المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باقي مواضع الفصل بين الجمل - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس العشرون

(تابع: باب الفصل والوصل)

‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد:

فكنا قد بدأنا الحديث عن الفصل والوصل، وتحدثنا خلال ذلك عن موضعين من مواضع الفصل بين الجمل، وهما: كمال الانفصال، وكمال الانقطاع، ونستكمل باقي مواضع الفصل بين الجمل، لنُثني بعد ذلك بالحديث عن مواضع الوصل، فإنه يُفصل بين الجمل -من غير ما ذكرنا من كمال الاتصال وكمال الانقطاع- بما أطلق عليه البلاغيون شبه كمال الاتصال أو ما يسمى بالاستئناف البياني، وهو أن تكون الجملة الأولى متضمّنة لسؤال تقع الجملة الثانية جوابًا له، كما في قول الله تعالى:{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: 46)، فالجملة الأولى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أثارت سؤالًا فحواه: كيف لا يكون من أهلي وهو ابني، وجاءت الجملة الثانية جوابًا لهذا السؤال المثار:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .

ولكون الجملة الثانية جوابًا لسؤالٍ تتضمنه الجملة الأولى وينبعث منها، كانت مرتبطةً به ارتباطًا وثيقًا كما يرتبط الجواب بالسؤال، ومن ثَمّ تُرك العطف بينهما لأن الجواب لا يُعطف على السؤال، لما بينهما من ترابط وثيق وصلة قوية. وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (القارعة: 8 - 11) وقوله عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 12، 13) وقوله: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الحج: 72) تجد الجواب قد فُصل عن السؤال المصرح به في هذه الآيات الكريمة، وفَصل الجواب عن السؤال المصرح به إما لكمال الاتصال لما بين السؤال والجواب من صلةٍ قوية، وإما لكمال الانقطاع لأن جملة السؤال إنشائية وجملة الجواب خبرية، وكما فُصِل الجواب

ص: 473

عن السؤال المصرح به فإنه يُفصل كذلك عن السؤال المقدر الذي اقتضته الجملة الأولى، وأثارته في ذهن المخاطب.

وقد ذكر البلاغيون أن سبب الفصل عندئذ هو الاستئناف البياني؛ أي شبه كمال الاتصال، وليس لكمال الاتصال الذي مر؛ لأن الجواب ليس بيانًا للجملة الأولى، بل لشيءٍ ينبعث منها وهو السؤال الذي أثارته واقتضته، ومن ثم وقد سمي الاستئناف ها هنا استئنافًا بيانيًّا، وهو غير الاستئناف بالواو أو الفاء، أو الاستئناف بالجملة أي القطع؛ لأنه استئناف يوضّح ويبين جواب السؤال المثار المنبعث من الجملة الأولى، فالجملة الثانية ليست منفصلةً عن الأولى في الواقع ولا منقطعةً عنها، بل مبينة وموضحة لشيء فيها؛ ولذا سُميت الثانية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. هذا، والسؤال المنبعث من الجملة الأولى قد يكون عن السبب العام، كما في قول الشاعر:

قال لي: كيف أنت قلت: عليل

سهرٌ دائمٌ وحزنٌ طويلٌ

فجملة "قلت عليل" أثارت سؤالًا عن سبب العلة، تقديره: ما سبب علتك؟ وجاءت الجملة الثانية "سهر دائم وحزن طويل" جوابًا له، أما جملة "قلت عليل" فمفصولة عن السؤال المصرح به قبلها لكمال الاتصال أو لكمال الانقطاع، كما أوضحنا، ومن ذلك قول أبي العلاء المعري:

وقد غرضتُ من الدنيا فهل زمني

معطٍ حياتي لِغِرٍّ بعدما غرض

جربت دهري وأهليه فما تركت

لي التجارب في ودِّ امرئ غرضًا

تساؤلًا عن سبب سأمه وضجره، فكأن قائلا قال له: لم تقول هذا ويحك؟! وما الذي جعلك تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك؟ فأجاب بالبيت الثاني عن هذا التساؤل المنبعث من البيت الأول:

