المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف القصر، وبيان أنواعه - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السابع عشر

(مبحث القصر)

‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله وبعد:

فمع مبحث آخر من مباحث علم المعاني وهو "القصر"؛ نتعرف عليه ونقف على أنواعه ووجه بلاغته:

أسلوب القصر من الأساليب الغنية بالاعتبارات الدقيقة والملاحظات العديدة، فهو فنٌّ دقيق المجرى لطيف المغزى جليل المقدار كثير الفوائد غزير الأسرار، تأمل معي مثلًا قول عبد الله بن قيس الرقيات:

إنما مصعبٌ شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظلماء

تجده يفيد المبالغة في وصف مصعب بالشجاعة والإقدام بعبارة مختصرة وأسلوب موجز، وقد آثر الشاعر التعبير بـ"إنما" ليدل على أن اتصاف مصعب بصفة الشجاعة أمر ظاهر بيّن؛ فتلك خصوصية من خصوصيات "إنما"، وبهذا يتضح لك أن أسلوب القصر في البيت قد حقق ثلاث مزايا: الإيجاز والمبالغة والدلالة على شهرة مصعب وذيوع شجاعته. ويرجع ثراء أساليب القصر وكثرة فوائدها إلى تنوّع طرقها وما بين تلك الطرق من فروق دقيقة واعتبارات وملاحظات لطيفة.

القصر في اللغة: معناه الحبس، يقال: قصرته أي حبسته، وهو مقصور أي محبوس، قال تعالى:{حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (الرحمن: 72)؛ أي محبوسات قد قصرن نظرهن على أزواجهن، فالمرأة قاصرة الطرف هي التي تحبس طرفها على بعلها، وتخصه به فلا تمده إلى غيره.

ص: 401

وهو في اصطلاح البلاغيين: تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص، فعندما نقول: زهير بن أبي سلمى شاعرٌ لا كاتب، فإننا نخص زهيرًا بصفة الشعر؛ بحيث لا يتجاوزها إلى صفة الكتابة، فزهيرٌ مقصور والشعر مقصور عليه، وقد قيد البلاغيون التخصيص بالطريق المخصوص، ليخرج كل ما أفاد القصر بغير تلك الطرق المخصوصة، فقولنا: زيد مقصور على العلم، وجاء محمد وحده، وعليّ يختص بالشعر، وخالد ينفرد بالشجاعة، وكذا قول أبي ذؤيب:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيتَ كل تميمة لا تنفع

هذه الأقوال -ومثلها قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 105) - هي وإن أفادت اختصاص شيء بشيء إلا أنها لا تدخل في نطاق دراسة البلاغيين، وميدان بحثهم؛ لأن التخصيص فيها ليس وراءه اعتبارات بلاغية تستدعي إفراد البحث بها، كما أنه لم يتم بالطريق المعهود التي حددوها، وهي التقديم كما في قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) والعطف نحو: محمد كاتب لا شاعر، وإنما، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (النازعات: 45) والنفي والاستثناء، كقوله عز وجل:{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 23) وأضاف بعضهم تعريف المسند أو المسند إليه بأل الجنسية، وتوسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر نحو: محمد الجواد، وعليّ هو العالم؛ فهذه الطرق هي الغنية بالاعتبارات والملاحظات دون غيرها، والبلاغيون في دراستهم لأسلوب القصر ينظرون إلى غرض المتكلم من الاختصاص، وإلى حال المخاطب التي وقف عليها المتكلم فأحدث هذا التخصيص، وإلى طريق القصر أي المقصور والمقصور عليه، ثم إلى طرق القصر المشهورة وما بينها من فروق واعتبارات.

