الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسه لا تصح، ولا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له، وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتفٍ ظاهر الانتفاء.
ثم ما ذكره منقوض بنحو قولهم: فلان نهاره صائم، فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشويه.
انتهى من كلام الخطيب القزويني في (الإيضاح).
بلاغة المجاز العقلي
بقي أن نتحدث عن بلاغة المجاز العقلي:
فالمجاز العقلي -كما رأينا- طريق من طرق التوسع في اللغة، وفن من فنون البلاغة، له شأن رفيع ومنزلة عظيمة، ولذلك اهتم به البلاغيون وعلى رأسهم الإمام عبد القاهر الجرجاني، ف قد درس المجاز العقلي في كتابيه (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) وبين الفرق بين المجازين اللغوي والعقلي، ويكفي أن أنقل قوله في الإشادة بالمجاز العقلي والتنويه بشأنه، حين قال: وهذا الضرب من المجاز كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طريق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعًا مصنوعًا وأن يضعه بعيد المرام قريبًا من الأفهام. كذا في (الدلائل).
وتكمن روعة المجاز العقلي في أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقي، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، ف يخيل إليك أن الفعل وقع من غير
فاعله أو على غير مفعوله، وفي هذا التخييل متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يدرك سحرها إلا صاحب الذوق البياني الرفيع، حيث يعينه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة حقيقةً ومجازًا، وإن شئتَ فقارن بين قولك: صام فلان نهاره وقام ليله، وجرى الماء في النهر، وصار الناس في الطريق؛ يعني: على الحقيقة، وبين قولك على المجاز: صام نهاره وقام ليله، وجرى النهر، وسار الطريق، على المجاز، فستجد في الثاني روعة وطرافة في التعبير لا تجدها في الأول، وهذا أثر من آثار المجاز العقلي في التخييل، وهذا التخييل بحد ذاته يؤدي إلى المبالغة في إثبات الفعل لفاعله بطريق مؤكد، ف في قولك: أذل الحرص أعناق الرجال، جعلت الحرص فاعلًا للإذلال، وأصله: أذل الله أعناق الرجال بسبب الحرص، فبلغت في تأكيد المعنى حين أسندت الفعل إلى سببه، وهذا أبلغ في ذم الحرص من أسلوب الحقيقة.
وفي قولك: جرى النهر، مبالغة في كثرة الفعل وطغيانه، ف قد جعلت النهر بضفافه ومائه وكل ما يحتويه يجري، مع أن الجريان للماء فقط، وإذا صح أن يقع الفعل من الفاعل المجازي وهو فرع فإن حدوثه من الأصل الذي هو الفاعل الحقيقي آكد فالمجاز العقلي إثبات للحكم بالدليل، وأنت تعرف -أو هكذا ينبغي أن تعرف- أن الدعوة المشفوعة بالبينة آكد وأقوى من دعوى لا تؤيدها بينة ولا يؤازرها دليل، هذا بالإضافة إلى ما في المجاز العقلي من الإيجاز الذي هو فن من فنون البلاغة، ولا شك أن قولك: صام نهاره أوجز وأبلغ من قولك: صام فلان في نهاره، وقولك: بنى الأمير المدينة أوجز وآكد في إثبات المعنى من قولك: بنى العمال المدينة بأمر الأمير، وقولك: سال الوادي أكثر إيجازًا وأرقى بلاغةً من قولك: سال الماء في الوادي؛ لما في المجاز من الإيجاز والمبالغة والتخييل.
نخلص من هذا إلى أن بلاغة المجاز العقلي تكمن فيما يفيده من المبالغة في التعبير، وإيجاز القول، وإثارة الخيال، عندما يسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي، كما ترجع بلاغة المجاز العقلي إلى أنه يفتح أمام المتكلم الميدان للتفنن في القول، وتلوين العبارة، وإخضاع الكلام لما يريد، وتشكيل البناء حسب ما يهدف إليه ويرمي، ف هو يلجأ إليه لنفي تهمة أو لتخلص من جريمة، أو لتحقيق مقصد من المقاصد، حيث يجد في إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي مَيْدانًا رحبًا لتحقيق هذه المقاصد، ويتضح لك هذا من خلال تأملك لشواهد الإمام عبد القاهر وأمثلته. انظر إلى قوله تبارك وتعالى:{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) تجد أن الفعل قد أسند إلى مكانه، وفي هذا الإسناد تخييل محرك ومثير، إذ يصور لنا الأرض فاعلةً جاهدةً تخرج أثقالها تقذف بنفسها ما بداخلها، فلا تُبقي في باطنها شيئًا.
