المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب)   ‌ ‌الإيجاز، وأنواعه الحمد - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب)   ‌ ‌الإيجاز، وأنواعه الحمد

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الحادي والعشرون

(مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب)

‌الإيجاز، وأنواعه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فأقول -وبالله التوفيق-:

إنه من المعلوم أن لكل مقامٍ مقالا، والبلاغة -كما عرّفها البلاغيون- مطابقةُ الكلام لمقتضى الحال، فالحال قد تقتضي الإيجاز في القول وطي الكلمات، وعندئذ تكون البلاغة في أن يُوجز المتكلم ويختصر كلامه، وقد تقتضي الإطناب وإطالة القول، وعندئذ تكون البلاغة في الإسهاب وإشباع القول وإطالة الكلام؛ ولذلك قال أعرابية عندما سُئل عن البلاغة: البلاغة الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل، وسأل معاوية سحار العبدي:"ما تعدون البلاغة فيكم؟ فقال سُحار: الإيجاز، قال معاوية: وما الإيجاز؟ فأجاب: أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ". كذا ذكره الجاحظ في (البيان والتبيين).

وقال عبد الله بن المقفع: "البلاغةُ اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة ما يكون في هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة، فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطَل والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، فقيل له: فإن ملّ السامع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام- فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنه لا يُرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه

ص: 497

وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: رضا الناس شيء لا ينال"، كذا في (البيان والتبيين) للجاحظ.

وقد امتدحوا الإيجاز كثيرا فقالوا: البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى، البلاغة لمحةٌ دالة، البلاغة كلمةٌ تكشف عن البقية، ولعل السبب في هذا يرجع إلى أمية العرب، وإلى أنهم أمة صافية الذهن دقيقة الحس سريعة الفهم، والعربي تكفيه الإشارة وتغنيه اللمحة، وغير العربي يحتاج إلى الإطالة وإشباع القول، وبهذا علل الجاحظ إيجاز القرآن الكريم عند خطاب العرب والأعراب، والبسط والإطالة عند خطاب بني إسرائيل، يراجع في ذلك (الحيوان) للجاحظ.

وبهذا يتضح لك أن للإيجاز مقامات تقتضيه ومواضع تلائمه، كالحكم والأمثال، كما أن للإطناب مقامات تقتضيه ومواضع تلائمه، كالمدح والفخر والوعظ، وما يحسن فيه الإيجاز لا يحسن فيه الإطناب، وكذلك ما يحسن فيه الإطناب لا يحسن فيه الإيجاز، وعبد القاهر وإن لم يعقد في كتابه (الدلائل) بابًا للإيجاز والإطناب والمساواة على طريقة البلاغيين بعده، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأنه الذي وضع اللبنات الأولى والأساس الأول لهذا الباب، فقد كرر القول عن الإيجاز والإطناب، كما عقد لإيجاز الحذف فصلًا مستقلًّا، وأشار في غير ما موضع لجمال الإيجاز، أما الإطناب فقد عرض لصور منه كالتكرار الذي تكلم عنه في باب التأكيد والإيضاح، وفي مواضع أخرى متفرقة، كما تحدّث عن البيان بعد الإبهام، وهذا يجعلنا نؤكد على أنه لم يغفل مكانة هذا الباب.

ونبدأ بالإيجاز الذي عرفه البلاغيون: بأنه اندراج المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل، أو عرض المعاني الكثيرة في ألفاظٍ قليلة مع الإبانة والإفصاح، ليسهل تعلقها بالذهن وتذكرها عند الحاجة إليها في المناسبات المختلفة،

ص: 498

وهو نوعان: إيجاز قِصَر وإيجاز حذف. فإيجاز القِصَر: هو الدلالة على المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة؛ أي تضمين العبارات القليلة القصيرة معانٍ كثيرة غزيرة، دون أن يكون في تراكيبها لفظٌ محذوف، كما في قول الله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) فقد جمع في هذه الآية الكريمة جميع مكارم الأخلاق؛ لأن في العفو الصفح والإغضاء ومسامحة من أساء والرفق في كل الأمور، وفي الأمر بالعرف صلة الأرحام ومنع اللسان عن الكذب والغيبة، وغض الطرف عن كل محرم والقيام بمتطلبات الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الإعراض عن الجهال الصبرُ والحلم وكظم الغيظ؛ فهذه إذن ألفاظ قليلة وقد فاضت معانيها إلى الغاية، وزادت عن الحد إلى غير نهاية، ومن ذلك قوله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (الأعراف: 54) فقد دلت هذه الجملة من الآية الكريمة على استقصاء جميع الأشياء والشئون، حتى روي أن ابن عمر رضي الله عنهما قرأها فقال:"من بقي له شيء بعد هذا فليطلبه!! ".