ص: 402

فالقصر -كما عرّفوه- تخصيص شيء بشيء بطريقٍ مخصوص، والشيء الأول هو المقصور، والثاني هو المقصور عليه، ومعنى اختصاص المقصور بالمقصور عليه ألا يتجاوزه ويتعداه إلى غيره، ففي قولنا: ما شاعر إلا امرؤ القيس، قصر للشاعرية على امرئ القيس؛ بحيث لا تتعداه إلى غيره، وهذا الغير الذي انتفت عنه صفة الشعر إن كان عامًّا فالقصر حقيقيّ، وإن كان معينًا فالقصر إضافي، والعام إن كان مطابقًا للواقع الخارجي فالقصر حقيقي تحقيقي، وإن كان مبنيًّا على الادعاء والمبالغة فهو حقيقي ادعائي، ثم القصر الإضافي يُنظر فيه إلى حال المخاطب؛ فهو إما أن يكون مترددًا في إثبات المقصور للمقصور عليه ونفيه عن المنفي عنه، وإما أن يكون معتقدًا الشركة؛ أي اشتراك المنفي عنه والمقصور عليه في المقصور، وإما أن يعتقد العكس؛ أي إثبات المقصور للمنفي عنه ونفيه عن المقصور عليه.

فالأول قصر التعيين والثاني يسمى قصر الإفراد والثالث يسمى قصر القلب، وبالنظر إلى طرق القصر - وبالنظر إلى طرفي القصر أي المقصور والمقصور عليه، لابد أن يكون أحدهما موصوفًا والآخر صفة؛ ولذا فالقصر إما أن يكون قصر صفة على موصوف باعتبار الطرفين، أو قصر موصوف على صفة. هذا وليست طرق القصر سواء في الدلالة عليه، بل بينها فروق دقيقة، تحتاج من الدارس لكي يقف عليها إلى تأمل واعٍ ونظر دقيق، ثم إن تحديد المقصور والمقصور عليه ليس بالشيء الهيّن، بل يحتاج من الدارس أيضًا إلى نظر وتأمل في أسلوب القصر، فمثلًا قولك: إنما ضرب محمد زيدًا، يفيد قصر الضرب الواقع من محمد على زيد، وقولك: إنما ضرب زيدا محمد، يفيد قصر الضرب الواقع على زيد، على فاعله محمد، وبينهما فرق كبير.

ص: 403

ونبدأ بأقسام القصر باعتبار عموم الاختصاص لكل ما عدا المقصور عليه وعدمه، وهو بهذا الاعتبار أو باعتبار حال المتكلم من الاختصاص، ينقسم إلى قسمين: قصرٌ حقيقي وقصرٌ إضافي؛ فالقصر الحقيقي ما كان غرض المتكلم منه أن يختص المقصور بالمقصور عليه؛ بحيث لا يتعداه إلى غيره أصلًا، وهذا يعني أن المنفي عنه يكون عامًّا فالمقصور مختص بالمقصور عليه منفي عن كل ما عداه، كما في قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) ففي الآية طريقان من طرق القصر؛ الأول: التقديم {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} حيث قدم المتعلق وهو هنا الظرف، وهو في موقع الخبر، والثاني: النفي والاستثناء {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فمفاتح الغيب عنده وليست عند غيره، وعلمها مقصور عليه تعالى، منفي عن كل ما عداه، وتكرار القصر أفاد تأكيد هذه الحقيقة وتقريرها؛ وهي أن العلم بالغيب مختصّ به تعالى لا يتعداه إلى أحد من خلقه.

ومنه قولنا: ما خاتم الأنبياء إلا محمد، فالمراد أن ختم النبوة مقصور على محمد صلى الله عليه وسلم لا يتعداه إلى غيره من الرسل، ومنه كذلك قوله عز وجل:{قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران: 64) فالمراد قصر العبادة على الله تعالى؛ بحيث لا تتعداه إلى غيره مطلقًا، هذا عن القصر الحقيقي، أما القصر الإضافي فهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بالنسبة إلى شيء معين؛ أي بالإضافة إليه، بحيث لا يتجاوزه إلى ذلك المعين، كما في قولنا مثلا: زهير شاعر لا كاتب، فالمراد قصر زهير على صفة الشعر؛ بحيث لا يتجاوزها إلى

ص: 404

صفة معينة محددة، وهي صفة الكتابة، وهذا لا ينافي أن يكون لزهير صفات أخرى كالخطابة مثلا، ففي القصر الإضافي يكون المنفي معينا محددا، والمراد ألا يتجاوز المقصور المقصور عليه إلى هذا المنفي المعين، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى غيره، ومنه قولنا: الشاعر ذو الرمة لا زياد، فصفة الشعر مقصورة على ذي الرمة، لا تتعداه إلى زياد، وإن صح أن تتعداه إلى نصيب والكميت وجرير والفرزدق وغيرهم من الشعراء.

