الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتكون حال المخاطب لدى المتكلم وترسم في ذهني من خلال خبرته ومعرفته بشئون مخاطبه؛ فعند التأمل تجد أن حال المخاطب تؤول إلى المتكلم وما قد علمه ووعاه عن مخاطبه، وفي كثير من الشواهد لا تستطيع أن تحدد مخاطبًا أو تعين حالًا له، بل تجد القصر منظورًا فيه إلى حال المتكلم وما يحكيه عن نفسه، فهذا مظهر جديد من مظاهر القصر وصورة أخرى من صوره، تأمل مثلًا قول الشاعر:
وكنت امرأً ألقى الزمان مسالمًا
…
فآليت لا ألقاه إلا محاربًا
تجد القصر فيه قصر قلب، فالشاعر قد تغير وتبدل، وانقلب من امرئ يلقى الزمان مسالمًا إلى امرئ لا يلقاه إلا محاربًا، وأنت إن ذهبت تفتش عن حالٍ هنا لا تجد إلا حال المتكلم وحديثه عن نفسه.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه
هذا وينقسم القصر باعتبار طرفيه المقصور والمقصور عليه، إلى قصر صفة على موصوف وقصر موصوف على صفة، والمراد بالصفة هنا الصفة المعنوية، التي هي معنى قائم بالغير؛ سواء أكان هذا فعلًا أو مصدرًا أو مشتقًّا أو ظرفًا أو جارًا ومجرورًا أو غير ذلك، وليس المراد بها النعت النحوي؛ لأنه لا يقع قصر بين نعت ومنعوته، كقولك: جاء رجل فاضل، ففاضل نعتٌ نحوي للرجل، لا يفصل بينهما ولا يتصور بينهما قصر، كما أن المراد بالموصوف هنا كل ما قام به غيره وإن كان هو في نفسه صفة، تقول في قصر الصفة على الموصوف: ما شاعرٌ إلا زهير، ما كتب فلان إلا الشعر، ما أكرمت إلا زيدًا، وفي قصر الموصوف على الصفة: ما شوقي إلا شاعر، إنما أنت والٍ، محمد فارس لا كاتب، ما حاتم بخيلًا بل جواد.
فقصر الصفة على الموصوف معناه: ألا تتجاوز الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر أصلًا إذا كان القصر حقيقيًّا، أو إلى موصوف آخر إذا كان القصر إضافيًّا، ولا يمنع هذا أن يتصف الموصوف المقصور عليه بصفات أخرى غير تلك الصفة
المقصورة، تقول: الله هو الخالق، فتُقصر صفة الخلق على الله سبحانه وتعالى قصرًا حقيقيًا تحقيقيًّا، ومنه قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) حيث قصرتَ صفة العبادة وكذلك صفة الاستعانة على الله قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، ومن ذلك قوله جل وعلا:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) حيث قصر العلم بمفاتح الغيب على الله تعالى قصرا حقيقيًا تحقيقيًّا، فهو قصر صفة على موصوف. ومن ذلك قول أبي تمام:
لا يطرد الهم إلا الهم من رجل
…
مُقَلْقِلٍ لبنات القفرة النُّعُب
فالمراد بالهم الأول: ما يجده الرجل في صدره من أحزان، والمراد بالهم الثاني: الهمة والعزيمة، ومقلقل من القلقلة وهي الحركة العنيفة، وبنات القفرة: الإبل التي تقطع القفار، والنعب: مفردها نعوب، والنعبان: تحريك الناقة رأسها في السير، وهذا دليل النشاط والقوة، قصر هنا طرد الهم وهو صفة على الهم من رجل مقلقل لبنات القفرة وهو موصوف قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا؛ لأن الناس يطردون همومهم بأمور كثيرة، ولكن الشاعر لم يعتد بشيء منها إلا بالرحلة التي غيرته وأضنته، والتي كانت سببًا في حزن صاحبته وانسكاب عبرتها، فأراد أن يبين لها أن تلك الرحلة هي الوسيلة الوحيدة لطرد الهموم والأحزان، فهو لم يعتد بغير الرحلة في طرد همومه وأحزانه، على الرغم من وجود وسائل كثيرة لطرد الهموم؛ ولذا كان القصر حقيقيًّا ادعائيًّا، ومن ذلك قول الآخر:
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني
…
أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
حيث قصرَ صفة الشكوى على الله تعالى؛ بحيث لا تتجاوزه إلى الناس، وهو قصر إضافي، ومنه قول المتنبي في رثاء جدته:
ولم يسْلِها إلا المنايا وإنما