ومنه قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} (الأنعام: 82)، فهذه الجملة يدخل تحتها كل أمر محبوب، وينتفي بها كل صنوف المكاره، ومنه قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (التوبة: 41) فتلك ثلاث كلمات حوت معانٍ غزيرة؛ إذ شملت الأمر بالنفير العام للجهاد، وقطعت جميع الحُجج والذرائع المعوقة عن الجهاد، ومن ذلك قوله أيضًا:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على جميع ما أخرج من الأرض قوتًا ومتاعًا للناس والدواب؛ من عشب وشجر وحطب ولباس ونار وماء وغير ذلك، وانظر إلى قوله -عز من قائل- في وصف إنهاء الطوفان:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) فقد

ص: 499

قصت هذه الكلمات القصةَ مستوعبة؛ بحيث لم يخل بشيء منها بأوجز عبارة وأخصر قول.

ومن المشهور في هذا الباب قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) إذ المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قُتل، كان ذلك داعيًا قويًّا له إلى أن يكف عن القتل ولا يُقدم عليه، فأوجب ذلك حياة الناس، ومن شواهد إيجاز القصر أيضًا قول الله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) أي: لا شفاعة ولا طاعة، فليس المراد نفي طاعة الشفيع بمعنى أن الشفيع يوجد ولكن لا يطاع، بل المراد أنه لا شفاعة أصلًا، وانظر إلى قول الشريف الرضي:

مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا

...........

شعب الرحال: خشبها، إشارة إلى ركوبهم عليها ورحيلهم للقتال. أي للطعان إلى قلوب تخفق؛ أي تضطرب لفراق الأحبة، فإنه أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام، فعبّر عن ذلك بقوله:

............... وأسندوا

أيدي الطعان إلى قلوب تخفق

وإلى قول أبي تمام:

وظلمتَ نفسك طالبًا إنصافها

فعجبتُ من مظلومة لم تظلم

أراد أكرهتها على تحمل الصعاب والمشاق، فأنصفتها بذلك؛ إذ أوجبت لها مجدًا عريقًا وذكرًا حسنًا، فصارت بهذا الصنيع مظلومةً لم تظلم، ومن ذلك قول الآخر:

وإن هو لم يحمل عن النفس ضيمها

فليس إلى حسن الثناء سبيل

ص: 500

فقد جمع في البيت الصفات الحميدة من شجاعة وسماحة ومروءة ونجدة وإغاثة ملهوف وغير ذلك؛ لأن هذه الصفات من ضيم النفس؛ إذ تجد بحملها مشقة وعناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، والكلام الجامع هو الذي تتكاثر معانيه وتقل ألفاظه، ومن جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام:((لا ضرر ولا ضرار)) ((إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع)) ((إن الله لا يمل حتى تملوا)) ((المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعودوا كل جسم ما اعتاد)) فتلك ألفاظ قليلة حوت معاني كثيرة، يطول بك القول لوصفها والإحاطة بها. ومن إيجاز الكُتاب ما كتبه عمرو بن مسعدة إلى المأمون بشأن رجل يهمه أمرَه إذ قال في كتابه:"كتابي هذا كتاب واثق لمن كتب إليه، معنيّ بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله". ولا يخفى عليك في كل ما ذكرنا ما تضمنته هذه العبارات الوجيزة، من معان غزيرة، صيغت في عبارات قليلة وألفاظ موجزة، وهذا هو شأن إيجاز القِصَر، الذي يجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة.

أما إيجاز الحذف فقد عرّفه البلاغيون: بأنه التعبير عن المعاني الكثيرة في عبارة قليلة، بحذف شيء من التركيب مع عدم الإخلال بتلك المعاني، ولابد في كل حذف من وجود أمرين: داعٍ يدعو إليه، وقرينة تدل على المحذوف وترشد إليه وتعيّنه، والمحذوف إما أن يكون جزء جملة أو كلمة أو جملة أو أكثر من جملة، فحذف جزء الكلمة، كما في قول الله تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم: 20) فالأصل: ولم أكن بغيًّا، فقد حذفت النون تخفيفًا، وقوله عز وجل:"ونادوا يا مالِ ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون" بقراءة من قرأ

ص: 501

بترخيم المنادى، والأصل: يا مالك، فحذفت الكاف؛ إشارة إلى ما هم فيه من ألم وعذاب وضيق وحزن، ومنه قول لبيد:

دَرَس المَنَا بِمَتالع فأبان

.....

أراد: درس المنازل.