هذا، وينقسم القصر الحقيقي إلى قسمين: حقيقي تحقيقي، وحقيقي ادعائي، فالتحقيقي ما كان المنفي فيه عامًّا يتناول كل ما عدا المقصور عليه من حيث واقع الحال وحقيقة الأمر، كما في الشواهد التي مرت بنا، وكما في قولك: ما أكرمت إلا زيدًا، إذا كان الإكرام لم يقع منك إلا على زيد في واقع الأمر وحقيقته، ومنه قولنا: لا يحج إلى مكة إلا المسلمون، فالواقع يطابق هذا؛ لأن الحج إلى مكة مقصور على المسلمين، ومنفي عن كل من عداهم من أصحاب الملل الأخرى، ومنه قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الملك: 1) فصفة الملك مختصة بالله تعالى في الحقيقة والواقع، ومنفية عن كل ما عداه، ومنه كذلك قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فالعبادة وطلب العون مختصان بالله ومنفيان عن كل ما عداه في واقع الأمر وحقيقته، ومنه قوله عز وجل:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 135)، فغفران الذنوب مختص بالله تعالى منفي عما عداه في الواقع والحقيقة.

ص: 405

ونلاحظ أن المقصور في جل الشواهد المذكورة صفة، والمقصور عليه موصوف، فالقصر الحقيقي التحقيقي يقع كثيرًا في الكلام إذا كان المقصور صفة ويقل في قصر الموصوف على الصفة لماذا؟ لأن الغالب في الموصوف أن يتصف بعدة صفات، ولا يوقف على صفة واحدة، أما الصفة فيجوز وقفها على موصوف واحد وحصرها فيه، وقد غالى بعض البلاغيين فقالوا: إن قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيّا تحقيقيًّا لا يتأتى؛ لأنه ما من موصوف إلا وله صفات كثيرة، تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر، فإذا قلنا: ما زهير إلا شاعر، وما زياد إلا كاتب، لا يتأتى أن يكون زهير مقصورًا على صفة الشعر لا يتجاوزها إلى غيرها، ولا أن يكون زياد موقوفًا على الكتابة لا يتعداها إلى غيرها، كيف وهما يأكلان ويتكلمان ويمشيان ويتصفان بالحياة وبالبياض أو السواد وبالقصر أو الطول وبالذكاء أو الغباء، إلى آخر ما يمكن أن يتصف به حي.

بل إن البعض خرج بالمسألة عن نطاق الدراسة البلاغية فقالوا: إن الصفة المنفية لها نقيض البتة، وهذا النقيض من الصفات، فإذا نفيت جميع الصفات لزم ارتفاع النقيضين، واحتدم النقاش واشتد الأخذ والرد، ودخلت المسألة في مماحكات كلامية ينبغي أن ينزه عنها الدرس البلاغي؛ لأنها من الشوائب التي تعكر صفوه وتكدر عذْبه، ولو تنبه هؤلاء إلى قول عبد القاهر في (الدلائل): "واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخِّر نحو: ما زيد إلا قائم، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام والتي هي منه بسبب، نحو أن يكون جالسًا أو مضطجعًا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم تُرِد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل؛ إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم، أن يكون أسود أو أبيض أو طويلًا أو قصيرًا أو عالمًا أو جاهلًا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد، لم تُرِد أنه

ص: 406

ليس في الدنيا قائمٌ سواه، وإنما تعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك". انتهى من (الدلائل).

