الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسرار تقديم المسند
وننتقل بعد الحديث عن أسرار تنكير وتعريف المسند إلى الحديث عن أسرار تقديمه.
ذلك أن الأصل في المسند إليه إذا كان مبتدأً أن تكون رتبته التقديم، نحو: زيد قائم، وعمرو منطلق. وإذا كان فاعلًا فرتبته التأخير، أي: الوقوع بعد الفعل، وهو المسند. نحو: قام زيد، ويعطي محمد الجزيل، فإذا قدم المسند إليه على خبره الفعلي، كان ذلك لأسرار بلاغية على نحو ما عرفنا سابقًا في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي.
وكذلك إذا قدم المسند على المسند إليه الذي رتبته التقديم وهو المبتدأ؛ فإن هذا التقديم يكون لأسرار ومزايا بلاغية. أهمها: إفادة القصر، أي: قصر المسند إليه على المسند المقدم. كما في قول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6). فالمعنى: أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على كونه لكم، لا يتجاوزكم إلي. وديني الذي هو التوحيد مقصور على كونه لي، لا يتجاوزني إليكم. فالمقصور عليه هو المسند المقدم، والمقصور هو المسند إليه المؤخر، وكذا القول في الآيات الكريمة:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (االأنبياء: 97). وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية:25، 26). وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (القيامة:29، 30). وقوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة: 12).
فالتقديم في هذه الآيات الكريمة أفاد قصر المسند إليه المؤخر على المسند المقدم،
ومن ذلك: قول الله تعالى في وصف خبر الجنة: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصافات:45: 47). فالتقديم الجار والمجرور في قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أفاد نفي الغول عن خمر الجنة وإثباته لخمور الدنيا. أو بمعنى آخر: أفاد قصر عدم الغول على خمر الجنة، بحيث لا يتجاوزه إلى خمور الدنيا. ولو قيل: لا غول فيها؛ لأفاد ذلك مجرد نفي الغول عن خمر الجنة دون تعرض لخمور الدنيا.
ولذا جاء قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 1، 2). كذا بدون تقديم، إذ المراد: نفي الريب عن القرآن دون تعرض لغيره من الكتب السماوية. ولو قيل: لا فيه ريب؛ لأدى هذا إلى في الريب عن القرآن، وإثباته لغيره من الكتب السماوية، وهو غير مراد، ومن أقوالهم: قول أبي العلاء:
تعَب كلها الحياة فما أعجب
…
إلا من راغب في ازدياد
فقد أفاد التقديم قصر الحياة على التعب قصرًا ادعائيًّا، أي: أن ما فيها من فترات الراحة والأنس والمسرة لا اعتداد به، ومن ذلك قول الآخر:
رضينا قسمة الجبار فينا
…
لنا علم وللأعداء مال
وقول الآخر:
وليس بمغنٍ في المودة شافع
…
إذا لم يكن بين الضلوع شفيع
وقول آخر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
…
فخير من إجابته السكوت
ولا يخفى عليك معرفة موطن التقديم، والمقصور والمقصور عليه في هذه الأبيات، وأن الأصل في كل ما ذكرنا من أمثلة الحياة كلها تعب إلى آخر ذلك.
ومن أسرار تقديم المسند ونكاته البلاغية: التنبيه من أول الأمر على أن المسند خبر لا نعت. كما في قول حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
له هِمم لا منتهى لكبارها
…
وهمته الصغرى أجل من الدهر
فإنه لو قال: همم له لا منتهى لكبارها؛ لتُوهم أن الجار والمجرور له نعت لا خبر؛ لأن النكرة تحتاج إلى الوصف حتى تكون مسوغًا للابتداء بها، ولتوهم أيضًا أن الخبر هو الجملة بعده، وهذا لا يتفق مع غرض المدح؛ لأن الشاعر يريد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم لا مدح هممه. ومن ذلك: قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة: 36). حيث قُدِّم الجار والمجرور: {لَكُمْ} على المسند إليه: {مُسْتَقَرٌّ} ؛ لدفع توهم أنه نعت وليس بخبر.
ومن نكات تقديم المسند البلاغية: إفادة التشويق إلى ذكر المسند إليه. كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال))، وكقول محمد بن وهيب في مدح أبي إسحاق:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
…
شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
وقول الآخر:
ثلاثة يذهبن الغم والحزن
…
الماء والخضرة والوجه الحسن
وقول آخر:
ثلاثة ليس لها إياب
…
الوقت والجمال والشباب