المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قرينة المجاز العقلي - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌قرينة المجاز العقلي

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس

(تابع المجاز العقلي وبلاغته)

‌قرينة المجاز العقلي

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ وبعد:

فقد عشنا مع علاقات المجاز العقلي الذي يكون في الإسناد وبقي أن نتكلم عن قرينة المجاز العقلي.

الذي يتبادر إلى الذهن عند إلقاء الكلام هو إرادة الحقيقة، والذي يريد بكلامه المجاز لا بد أن ينصب قرينةً تدل على عدم إرادة الظاهر من الإسناد أو غيره؛ فالمجاز العقلي يحتاج إلى قرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي، وبدون هذه القرينة يصبح الكلام إلغازًا وتعميةً، فلا يتضح المراد منه.

وهذه القرينة نوعان؛ قرينة لفظية، وقرينة معنوية:

أما القرينة اللفظية: فهي أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره كما في قول السلطان العبدي ينصح ابنه عمرًا:

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كَر الغداة ومر العشي

نروح ونغدو لحاجاتنا

وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته

وتبقي له حاجة ما بقي

ألم ترَ لقمان أوصى ابنه

وأوصيت عمرًا ونعم الوصي

فمِلتنا أننا مسلمون

على دين صديقنا والنبي

فقد أسند الفعلين أشاب وأفنى إلى كر الغداة ومر العشي، كما ترى في البيت الأول، ولكن لا مانع من إرادة الحقيقة لجواز أن يكون اعتقاده كذلك وإن خالف الواقع، فإذا وصلنا إلى البيت الأخير فإننا نجد القرينة التي تدل على مراد الشاعر وذلك في قوله: فمِلتنا أننا مسلمون، فقد أفصح عن دينه وأن ملته هي الإسلام؛

ص: 127

أي: أنها قرينة لفظية تدل على أن الشاعر لم ينسب الفعل إلى الزمن على الحقيقة، وإنما كان متجوِّزًا في الإسناد، وهو يعتقد أن الفعل لله وحده، وأن الذي يشيب ويفني هو الله جلت قدرته.

وعلى ذلك يكون الإسناد في البيت الأول من إسناد الفعل إلى زمانه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة لفظية في البيت الأخير.

وتقول أنت: شيبت رأسي الهموم والأحزان ُ، ولكن الله يفعل ما يشاء، وتقول فيه ما قيل في سابقه، وتأمل مع قول أبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعي

علي ذنبًا كله لم أصنع

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميز عن قنزعًا عن قنزع

جذب الليالي أبطئي أو أسرعي

................................

وقد أسند الفعل إلى الليالي التي تتوالى ويتبع بعضها بعضًا، لكن هذا الإسناد يحتمل الحقيقة كما يحتمل المجاز في بادئ الأمر، فلما قال الشاعر بعد ذلك:

أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي

أفصح عن مراده، وأنه بنى كلامه على التؤول، ف هو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمانه، والقرينة لفظية كما ترى في البيت الأخير.

النوع الثاني من القرينة، القرينة المعنوية: وذلك بأن يكون مع الإسناد أمر معنوي يصرفه عن ظاهره وهي أحد أمور ثلاثة:

أ- استحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلًا مثل: محبتك جاءت بي إليك، فمن الواضح استحالة صدور الفعل وهو المجيء من الفاعل المجازي وهو المحبة، بل هي

ص: 128

سبب له فقط، ومن ذلك أيضًا قولك: طريق سائر ونهر جار، فالسير والجري من الحركات التي لا تكون في مثل الطريق والنهر، فلا بد من حمل الكلام على التجوز في الإسناد.

ب- استحالة قيام المسند بالمسند إليه عادةً كقولك: بنَى عمرو بن العاص مدينةَ الفسطاط، فإن العادة هي التي تمنع صدور الفعل وهو البناء من الأمير وإن كان ذلك ممكنًا من جهة العقل، إذ العقل يجوز أن يبني الأمير بنفسه؛ فالاستحالة هنا من جهة العادة والعرف.