أقول: لو تنبهنا وتنبه البلاغيون إلى هذا القول، ما خرجوا بالمسألة عن نطاق الدرس البلاغي، وما خاضوا بها الخوض الذي خاضوه. وخلاصة القول: أن المنفي عنه في القصر الحقيقي التحقيقي ما هو بسبيل من المقصور عليه، وواقع في دائرته ويتبادر إلى الذهن عند سماع أسلوب القصر، فإذا قلت: ما شاعر إلا زيد، فإنك لا تعني نفي الشاعرية عن كل من ولدته حواء في كل العصور وكل الأمم، إنما تعني نفي الشاعرية في حدود ما يشير السياق والقرائن، كذا ذكره أبو موسى في (دلالات التراكيب).

وكذا إن قلت: ما زهير إلا شاعر، لا يعني أنك تنفي عن زهير كل صفة غير الشعر، وإنما يعني أنك تنفي عنه كل ما هو بسبيل من صفة الشعر، كالخطابة والكتابة، وكل ما هو في نطاق القول والإبداع مما يحدده السياق وتشير إليه القرائن، أما القصر الحقيقي الادعائي فهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحيث لا يتعداه إلى غيره ادعاء ومبالغة، فالمقصور يختص بالمقصور عليه وينفي عن كل ما عداه مما هو بسبيل منه نفيًا يقوم على المبالغة والتجوّز، ولا يقوم على المطابقة الحقيقية للواقع كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)، فقد قُصرت خشية الله على العلماء، ونُفيت عن كل من عداهم، ولا يعني هذا أن غير العالم لا يخشى الله تعالى، بل قد يكون غير العالم أشد خشية لله من العالم، ولكن سياق الآيات في التنويه بشأن العلماء وتعظيم منزلتهم والحث على النظر والتأمل.

ص: 407

واقرأ معي في ذلك الآية من أولها، يقول فيها جل وعلا:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 27، 28)، ولذا كانت خشية الله مقصورة على العلماء دون غيرهم؛ لأن خشية غيرهم لا يُعتد بها في هذا المقام، وليست هي بمنزلة خشية العلماء، ومن هذا قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} (المائدة: 25) فقد أثبت موسى عليه السلام ملكيته لنفسه ولأخيه، ونفاها عن كل ما عداهما، والمراد لا أملك في سبيل الله والدفاع عن كلمة الحق إلا نفسي وأخي، والسياق يرشد إلى أنه كان هناك رجلان يخافان الله، قد أنعم الله عليهما بالإيمان، ولكن موسى لم يعتد بإيمانهما؛ نظرًا لتقلب قومه وتغير أحوالهم؛ ولذا قال:{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة: 25).

ومن ذلك قولنا: ما شاعرٌ إلا زهير، وما الرثاء إلا رثاء الخنساء، فقد بنى القصر على الادعاء والمبالغة وبعدم الاعتداد بغير زهير في الشعر وبغير الخنساء في الرثاء الحزين المؤلم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) فقد قصر الحسد بمعنى الغبطة على هاتين الصفتين، ونفى ما عداهما ادعاءً ومبالغة، هذا كلام البلاغيين، لكن بحق ما جاء في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يليق أن نستخدم كلمة ادعاءً، والسر في هذا الحديث الأخير أن الغبطة تكون في غير الاثنتين المذكورتين ولكنه نزل غيرهما منزلة العدم على سبيل الادعاء. هذا والقصر الادعائي كثير في كلام العرب، ويرد في مقامات المبالغة والمدح والتعظيم، نحو قولهم: ما مؤدب إلا فلان، ما عالم إلا فلان، ما شاعر إلا امرؤ

ص: 408

القيس، ما خطيب إلا صحار العبدي، ما كاتب إلا فلان، هكذا يبنون كلامهم في ذلك على المبالغة وعدم الاعتداد بغير المذكور في تلك الصفة.

