد القاهر حين يقول:"وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما! وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها".
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن مقياس الغرابة ينبغي ألا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بد أن يقيد بإطار المدة الزمنية التي استعملت فيها الكلمة، فاللغة
تتطور من عصر إلى عصر، كما يتطور المتحدثون بها جيلًا بعد جيل، وقد تبدو الكلمة غريبة بالنسبة لنا في هذا العصر، لكنها ليست كذلك حين توضع في إطارها التاريخي، وقد تنبه لذلك المتأخرون من شراح (تلخيص المفتاح) حيث نصوا على أن الحكم على الكلمة بالغرابة حين تكون غير مأنوسة الاستعمال إنما هو في عرف الأعراب الخلص؛ وذلك لأن العبرة بعدم ظهور المعنى وعدم مأنوسية الاستعمال بالنسبة للعرب العرباء، سكان البادية لا بالنسبة للمولدين وإلا خرج كثير من قصائد العرب بل جلها عن الفصاحة، فإنها الآن لغلبة الجهل باللغة على أكثر علماء هذه الأزمان فضلًا عمن عداهم لا يعرفون مفرداتها فضلًا عن مركباتها.
ولو نظرنا إلى الغرابة بالنسبة إلى استعمال الناس الذين لا يتمتعون بالحس اللغوي الشائع لدى العرب الخلص لكان جميع ما كتب من الغريب غير الفصيح، والقطع بخلافه، ولعلنا نقرأ في الشعر الجاهلي، وفي القرآن الكريم كثيرًا من الكلمات التي تحتاج لفهم معناها إلى البحث عنه في كتب اللغة، وهي مع ذلك فصيحة، لم يقل أحد بغرابتها؛ لأنها كانت كذلك في عصرها السالف، ولذلك ذهب ابن يعقوب المغربي إلى أن الحكم على الكلمة بالغرابة أمر نسبي، والكلمة حينئذ غير مخلة بالفصاحة بالنسبة إلى العرب الخلص؛ لأنها عندهم ظاهرة المعنى. ومنها غريب القرآن والحديث، فغرابتهما مستحسنة؛ لعدم إخلالهما بالفصاحة، فيكون ذلك باعتبار قوم وهم المُوَلَّدُون دون قوم، وهم الخلص.
وواضح أنه يعني الغريب الحسن، وقد قسموا الوحشي إلى قسمين: غريب حسن، وغريب قبيح. فالنوع الأول فصيح لا يعاب استعماله على العرب لتداوله
وظهور معناه، ومنه غريب القرآن والحديث. والنوع الثاني غير فصيح قطعًا، ويعاب استعماله مطلقًا لعدم تداوله على لسان أهل البادية، ومثل ذلك جُحَيْش بالفريد أي المستبد برأيه، وجَفَخَت، والحَلْقَد أي سيئ الخلق، والابتشاك بمعنى الكذب، وقد يطلقون على هذا النوع الوحشي الغليظ أو المتوعر، وكتب اللغة زاخرة بكثير من غريب اللغة الذي يمجه الذوق، وينفر منه السمع. وزاد بعض البلاغيين شرطًا آخر في فصاحة المفرد، وهو خلوصه من الكراهة في السمع، هكذا ذكره الخطيب القزويني؛ بأن يتبرأ السمع من سماعه كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة؛ لأن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذ النفس بسماعه، ومنها ما تكره سماعه كلفظ الجرشا في قول المتنبي:
كريم الجرشا شريف النسب
فالسمع ينفر من سماع هذا اللفظ، والذوق يمجه ويبرأ منه، ولا سيما في مقام المدح، فالمتنبي كان يمدح سيف الدولة الحمداني، ويعدد مناقبه، ومناقب المدح يقتضي الإتيان بألفاظ عذبة سلسلة سائغة واضحة المعنى، والبعد بقدر المستطاع عن الكلمات الغريبة التي ينبو عنها الطبع، وينفر منها السمع، كما في كلمة الجرشا وغيرها. والحق أن هذا الشرط لم يأت بجديد فيما يتعلق بفصاحة المفرد؛ ذلك أن الكراهة في السمع إما أن تكون راجعة إلى تنافر الحروف في الكلمة أو إلى غرابتها أو إليهما معًا، فليست شيئًا آخر غيرهما، وكلمة الجرشا فيها تنافر خفيف بالإضافة إلى غرابتها، وهذه الألفاظ تتردد كثيرًا في شعر المتنبي، ويبدو أنه كان يتعمد الإتيان بها لاستعراض قدرته اللغوية في هذا المضمار.