…
أشد من السقم الذي أذهب السقم
فقد قصر سلوها على المنايا قصرَ صفة على موصوف قصرًا حقيقيًا تحقيقيًّا؛ لأن جدته كانت قد اشتاقت إليه في غيبته، فلما وصلها كتابه قبّلته وفرحت، ثم أخبرت كذبًا أنه قد مات، فحمت ومات، فرثاها بتلك القصيدة. أما قوله:"وإنما أشد من السقم الذي أذهب السقم"، فلك أن تجعله قصر صفة على موصوف؛ أي قصر أشد من السقم على الذي أذهب السقم، والمراد بأشد من السقم صفات الكآبة والألم والفقدان والوجع، التي تغلب السقم وتقهره وتعلوه؛ لأنه لا يقهر الشيء إلا ما هو أشد منه وأقوى، فهو يتخيل صفات كآبة أقوى من السقم، ويقصرها على ما أذهب السقم وهذا إغرام في الخيال، كذا في (دلالات التراكيب)، ولك أن تجعله من قصر الموصوف على الصفة؛ أي القصر الذي أذهب السقم وهو المنايا على كونه أشد من السقم، ويكون طريق القصر عندئذ هو التقديم، وإنما ملغاة كما في قول الشاعر:
أسامي لم تزده معرفة
…
وإنما لذة ذكرناها
وقصر الموصوف على الصفة معناه: ألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى أصلًا إذا كان القصر حقيقيًا، أو إلى صفة أخرى معينة إذا كان القصر إضافيًّا، وهذا لا يمنع أن تكون تلك الصفة المقصور عليها وصفًا لموصوف آخر غير المقصور، فقولك: ما عمرو إلا شجاع، قصر لعمرو على صفة الشجاعة؛ بحيث لا يتعداها إلا صفة أخرى، أما الشجاعة فليس هنالك ما يمنع من أن يتصف بها غير عمرو، وتقول: زيدٌ كاتب لا شاعر، فتقصر زيدًا على صفة الكتابة بحيث لا يتجاوزها إلى صفة الشعر، فهو قصر إضافي وتقول: ما شوقي إلا شاعر، فتقصر شوقيًا على صفة الشعر بحيث لا يتجاوزها إلى صفة أخرى، فهو قصر حقيقي.
ولا يقال: كيف يوقف الموصوف على صفة واحدة؟ فإن هذا محال ولا يتأتى؛ لأننا نقول: المراد بالصفات المنفية هي تلك الصفات التي تتصل بالمعنى المذكور، فالصفة المقصور عليها في المثال صفة الشعر، ومعنى قصر شوقي عليها قصرًا حقيقيًا أنك نفيت عنه كل ما يتصل بها ويدور في فلكها، أو كما يقول عبد القاهر:"كل ما هو بسبيل منها"، كالكتابة والخطابة والفقه والحديث والنحو وما إلى ذلك، فهو ليس بارعًا في فرع من فروع المعرفة إلا في الشعر الذي قُصر عليه، وليس المراد أنك نفيت عنه كل صفة يمكن أن يوصف بها، ككونه مصريًّا أو فقيرًا أو سليمًا أم معافى أو أبيض أو كريمًا أو شجاعًا، ليس هذا مرادًا بل المراد كما قلنا: ما هو بسبيل من صفة الشعر المقصور عليها.
ومن شواهد قصر الموصوف على الصفة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) حيث قصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة الإنذار، لا يتجاوزها إلى أن يملك تحويل القلوب المشركة عما هي عليه من العناد والمكابرة، ومنه قوله أيضًا صلى الله عليه وسلم:((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله عز وجل يعطي)) فقد قالوا في معناه: كان بعض الصحابة يسمع الحديث ولا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخرون منهم فيستنبطون منه المسائل الكثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم حين يحدّثهم يكون كلامه مقسومًا بينهم، شركة بين الجميع، أما الفهم والاستنباط فهو من عطاء الرحمن، ففي الحديث قصرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم على كونه قاسمًا لا يتجاوز تلك الصفة إلى الإعطاء، فالإعطاء هو تحقيق الفهم من الله تعالى، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- لفرط اعتقادهم في هدايته عليه الصلاة والسلام رأوا أنه يقسّم ويعطي؛ ولذا بيّن لهم صلى الله عليه وسلم أنه لا يملك إلا القسْم وأما الإعطاء فمن الله تعالى، فالقصر إذن قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًا إفراديًّا.