هذا وينقسم القصر باعتبار المخاطب إلى قصر إفراد وقلب وتعيين؛ فقد تقدم أن القصر الإضافي: ما يكون المنفي فيه معينًا ومحددًا؛ يعني أن يختص المقصور بالمقصور عليه بالإضافة إلى معين، فالمقصور فيه يختص بالمقصور عليه لا يتجاوزه إلى ذلك المعين، كما في قول الله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) حيث قصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة الإنذار، دون أن يملك تحويل القلوب عما هي عليه من العناد والمكابرة، وكما في قول الشاعر:

إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني

أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

فقد قصر الشاعر الشكوى على الله عز وجل بحيث لا تتعداه إلى غيره من الناس، وهذا القصر الإضافي ينقسم باعتبار حال المخاطب واعتقاده -الذي وقف عليه المتكلم- إلى ثلاثة أقسام: قلب وإفراد وتعيين؛ فقصر القلب هو تخصيص أمر بأمر مكان آخر، ويخاطب به من يعتقد العكس كقولك: جاءني زيد لا عمرو، مخاطبًا من يعتقد أن عمرًا هو الذي جاءك دون زيد، فأنت تعكس وتقلب ما يعتقده؛ ولذا سُمي قصر قلب، ومنه قول الله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) لأن المنافقين يعتقدون أن المؤمنين هم السفهاء دونهم، فقلب الله عز وجل اعتقادهم وبيّن أن المنافقين هم السفهاء ولكن لا يعلمون.

ص: 409

ومن ذلك قول الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75) فالنصارى يعتقدون أن الله حلّ في عيسى، وأنه يخلد؛ فكفرهم الله عز وجل:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 72) فقلب -جل وعلا- لذلك اعتقادهم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (المائدة: 75) فالمسيح مقصور على كونه رسولا يخلو كما خلت الرسل من قبله، ولا يتجاوز ذلك إلى كونه إلها كما اعتقده الكفرة؛ ولذا فالقصر في الآية الكريمة قصر قلب، وتأمل قول أبي تمام:

والعلم في شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

تجده قد قصر العلم على كونه في قوة الجيش والعتاد، ونفاه عن كونه في علم المنجمين الذين نصحوا المعتصم بألا يُقبل على الجهاد في ذلك الوقت؛ لأن النجوم بزعمهم تنبئ بأن يتريث ولا يتعجل، ولكن المعتصم لم يعبأ بما قالوا وأقبل إلى الجهاد فانتصر وفتح عمورية. وأنشد أبو تمام هذه القصيدة مشيدًا بنصره ومشيرًا إلى قصور علم المنجمين، فالقصر في البيت المذكور قصر قلب؛ لأنهم اعتقدوا أن العلم في السبعة الشهب، لا في قوة الرماح والجيش، فنفى أبو تمام هذا وأثبت عكسه كما ترى.

النوع الثاني من أنواع القصر باعتبار المخاطب: قصر الإفراد، وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر، ويُخاطب به من يعتقد الشركة، كقولك: محمد الجواد لا علي، لمن اعتقد أنهما يشتركان في صفة الجود، ومنه قوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73) فهم يعتقدون الشركة، وأن الله ثالث ثلاثة، وأفاد

ص: 410

أسلوب القصر أن الإله واحد {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} فهو قصر إفراد، وتأمل قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) فالصحابة -رضوان الله عليهم- لشدة تعلقهم وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم أُنزلوا منزلة من يعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يجمع بين صفتي الرسالة والخلد، فجاء أسلوب القصر مفيدًا أنه عليه الصلاة والسلام مقصور على صفة الرسالة، فهو رسول يخلو كما خلت الرسل من قبله، لا يتجاوز صفة الرسالة إلى التخليد في الدنيا.

وخذ قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى هداية قومه، حريصًا -بل شديد الحرص- على قبولهم الهداية نُزّل عليه الصلاة والسلام منزلة من يعتقد أنه يجمع بين صفتي الإنذار والقدرة على خلق الهداية في النفوس، التي أصرت على الضلال والمكابرة، فجاء أسلوب القصر:{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} محددًا مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وقاصرًا إياه على صفة الإنذار لا يتعداها إلى القدرة إلى إسماع من في القبور.