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

أراد: يا أميمة، فحذف حرف النداء ورخّم المنادى فحذف منه التاء. أما حذف الكلمة فله صور كثيرة أهمها حذف الحروف، كحرف الهمزة مثلًا في قول الله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} (محمد: 15) إذ المراد: أمثل الجنة التي وعد المتقون كمن هو خالد في النار؟ فحذفت الهمزة، وفي حذفها زيادة تصوير لعناد المعاندين ومكابرة المكابرين الذين يسوّون بين الحق والباطل، وبين من يتمسك بالبينة ومن يتبع هواه. ومنه قول الله تعالى:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 22) إذ المراد: أوَتلك نعمة؟ وقوله كذلك: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (البقرة: 124) أي: أوَمن ذريتي؟ فحذفت الهمزة في الموضعين، وهو كحذف "لا" النافية أيضًا، كما في قوله تعالى:{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (يوسف: 85) أي: لا تفتأ تذكر، وكحذف حرف النداء كما في قول الله تعالى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (يوسف: 29) إذ المراد: يا يوسف أعرض، فحذف حرف النداء.

ص: 502

ومن إيجاز حذف الكلمة: حذف المسند إليه أو المسند أو أحد متعلقات الفعل، كالمفعول والجار والمجرور والحال، إلى غير ذلك.

ومما تحذف فيه الكلمة: المضاف، كما في قول الله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (يوسف: 82) أي أهل القرية وأصحاب العير، فحذف المضاف في الموضعين، وحذفه يشير إلى شهرة السرقة وذيوعها، وكأنهم يريدون أن أمر سرقته قد اشتُهر وذاع، إلى حد أنك لو سألت الجمادات لأجابت، ولو سألت الحيوانات لنطقت وأخبرت، ومن ذلك قول الله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} (البقرة: 171)؛ إذ المراد: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فحُذف المضاف وهو داعي؛ رفعًا لشأنه وتنزيهًا له عن أن يقرن في اللفظ بهذا الذي ينعق بما لا يسمع، وأن يضاف إلى الذين كفروا، وحذف المضاف يقع كثيرًا في النظم الكريم، على نحو ما نرى في قول الله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) أي في سبيل الله، {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء: 160) أي تناول طيبات، {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب: 21) أي يرجو رحمة الله ونعيم اليوم الآخر، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (الإنسان: 10) أي من عذابه. وقد ظهرت هذه المضافات في الآية الكريمة: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 57) ومنه قوله عز وجل: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يوسف: 32) أي في مراودته.

ومن مظاهر حذف الكلمة: حذف المضاف إليه كما في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف: 142) أي بعشر ليالٍ، وقوله تعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4) أي من قبل الغلب

ص: 503

ومن بعده. ومنه: حذف الموصوف، كما في قوله تعالى:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (ص: 52) أي حورٌ قاصرات الطرف، وقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (مريم: 60) أي وعمل عملًا صالحًا، فاكتفى بالصفة عن الموصوف في الآيتين لذيوع الصفة وشهرتها. ومن ذلك: حذف الصفة كما في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف: 79)؛ أي يأخذ كل سفينة صالحة بدليل قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} والحذف هنا يوحي بجبروت هذا الملك وإفساده وشدة ظلمه، فغصبه ليس قاصرا على الصالح من السفن، بل تجاوزه إلى غير الصالح، فغايته هو الغصب والاستيلاء.

ومن ذلك: حذف القسم كما في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60) أي: تالله لئن لم ينته، وقوله:{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 32) أي: والله لئن لم يفعل، فحذف القسم في الموضعين. ومن ذلك -غير أنه من قبيل حذف الجملة وإن كانت جزءا من كلام آخر- حذف جواب القسم كقوله تعالى:{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر: 1 - 5) فقد حذف جواب القسم لوضوحه وبيانه، وتقديره: لتبعثن. وحذف جملة الشرط كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) وقوله: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43) والتقدير: فإن تتبعوني يحببكم الله، وفإن تتبعني أهدك صراطًا سويّا.

ص: 504

ومنه حذف جواب الشرط كما في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (يس: 45) أي أعرضوا بدليل قوله بعده: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (يس: 46) وهذا الحذف يشير إلى أنه كان ينبغي لهم أن يستجيبوا ويقبلوا النصح فيحققوا التقوى، وما كان ينبغي لهم الإعراض والتولي، وكأن طيه من اللفظ ينبئ بضرورة التخلي عنه وإسقاطه من الأذهان والمسارعة إلى قبول الهداية والحق، ومن ذلك قوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر: 73) والتقدير: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها سعدوا وحصلوا على النعيم المقيم، الذي لا يحيط به الوصف.