وتأمل معي الشواهد الذي أسند فيها الفعل إلى سببه أو إلى زمانه أو إلى مكانه، نحو: بنى الأمير، ونهاره صائم، وليله قائم، وطريق سائر، ولاحظ ما فيها من الإيجاز وتقليل الألفاظ، وفضلًا عما ذكرناه من إفادة الإيجاز، تجد التجوزَ في تلك الأمثلة قد أفاد المبالغة في وقوع هذه الأفعال؛ لشدة اهتمام الأمير بالبناء، وتأكيد كمال الصوم وتمام القيام، وسرعة السير في الطريق، وكثيرًا ما يلجأ المتكلم إلى المجاز العقلي لتحقيق مقصد من المقاصد كما ذكرنا، فننظر مثلًا في ذلك إلى قولهم: فلان قتله جهله، وقضى عليه غروره، فهم يريدون بهذا تبرئة القاتل من جريمة قتله ونفي التهمة عمن قضى على غيره؛ وذلك بإسناد القتل إلى جهل المقتول وقضى إلى غرور المقضي عليه وتكبره وعجرفته، فقد وجدوا في المجاز العقلي تحقيقًا لهذا المقصد.
هذا؛ والمتكلم يحتاج في استخدامه لهذا المجاز أن يهيئ العبارة له، فليس كل شيء كما يقول عبد القاهر يصلح لأن يُتعاطَى فيه هذا المجاز، بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيئ الكلام وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم، وكلما هيأ المتكلم العبارة لهذا المجاز، وجدته قد سارع أوقع في النفس وألطف وآكد وأبلغ، وانظر مثلًا إلى قول الشاعر عن الجمل:
تجوب له الظلماء عين كأنها
…
أجاجة شرب غير ملأى ولا صِفر
تجده قد أسند تجوب إلى العين، والأصل يجوب الجمل بعينه الظلماء، ولكنه عدل إلى المجاز فأسند الفعل إلى آلته، ثم هيأ البيت وتوخى من النظم ما يجعل المجاز ألفظَ وأوقع في النفس؛ إذ تراه نكر العين ليتسنى له وصفها بالجملة الواقعة بعدها، ولو قال: تجوب له الظلماء عينه ما تمكن من وصفها بتلك الجملة، وعندما نكر العين وقطعها عن الإضافة إلى الجمل وصلها به بقوله: له، فبدون الضمير في له يصير الكلام لا علاقة له بالجمل، هكذا ذكره عبد القاهر في (الدلائل).
وراجع ذلك في هذا المصدر لترى هذا بنفسك.
وخذ مثلًا قول الخنساء -وقد سبق أن ذكرناه-:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
فإنك تجد أن أسلوب القصر قد هيأ المجاز العقلي أحسن تهيؤ، حيث قصرت الناقة على الإقبال والإدبار، وقارِن بين هي إقبال وإدبار وقولها: وإنما هي إقبال وإدبار؛ فستضح لك قوة المبالغة المنبعثة من أسلوب القصر، ثم تأمل قول كثير -وقد ذكرناه-:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
فإنك تجد أن اختيار هذا الجزء من الإبل الأعناق قد أضفى على العبارة جمالًا وأبرز، وجلى ما يفيده المجاز العقلي من تخييل وتصوير الأباطح متحركة، تدفع بهذه المطي دفعًا وتسيل بها سيلانًا؛ وذلك ل أن حركة الإبل عندما تسرع في السير تظهر تمام الظهور في أعناقها، ويتضح لك هذا عندما تقارن بين قولك: وسالت بالمطي الأباطح وبين ما قاله كثير: وسالت بأعناق المطي الأباطح، وهكذا تجد المجاز العقلي في حاجة إلى تهيئة العبارة وتوخي النظم، وأن الشاعر أو المتكلم إنما يراعي هذا، ويتوخى في النظم ما يلائم المجاز، ويهيئ العبارة له، فإنه يقع في النفس موقعه، ويحقق ما يقصده الشاعر من الإيجاز والمبالغة والتخييل.
وفي استطاعتك أن تتبع هذا الأسلوب في صوره المختلفة وعلاقاته المتعددة، وتوازن بين حقيقة الإسناد ومجازه في كل منها؛ لتقف على أسرار بلاغة المجاز العقلي من خلال شواهده في القرآن ومأثور كلام العرب شعرًا ونثرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.