ومنه قول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غُزيّة إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
حيث قصر الشاعر نفسه على كونه من تلك القبيلة لا يتعداه إلى غيرها من القبائل، فهو قصر حقيقي تحقيقي، كذلك قول شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فقد قصر الأمم على الأخلاق قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًا ادعائيًّا؛ لأن هناك أمورًا كثيرة تكون بها الأمم كالقوة والمال والرقي والحضارة وغير ذلك، ولكن الشاعر لم يعتد بها وجعل الأمم مقصورةً على صفة الأخلاق لا تتعداها إلى غيرها، فإذا وُجدت الأخلاق وسادت كانت الأمم، وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. ومنه قول الآخر:
هل الجود إلا أن تجود بأنفس
…
على كل ماضِ الشفرتين صقيل
حيث قصر الجود على الجود بالأنفس قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًا ادعائيًّا، فالشاعر لم يعتد بما عدا الأنفس مما يمكن أن يُبذل كالمال والرأي والجهد، إلى غير ذلك من ضروب البذل، وجعل الجود مقصورًا على كونه بالأنفس فقط؛ إذ الجود بالنفس أسمى غاية الجود، ولا يخفى عليك أن قصر الموصوف على الصفة يفيد بلوغ الموصوف الغاية ووصوله حد النهاية في تلك الصفة، فقولك: ما زهير إلا شاعر، يفيد كمال المبالغة في شاعريته، وأنه قد بلغ الغاية في الشعر ووصل إلى حد جعلنا لا نعتد بالصفات الأخرى التي يمكن أن يتصف بها؛ وذلك لقصور تلك الصفات عن صفة الشعر التي تفوّق فيها ووصل إلى حد النهاية.
ولذا كان قولنا: ما زهير إلا شاعر، أبلغ في وصفه بالشاعرية من قولنا: ما شاعر إلا زهير، أو بمعنى آخر: يكون قصر الموصوف على الصفة أبلغ وأكمل وأقوى في اتصاف الموصوف بتلك الصفة، من قصر الصفة على الموصوف؛ لاحتمال كون هذه الصفة التي قصرت على الموصوف دون المستوى الأمثل؛ إذ لم تصل إلى حد الكمال، كل ما هنالك أنها وُجدت في زهير دون غيره من الناس، وكما قلنا: فالمراد بالصفة الصفة المعنوية، التي هي معنى قائم بغيره، كما أن المراد بالموصوف ما قام به غيره وإن كان هو في نفسه صفة.
وقد نظر البلاغيون في جملة القصر ووضعوا لها ضوابط تعينك على تحديد كلٍّ من الصفة والموصوف؛ حيث ذكروا أن القصر إذا وقع بين ركني الجملة الاسمية فإن قصر المبتدأ على الخبر يكون من قصر الموصوف على الصفة، كقولك مثلا: ما زيد إلا أخوك، وإنما محمد كاتب، وقوله تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20) وقولك: إنما زيد في الدار، وما الجود إلا أن تجود بالنفس، إلا إذا كان الخبر اسمًا جامدًا والمبتدأ مشتقًّا، فإن القصر يكون من قصر الصفة على الموصوف، كقولك: ما الكاتب إلا زيد، وما القائم إلا عمرو؛ لأنك أردت الحكم على الكاتب بأنه زيد وعلى القائم بأنه عمرو، فالكاتب مبتدأ خبره زيد والقائم مبتدأ خبره عمرو، والقصر قصر صفة على موصوف.
وقصر الخبر على المبتدأ مِن قصر الصفة على الموصوف، كقوله تعالى:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (المائدة: 99) وقوله عز وجل: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) فقد قُصرت مهمة الرسول على البلاغ قصر صفة على موصوف، أما قوله:{وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} فهو قصر للمبتدأ وهو {الْحِسَابُ} على الخبر وهو {وَعَلَيْنَا} قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، وإذا
وقع القصر بين أجزاء الجملة الفعلية، فإن قصر الفعل على الفاعل يكون من قبيل قصر الصفة على الموصوف، كقولك: ما كتب إلا محمد، لا ينال العلا إلا المُجد، ومنه قول الشاعر:
لا يطرد الهم إلا الهم من رجل
وقوله جل وعلا: {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 47) وقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 135) وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28). وقصر الفعل على المفعول كقولك: ما ضرب محمد إلا زيدًا، وإنما أكرم زيد عمرًا، وكما في الآيات الكريمة:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 117){وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (الأنعام: 26){إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (النجم: 23) وكقولهم: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، يجوز أن يُعد من قبيل قصر الصفة على الموصوف؛ أي قصر الفعل الواقع من الفاعل على المفعول، فيكون المعنى عندئذ: ما مضروب محمد إلا زيد، ما مُكْرَم زيد إلا عمرو، ما مقولي إلا ما أمرتني به، ما مُهْلِكُهم إلا أنفسهم، ما متبعهم إلا الظن، ما مأكول الذئب إلا الغنم القاصية، فتأول الصفة المقصورة اسم مفعول؛ لأن الحدث لم يقع من المفعول المقصور عليه وإنما وقع عليه.