ويُشترط في قصر الموصوف على الصفة إفرادًا: عدم تنافي الوصفين -بالطبع- حتى يتصور اجتماعهما لموصوف واحد في ذهن المخاطب، فلا يقال في قولك: محمد أبيض لا أسود، إنه قصر إفراد؛ إذ لا يتصور أن يعتقد معتقد أن محمدًا يتصف بالبياض والسواد معًا، كما اشترط الخطيب القزويني في قصر الموصوف على الصفة قلبًا تنافي الصفتين حتى يكون إثبات إحداهما مشعرًا بانتفاء الأخرى، كقولك: محمدٌ طويل لا قصير، زيد ذكي لا غبي، عمرو شجاع لا جبان، حاتم كريم لا بخيل، ورد عليه بأن قصر القلب يرد كثيرًا في الصفات غير المتنافية، كما مر بنا في كلام عبد القاهر من أن المنفي من الصفات ما كان له تعلقٌ، وهو من المقصور عليه بسبب، فلا وجه إذن لهذا الاشتراط.

ص: 411

ثالث هذه الأقسام في القصر الإضافي: قصر التعيين، وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر، ويخاطب به المتردد بين الشيئين، كقولك لمن يتردد شاكًّا في الناجح أعمرو أم بكر: إنما الناجح عمرو، وقولك لمن يشك في أمر زيد أمقيم أم مسافر: زيد مقيم لا مسافر، وتأمل معي قول الشاعر:

فإن كان في لبس الفتى شرف له

فما السيف إلا غمده والحمائل

تجده قصرًا إضافيًّا صالحًا لأن يكون قصر قلب أو إفراد أو تعيين، وذلك حسب تصورك لحال المخاطب، فإن كان يعتقد أن الشرف في اللبس والزينة دون الفضائل النفسية فهو قصر قلب، وإن اعتقد أن الشرف فيهما معًا فهو قصر إفراد، وإن تردد وشك في مرجع الشرف أئلى اللبس والزينة يرجع أم إلى الفضائل النفسية فهو قصر تعيين، والأرجح هو أن يكون قصر تعيين؛ لأن الشاعر يريد أن يقرر أن مَردّ الشرف إلى ما يتصف به الإنسان من الفضائل لا إلى الشكل والزينة، فهذا من الأمور الواضحة الجلية، ولا يرتاب فيها إلا من ارتاب في الأمور البدهية، كمن يرتاب مثلا في مزية السيف وجودته؛ أئلى حدته وشدة قطعه ترجع أم إلى غمده والحمائل، فمن ارتاب في هذا الأمر البين فقل له موبخًا ومشيرًا إلى ضعف عقله وقلة تفكيره وشدة غبائه: ما السيف إلا غمده والحمائل.

هذا ومراد البلاغيين بحال المخاطب، ما وقف القارئ للتعبيرات الجيدة عليه من قرائن الأحوال وسياقات الكلام، فالسياق وما به من قرائن هو الذي يبرز لك حال المخاطب، تأمل قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) وقوله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فالعبارة واحدة والبناء هو البناء، وعلى الرغم من ذلك نقول: إن القصر في الآية الأولى قصر إفراد، وفي الثانية قصر قلب، والذي

ص: 412

جعلنا نقول هذا القول الوقوف على أحوال المخاطبين من خلال تأمل سياق الآيتين.

اقرأ سياق الآية الأولى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 142 - 144)، فهو ينبئك بمدى حب الصحابة رضي الله عنهم للرسول عليه الصلاة والسلام وتغلغل هذا الحب في نفوسهم إلى درجة أنهم قد غفلوا عن أمر موته ولم يخطروه ببالهم، وها هو ذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول:"فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها".

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت حتى ما تقلني رجلاي،، وحتى هوِيت إلى الأرض"، فلشدة حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلقهم به نُزلوا منزلة من يستبعد موته، وكأنهم يعتقدون أنه يجمع بين الرسالة والتبري من الهلاك؛ ولذا كان القصر قصر إفراد، ثم اقرأ سياق الآية الثانية {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 73 - 75) فستقف منه على حال هؤلاء، فهم اعتقدوا أن عيسى عليه السلام إله وأن الله ثالث ثلاثة؛ ولذا كان القصر هنا قصر قلب؛ حيث قلبَ اعتقادهم وأفاد أن المسيح مقصور على كونه رسولًا يخلو كما خلت الرسل من قبله، لا يتجاوز ذلك إلى مرتبة الألوهية التي اعتقدوها.

ص: 413