ج- صدور الكلام من الموحد، وذلك كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:((وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبَطًا أو يلم)) حبطًا يعني: انتفاخًا، يلم يعني: يقارب، فهذا الكلام صادر من سيد الموحدين صلى الله عليه وسلم وصدوره منه قرينة على أنه لا يريد بإسناد الإنبات إلى الربيع ظاهره، والذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما هو إسناد مجازي من إسناد الفعل إلى زمانه، والفاعل الحقيقي للإنبات هو الله سبحانه وتعالى فعقيدة المسلم التي تنسب الأفعال إلى الله وحده قرينةٌ على المجاز في مثل هذا، ولذلك إذا كان المتكلم من الدهريين الذين يعتقدون بتأثير الدهر ويقول ون كما يحكي القرآن عنهم:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: 24) فإن كلامه يكون من قبيل الحقيقة العقلية حيث لا قرينةَ تصرفه عن ظاهره.

وقد تحدث الإمام عبد القاهر عن قرينة المجاز العقلي ودورها في منع اللبس وتحديد مراد المتكلم، وكان كلامه في هذا الموضع مادة لمن جاء بعده من المتأخرين، يقول الإمام عبد القاهر في (أسرار البلاغة): واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد أمرين؛ فإما أن يكون الشيء الذي أثبت له الفعل مما لا يدعي أحد من المحقين والمبطلين أنه مما يصح أن يكون له تأثير في

ص: 129

وجود المعنى الذي أثبت له، وذلك نحو قول الرجل: محبتك جاءت بي إليك، وإما أنه يكون قد علم من اعتقاد المتكلم أنه لا يثبت الفعل إلا للقادر، وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة كنحو ما قاله المشركون وظنوه من ثبوت الهلاك فعلًا للدهر.

وفي هذا النص إشارة إلى نوعي القرينة المانعة من جعل الإسناد صادرًا عن فاعله الحقيقي سواء كانت هذه القرينة مقالية أو معنوية، كما أن الأمثلة التي ذكرها الإمام عبد القاهر هي التي رددها السكاكي والخطيب وغيرهما من البلاغيين.

وهنا سؤال: ما هو الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي؟ يتردد هذا كثيرًا على مسامعنا.

ينقسم المجاز قسمين؛ مجاز لغوي ومجاز عقلي؛ فالأول مثل قولك: رأيت الأسد يخطبـ وتعني بذلك رجلًا شجاعًا، فقد استعمل اللفظ المفرد أسدًا في غير معناه الوضعي لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وكقولك أيضًا: رعينا الغيث بمعنى النبات المسبب عنه، فاستعمال الغيث في النبات هو من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وُضع له لعلاقة السببية مع قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وهو نوع آخر من المجاز اللغوي مجاز مرسل، فالتجوز هنا واقع في اللفظ المفرد، وطريق التجوز هو اللغة، سواء كان لاستعارة كما في المثال الأول لعلاقة المشابهة، أو في المجاز المرسل المثال الثاني لعلاقة السببية.

لماذا كان التجوز في اللغة؟

لأنه نوع من التصرف في المعنى اللغوي الكلمة المفردة؛ لنقلها من معناها الأصلي إلى معنى آخر لعلاقة وارتباط بين المعنيين، فالمتكلم قد جاز بالكلمة معناها

ص: 130

اللغوي الأصلي وأطلقها على غير هـ لمناسبة الدين المعنى الحقيقي والمعنى المجاز كما نرى في إطلاق الأسد على الشجاع والغيث على النبات والصراط المستقيم على الدين الحق، وهذا هو المجاز اللغوي.