جربت دمعي وأهليه فما تركت

لي التجارب في ودِّ امرئ غرضًا

ص: 474

لذا فصل -أو قل ترك- العطف بينهما لما بين السؤال والجواب من اتصالٍ وثيق وترابط قوي، وخذ عندك قول الله تعالى:{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 30) تجد أن جملة {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} قد أثارت سؤالًا عن سبب تلك المراودة وهو سؤال عن السبب العام، وقد جاء جوابه:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (يوسف: 30) ثم إن هذا الجواب أثار تساؤلًا آخر فحواه: وما رأيكن في هذا؟ فأجيب: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وتلاحظ أن هذا التساؤل الثاني ليس عن السبب، بل هو عن رأيهن فيما صنعته امرأة العزيز من المراودة الناجمة عن حبها فتاها. وقد يكون السؤال المثار عن السبب الخاص؛ أي عن سبب معين محدد، كما في قول الشاعر:

إذا ما الدهر جرّ على أناس

كلاكله أناخَ بآخرين

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيَلقى الشامتون كما لقينا

فقد انبعث من شطر البيت الثاني تساؤلٌ عن سببٍ معين، وكأن سائلًا سأل: لمَ نقول لهم: أفيقوا؟ هل سيلقوا كما لقيتم؟ فأجيب: "سيلقى الشامتون كما لقينا"، ومن هذا قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53)؛ حيث فصلت: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} عما قبلها؛ لأنها وقعت جوابًا لسؤال تضمنته وهذا السؤال عن السبب الخاص؛ إذ فحواه: لم نُفيت التبرئة عن النفس؟ هل النفس أمارة بالسوء؟ فجاء الجواب: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} ، ومنه أيضًا قوله عز وجل: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ

ص: 475

خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 138، 139) فقد فُصلت الجملتان {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} عما قبلهما لشبه كمال الاتصال؛ حيث وقعت كلٌّ منهما جوابا لسؤال اقتضته الجمل قبلها، وكأن سائلًا سأل: لم هذه الافتراءات؟ ولم تلك الأوصاف الجائرة؟ هل يُجزون عن ذلك؟ فجاءت الإجابة: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} .

وواضحٌ أن السؤال المثار في الآيتين عن السبب الخاص، وقد يكون السؤال المنبعث من الجملة الأولى من غير سبب، كما في قوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 24 - 28) فقد فُصلت الجمل {قَالَ سَلَامٌ} {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} {قَالُوا لَا تَخَفْ} عما قبلها؛ لأنها أجوبة لما تضمنته تلك الجمل من أسئلة أثيرت في ذهن السامع، وكأنه سأل: فماذا قال إبراهيم؟ فأجيب: قال سلام، قال: ألا تأكلون، وماذا قالت الملائكة؟ قالوا: لا تخف وبشروه، ومثل هذا كلّ ما تراه في التنزيل من لفظ "قال" مفصولا عما قبله، غير معطوف عليه بعاطف. وإما جاء مندرجًا تحت شبه كمال الاتصال، ومن ثم وجب الفصل بين جملتيه، قول الشاعر:

زعم العوازل أنني في غمرة

صدقوا ولكن غمرةً لا تنجلي

ص: 476

فالجملة الأولى: زعم العوازل أنني في غمرة، حرّكت السامع وأثارت في ذهنه سؤالًا: أصدقوا في ذلك الزعم أم كذبوا؟ فأُخرج الكلام مخرجه لو كان ذلك قد قيل له ففصل جملة صدقوا، ومن الشواهد على ذلك أيضًا قول أبي تمام:

ليس الحجابُ بمقصٍ عنك لي أملا

إن السماء تُرجّى حين تحتجب

فكأن سائلا سأله: كيف لا يحول الحجاب بينك وبين تحقيق آمالك ومآربك؟ فأجاب: إن السماء تُرجى حين تحتجب، ومنه قول الآخر:

يرى البخيل سبيل المال واحدة

إن الكريم يرى في ماله سبلا

وكأن المخاطب عندما سمع الشطر الأول سأله: وما رأي الكريم في ماله؟ فأجاب: إن الكريم يرى في ماله سبلا، ومنه كذلك قول الآخر:

فغنها وهي لك الفداء

إن غناء الإبل الحداء

فعندما قال الشاعر: "فغنّها وهي لك الفداء"، توهم أن سائلا سأله: وما غناء الإبل؟ أغناؤها الحداء أم أنك تقصد شيئًا آخر غير الحداء؟ فأجاب: إن غناء الإبل الحداء. وترجع بلاغة هذا الأسلوب إلى ما يفيده من إثارة المخاطب وتحريك ذهنه، فهذا السؤال المنبعث من الجملة الأولى قد انبعثَ في ذهن المخاطب أو في ذهن المتكلم، الذي أدرك أن الجملة ينبعث منها هذا السؤال، وأن المخاطبَ ينتظر جوابًا له وبيانًا، فعندما يأتي البيان ويرِد الجواب يقع في النفس أحسن موقع وأفضله؛ ولذا قال خلف الأحمر لبشار وقد استمع لبيتيه:

بكِّرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاحَ في التبكير

"لو قلت يا أبا معاذ: بكّرا فالنجاحُ، كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، ولو قلت: بكّرا فالنجاح، كان من كلام المولدين"، ومراده أن التكرار -أي تكرار فعل الأمر- أفاد التأكيد بوجهٍ ظاهر، لا دقة فيه، أما ما صنعه

ص: 477

فقد أفاد التوكيد بوجه خفي دقيق، مرجعه إلى انبعاث السؤال من الجملة الأولى، وإجابة الجملة الثانية عنه. وقد أجمل القزويني سرّ بلاغة هذا الأسلوب في قوله:"وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة؛ إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه أن يسأل، أو لئلا يُسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك". انتهى. هذا، ومن الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه، كقولك: أحسنتَ إلى زيد، زيدٌ حقيق بالإحسان، ومنه ما يُبنى على صفته كقولك: أحسنتُ إلى زيد، صديقك القديم أهلٌ لذلك، وهذا أبلغ لانطوائه على بيان سبب الإحسان، وقد تأتي الجملةُ المستأنفة -أي جملة الجواب- بلا حذف شيء منها، كما في قول المتنبي:

وما عفَت الرياح له محلا

عفاه من حدا بهم وساق

فلما نفى المتنبي العفاء عن الرياح، كان مظِنة أن يُسأل عن الفاعل: من هو؟ أو ما هو؟ فأجاب عن ذلك: "عفاه من حدا بهم وساق"، وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة عليه، ويكثر هذا عند ذكر الشعراء للديار والأطلال، وكذا عند المدح أو الفخر أو الرثاء أو الهجاء؛ حيث يقطع الكلام ويستأنف معنى جديد، ومن ذلك قول الشاعر:

اعتاد قلبكَ مِن ليلى عوائده

وهاج أهواءك المكنونة الطلل

ربعٌ قواءٌ أذاع المعصرات به

وكل حيرانَ سارٍ ماؤه خضل

المعصرات: يعني السحاب، أذاع به: أي ذهبَ، والخضل: الكثير، والقواء:

ص: 478

الموحِش، فلما ذكر الشاعر هنا أن الطلل قد هاج أهواءه المكنونة، اشتاقت النفس إلى معرفة خبر هذا الطلل وصفته، وكأنها ساءلت: ما خبر هذا الطلل؟ وما صفته؟ فاستأنف الشاعر حديثًا عنه، وبنى الكلام على حذف صدر الاستئناف وهو المسند إليه، فقال:"ربعٌ قواءٌ أذاع المعصرات به"، ونظيره كثير مما يقطع فيه الشعراء كلامهم ويستأنفون معانٍ أخرى فيحذفون عندئذ صدر الاستئناف لدلالة الأدلة عليه، فإن قلتَ: ألا يؤدي حذف صدر الاستئناف إلى احتياج جملة الاستئناف إلى ما قبلها؟ وعندئذ لا يكون انفصالها تامًّا واستقلالها كاملًا، قلت: ليس كل حذف يؤدي إلى الاحتياج وعدم الاستقلال، بل إن الحذف في الشواهد المذكورة قد ساعد على استقلال الجمل المستأنفة وعدم احتياجها إلى ما قبلها، ويتضح لك هذا عندما تقدر المحذوف فتقول فيما جاء من ذلك من أقوال الشعراء: ذاك ربع قواء، تلك دار لمروة، هم بناة مكارم، هو فتى غير محجوب الغنى، هم نجوم سماء، إذ تجد أن اسم الإشارة والضمير قد جعل تلك الجمل مرتبطة بما قبلها محتاجة إليه، أما الحذف فيجعلها مستقلة عنه.