وبلاغة حذف الجواب هنا تكمن في أن النفس تذهب في تقدير الجواب المحذوف كل مذهب، وفي الدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف ولا تتسع له العبارة، وتأمّل ما وراء هذه الواو {وَفُتِحَتْ} من تكريم وتشريف لهؤلاء الذين اتقوا، فقد فُتحت لهم أبواب الجنة قبل أن يأتوها تكريمًا لهم وتعظيمًا لشأنهم، ثم انظر إلى وصف الذين كفروا:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر: 71) تجد أن {فُتِحَتْ} قد جاءت بدون واو، فهو جواب "إذا" ومجيئها بدون الواو يشير إلى شدة مواجهتهم بالعذاب، فأبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند وصولهم إليها {إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} حتى تواجههم بصنوف العذاب وألوان الآلام، أما أبواب الجنة فتفتّح قبل مجيء الذين اتقوا وتجهّز قبل وصولهم وتعد، تكريمًا لهم وتعظيما {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (ص: 50).

ص: 505

ومنه قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (السجدة: 12) وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (الأنعام: 27) والتقدير: أرأيت أمرًا عظيمًا، والتقدير: لرأيت أمرًا عظيمًا وشيئًا فظيعًا لا يحيط به الوصف، فقد حذف الجواب هنا قصدًا إلى إفادة التهويل والتفظيع، ومنه قوله:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31) والتقدير: لو أن قرآنا أوتي تلك القوة الخارقة، لكان هذا القرآن، فحَذْف جواب لو هنا يشير إلى وضوحه وظهوره وانصراف الأذهان إليه، لمجرد التلفظ بجملة الشرط.

ومما حذفت فيه الجملة: جواب الاستفهام، كما في قول الله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (التوبة: 127) فحذف جواب الاستفهام وتقديره: لا يرانا من أحد، بدليل قوله:{ثُمَّ انْصَرَفُوا} لأنهم لم ينصرفوا إلا بعد تأكدهم من أنه لا أحد يراهم، والحذف هنا يشير إلى حذرهم ومبلغ حيطتهم، وكأن الجواب كان همسًا في الآذان وليس أصواتًا مسموعة. ومن حذف جزء الجملة: حذف الجملة المعطوفة على ما قبلها، كما في قول الله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (الحديد: 10) أي: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعده وقاتل، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه.

ومن حذف الجملة التامة التي تفيد معنى مستقلّا: قول الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة: 60) والتقدير: فضرب فانفجرت، فحذفت جملة ضرب، وحذفها يشير إلى سرعة إجابة موسى عليه السلام وامتثاله لأمر ربه، ومنه قول الله تعالى:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال: 8) والمعنى:

ص: 506

فعل ما فعل من كسر قوة أهل الشرك ليحق الحق ويبطل الباطل، وقوله:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127) وحُذفت جملة الحال، والتقدير: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وهما يقولان: ربنا تقبل منا، وهذا الحذف يصور لنا المشهد حيّا بارزًا مُشاهدًا، وكأنك تراه الآن وتشاهد إبراهيم وإسماعيل وهما يدعوان بهذا الدعاء، فكم في الانتقال هنا من الخبر إلى الدعاء من إعجاز فنيٍّ بارز، يكمن وراء طي جملة الحال.

وقد يكون المحذوف من الكلام البليغ أكثر من جملة: كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} (يوسف: 45، 46) والتقدير: فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه وقال له: يوسف أيها الصديق أفتنا، ومثله قول الله تعالى:{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (الفرقان: 36)، والتقدير: فآتيناهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم، ويكثر هذا الحذف في النظم القرآني ولا سيما في ميدان القصص؛ حيث يُستغنى عن التفصيلات الجزئية التي تُعرف من السياق وتفهم من قرائن الأحوال، ففي تخطيها وصول إلى العناصر الجوهرية في القصة وإبرازها جلية واضحة، وفي تخطيها أيضًا حثٌّ للمخاطب وتحريك لمشاعره وإثارة لذهنه؛ إذ يفهم تلك المشاهد المطوية ويقف عليها من خلال تأمله وتدبره أحداث القصة ووقوفه على سياقها وقرائن أحوالها.

وهكذا يطال الحذف الكلمة والجملة غير التامة والجملة التامة، لكن لابد في حذف أيٍّ من قرينة تدل على المحذوف وترشد إليه وتعينه، وإلا كان الحذف عبثًا وضربًا من الهذيان؛ إذ يؤدي عندئذ إلى اللبس والإشكال وعدم فهم المراد، كما في قول الله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق: 4)، فقد

ص: 507