ويجوز أن يُعد من قبيل قصر الموصوف على الصفة؛ أي قصر الفاعل على الفعل الواقع على المفعول؛ ففي الأمثلة المذكورة قصر محمد على ضرب زيد، وزيد على إكرام عمرو، وعيسى عليه السلام على قول ما أمره الله به، إلى آخر تلك الشواهد، والأولى من هذين الوجهين أن يُجعل الفعل مقصورًا على تعلقه بالمفعول، تقول في الشواهد المذكورة: قصَر ضرب محمد على تعلقه بزيد،
وإكرام زيد على تعلقه بعمرو، وقول عيسى على تعلقه بما أمره الله به، وأكل الذئب على تعلقه بالغنم القاصية، وهكذا في بقية الشواهد المذكورة، وأما قصر الفاعل على الظرف، نحو: ما سافر خالد إلا يوم الخميس، أو على المفعول لأجله: ما زرتك إلا محبة، وقوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) أو على المفعول المطلق نحو: ما قلت إلا قول المخلصين، ما حججت إلا حجتين، وقوله تعالى:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} (الجاثية: 32) أي ظنًّا ضعيفًا، أو على التمييز كقولك: ما طاب محمد إلا نفسًا، أو على الجار والمجرور نحو: ما عملت إلا في بيتي وما دفعت إلا عنك، أو على غير ذلك من المتعلقات التي يقع فيها القصر، فإن القصر فيها يكون إما من قصر الموصوف على الصفة أو من قصر الصفة على الموصوف، بالاعتبارات الموضحة في قصر الفاعل على المفعول.
وقصر صاحب الحال على الحال من قصر الموصوف على الصفة، نحو: ما جاء عليّ إلا راكبًا، وما لقيته إلا ضاحكًا، ما انتصر المسلمون إلا وهم متحدون، وقصر الحال على صاحبها من قصر الصفة على الموصوف، نحو: ما جاء راكبًا إلا خالد، ما لقيني مرحبًا إلا عمرو، وما انصرف غاضبًا إلا زيد، وأما المفعول المطلق المؤكد لعامله والمفعول معه فلا يتأتى فيهما القصر، إذ لا يقال: ما ضربت إلا ضربًا، ولا ما سرت إلا والنيل وهكذا. السؤال إذن: ما الفرق بين القصر الحقيقي الادعائي والقصر الإضافي؟ هو على نحو ما مر بنا؛ أن القصر الحقيقي الادعائي: المنفي فيه عام؛ إذ يشمل كل ما عدا المقصور عليه ادعاءً ومبالغة، فقولك: ما شاعر إلا زهير، قصر لصفة الشعر على زهير بحيث لا تتعداه إلى غيره من الشعراء، على سبيل المبالغة، وكذا قولك: ما زهير إلا شاعر، قصرٌ لزهير على صفة الشعر لا يتعداها إلى غيرها أصلًًا، وهذا يعني أنه
قد تفوق في هذه الصفة وبلغ فيها الغاية إلى درجة جعلتك لا تعتد بأي صفة أخرى غيرها.
أما القصر الإضافي: فالمنفي فيه محدد وليس عامًّا، تقول: زهيرٌ شاعر لا كاتب، فتقصر زهيرا على الشعر وتنفي عنه الكتابة -إفرادًا أو قلبًا أو تعيينًا- حسب اعتقاد المخاطب. هذا وعند التحقيق والتأمل، تجد أن القصر الإضافي بأنواعه الثلاثة؛ إما أن يكون تحقيقيًّا، وإما أن يكون ادعائيًّا، لأن قولك: حاتم جواد لا علي، إذا كان مطابقًا للواقع بمعنى أن يكون حاتم هو الكريم فعلًا وعلي هو البخيل؛ كان القصر تحقيقيًّا، وإن كان عليٌّ كريمًا، ولكنك لم تعتد بكرمه لأمر ما؛ فجعلت حاتما هو الجواد دونه؛ كان القصر ادعائيًّا مبنيًا على المبالغة، وكذا القول في قصر الموصوف على الصفة، كقولك: زهير شاعر لا كاتب، إن كان فعلا لا يجيد الكتابة ولا يعرف طرقها وفنونها كان القصر تحقيقيًّا، وإن كان يعرفها ولكنك لا تعتد بتلك المعرفة لكونه في الشعر أفصح وأبلغ؛ كان القصر مبنيًا على الادعاء والمبالغة.
إلى هنا نتوقف لنستكمل -بمشيئة الله تعالى- في اللقاء التالي باقي الكلام عن أسلوب القصر؛ هذا الأسلوب الغني بالاعتبارات اللطيفة -كما ذكرنا، وكما رأينا.