ومما حُذف فيه صدر الاستئناف في آي الذكر الحكيم قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (النور: 36، 37) بقراءة "يُسبّح" مبنيّا للمفعول، وكأن سائلًا سأل: من يسبح؟ فأجيب: رجال بحذف صدر الاستئناف وهو هنا المسند، ومن ذلك أسلوب نعمَ وبئس، مثل: نعم الرجل خالد وبئس رجلًا عمرو، على اعتبار أن المخصوص بالمدح أو الذم خبرٌ لمبتدأ محذوف، وكأن سائلًا سأل: من الممدوح ومن المذموم؟ فأجيب: الممدوح خالد والمذموم عمرو، وقد يحذف الاستئناف كله، ويقوم ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي:

زعمتم إن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

ص: 479

فقد أثار صدر البيت سؤالًا تقديره: أكذبنا أم صدقنا؟ فأجيب: كذبتم في زعمكم، وقد حُذف هذا الجواب وأقيم قوله:"لهم إلف وليس لكم إلاف"، مقامه لدلالته عليه. ويجوز اعتبار قوله:"لهم إلف وليس لكم إلاف"، جوابًا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف، وكأنه لما قيل: كذبتم، قالوا: لم كذبنا؟ قال: لهم إلف وليس لكم إلاف، فيكون في البيت على هذا استئنافان، ويجوز أن يكون الفصل في البيت لشِبه كمال الانقطاع. وقد يُحذف الاستئناف كله لدلالة السياق عليه، كقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات: 47، 48) أي نعم الماهدون نحن، وقوله عز وجل:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 44) أي نعم العبد أيوب.

هذا، وقد تأتي الجملة الواقعة موقع الجواب بالفاء أو الواو، وتسمى الفاءُ حينئذ بفاءِ الاستئناف، وكذا الواو تسمى بواو الاستئناف، ولكن الاستئناف بهما يختلف عن الاستئناف البياني؛ لأن الاستئنافَ بالواو يُؤذن باستقلال الكلام وانفصاله، إذ يكون المراد عطف القصة على القصة أو عطف جمل مسوقة لغرضٍ على جمل مسوقة لغرضٍ آخر، ومن ذلك قوله تعالى:{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (سبأ: 31 - 33) حيث جاءت الآية الثانية بدون الواو، فأفاد ذلك أنها متولَّدة عن الآية الأولى إذ وقعت جوابًا لسؤال تضمنته، وجاءت الآية الثالثة بالواو، فآذنت بالاستقلال، وصار الكلام معها من قبيل عطف القصة على القصة.

ص: 480

وانظر إلى قول أبي تمام:

لا تُنكري عطل الكريم من الغِنا

فالسيل حربٌ للمكان العالي

تجد أن الفاء قد جعلت الكلام مرتبًا بعضه على بعض، وخذْ قوله تعالى:{قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (القصص: 23 - 25) تجد أن الفاءات {فَسَقَى لَهُمَا} {فَقَالَ رَبِّ} {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} قد جعلت الكلام مرتبًا بعضه على بعض، أما الاستئناف البياني فالكلام فيه يتولد بعضه من بعض؛ إذ ينبعث من الجملة الأولى سؤالٌ وتقع الثانية جوابًا له، فالثانية مرتبطة بالأولى ارتباط الجواب بالسؤال، وهو ارتباط داخلي وثيق، وليس ارتباطًا لفظيًّا ظاهرًا، كما في الاستئناف بالفاء، ولا استقلالًا وتباينًا كما في الاستئناف بالواو.

رابع مواضع الفصل بين الجمل: شبه كمال الانقطاع، وقد عرفوه بقولهم: أن تكون الجملة مسبوقة بجملتين، يصح وصلها بالأولى منهما؛ لوجود المناسبة التي تُسوّغ الوصل، ولا يصح عطفها على الثانية، فيُترك العطف دفعًا لتوهم العطف على الثانية، وتُصبح الجملة الثالثة بمنزلة المنقطعة عن الأولى لهذا الحائل. من ذلك قول الشاعر:

وتظن سلمى أنني أبغي بها

بدلًا أراها في الضلال تهيم

فقد فصل جملة "أراها في الضلال" عن الجملة الأولى "تظن سلمى"؛ لأن عطفها عليها يُوهم أنها معطوفة على جملة "أبغي بها بدلًا"، فتكون بهذا من مظنونات

ص: 481

سلمى، وهي من كلام الشاعر لا من مظنوناتها، فدفعًا لهذا التوهم وجبَ الفصل، ومثله قول الآخر:

يقولون إني أحمل الضيم عندهم

أعوذ بربي أن يضام نظيري

فصل جملة "أعوذ بربي" عن جملة "يقولون" مع جواز عطفها عليها، حتى لا يُتوهم عطفها على جملة "أحمل الضيم"، فتكون من مقولهم، وهي ليست منه، بل هي من كلام الشاعر، ويمكن أن يكون من هذا الموضع قول الحماسي:

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

فيكون فصل جملة "لهم إلف" عن جملة "زعمتم"، دفعًا لتوهم عطفها على جملة "إن إخوتكم قريش"؛ إذ هي ليست من زعمهم، بل من كلام الحماسي، وانظر في قوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 14، 15) فقد مرّ بك امتناع عطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} أو على جملة {قَالُوا} ، أما عطفها على جملة الشرط، وجوابه {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا} فجائز، ولكن يَمنع منه توهم عطفها على إحدى الجملتين المذكورتين، وكذا القول في الآيات الكريمة:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} (البقرة: 11 - 13) ولا يخفى عليك أنه يُمكن رد سبب الفصل في هذه الشواهد إلى شبه كمال الاتصال، كما نبه كثيرٌ من البلاغيين، والنكات البلاغية لا تتزاحم.

ص: 482

الموضع الخامس من مواضع الفصل بين الجمل: الفصل لعدم الاشتراك في القيد؛ أو كما عرّفه بعض البلاغيين بالتوسط بين الكمالين، مع وجود المانع من العطف، وهو عدم الاشتراك في الحكم، وقد استشهدوا لهذا بقول الله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فقد فصل جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عن جملة {قَالُوا} ؛ لأن قولهم مقيدٌ بوقت خلوهم إلى شياطينهم، أما استهزاء الله بهم فدائمٌ في كل آن، وليس مقيدًا بهذا الوقت؛ ولذا وجب الفصل لعدم الاشتراك في القيد. وأما فصل هذه الجملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عن جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} فلعدم قصد التشريك في الحكم الإعرابي كما مر بك في الجمل التي لها محل من الإعراب.

بقي أن أذكّرك بما نبهتك إليه: من أن الجمل التي لها محل من الإعراب، تخضع لما تخضع له الجمل التي لا محل لها من الإعراب، من مواضع الفصل المذكورة، ولننظر مثلًا في ذلك إلى قول الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 30) تجد أن الجمل الثلاث {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ} {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ} قد وقعت مقولًا لقول النسوة، فلها من الإعراب محل، وقد فُصل بينها لشبه كمال الاتصال؛ إذ أثارت الجملة الأولى سؤالًا فحواه: ما سبب تلك المراودة؟ فجاء التعليل: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} ، وكذا تضمنت الجملة الثانية سؤالًا تقديره: وما رأيكن؟ فأجيب بالجملة الثالثة: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، وارجع إلى ما سقناه من شواهد في مواضع الفصل المذكورة، ليتضح لك أن الجمل جميعها سواء في تلك المواضع، وأنك لا تستطيع قصر هذه المواضع على الجمل التي لها محل من الإعراب.

ص: 483