أما المجاز العقلي فالتجوز فيه كما عرفنا واقع في الإسناد أما طرفي الإسناد فلا دخل لهما في الحكم على الجملة بالمجاز العقلي وعدمه؛ ففي قولنا مثلًا: أنبت الربيع البقل، نلاحظ أن التجوز في إسناد الإنبات إلى الربيع وهو زمانه، أما الطرفان أنبت والربيع وهما المسند والمسند إليه، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي، فالمجاز العقلي واقع في الإسناد، ةلما كان الإسناد أمرًا عقليًّا يرجع إلى قصد المتكلم الذي ينظم الكلام دون رجوع إلى اللغة في ذلك، فقد سمي هذا المجاز المجاز العقلي.

والفرق بين هذين النوعين يتلخص فيما يلي:

المجاز اللغوي في اللفظ أما المجاز العقلي ففي الإسناد والتركيب، المجاز اللغوي طريقه اللغة كما هو الحال في الحقيقة اللغوية، أما المجاز العقلي فطريقه العقل كما هو الشأن ف ي الحقيقة العقل ية.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن التفريق بين المجازين اللغوي والعقلي من آثار الإمام عبد القاهر فقد عقد في (أسرار البلاغة) فصلًا قسم فيه المجاز إلى قسمين، وعرف كلًّا منهما، وأنفق جهدًا عظيمًا في بيان الفرق بين النوعين.

ومما قال في ذلك: واعلم أن المجاز على ضربين؛ مجاز من طريق اللغة ومجاز من طريق المعقول، فإذا وصفنا بالمجاز كلمة مفردة كقولنا: اليد مجاز في النعمة، والأسد مجاز في الإنسان، كان حكمًا أجريناه على ما جرى عليه من طريق اللغة،

ص: 131

ومتى وصفنا بالمجاز الجملة من الكلام كان مجازًا من طريق المعقول دون اللغة؛ لأن الأوصاف الراجعة إلى الجمل من حيث هي جمل لا يصح ردُّها إلى اللغة؛ لأن التأليف هو إسناد فعل إلى اسم أو اسم إلى اسم، وذلك شيء يحصل بقصد المتكلم فلا يصير "ضرب" خبرًا عن زيد بوضع اللغة، بل بمن قصد إثباتَ الضربِ فعلًا له. والذي يعود إلى واضع اللغة أن ضرب لإثبات الضرب وليس لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماضٍ وليس لإثباته في زمان مستقبل، فأما تعيين مَن يثبت له فيتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين والمعبرين عن ودائع الصدور، فإذا قلنا: فأما تعيين من يثبت له فيتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين والمعبرين عن ودائع الصدور.

فإذا قلنا مثلًا: خط أحسن مما وشاه الربيع أو صنعه الربيع، كنا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعلًا أو صنعًا، وأنه شارك الحي القادر في صحة وقوع الفعل منه، وذلك تجوز به من حيث المعقول لا من حيث اللغة؛ لأنه إن قلنا: إنه مجاز من حيث اللغة صرنا كأنا نقول: إن اللغة هي التي أوجبت أن يقتص الفعل بالحي القادر دون الجماد وذلك محال.

انتهى من كلام الشيخ عبد القادر في (أسرار البلاغة).

ويضيف عبد القاهر قاعدةً يمكن التفريق بها بين النوعين، وذلك بالرجوع إلى الحقيقة في هذا المجاز وذاك؛ لنعرف طريقها من اللغة أو العقل، فالمجاز في حقيقة اللغة هو فرع عنه ا، فما كان طريقًا في أحدهما من لغة أو عقل فهو طريق في الآخر، والحقيقة اللغوية طريقها اللغة كما نرى في الأسد حين نستعمله في الحيوان المفترس، وعلى ذلك فالمجاز اللغوي طريقه اللغة أيضًا حين إطلاق الأسد على الشجاع الذي يشبهه، والحقيقة العقلية طريقها العقل؛ لإثبات الفعل أو معنى إلى

ص: 132

ما هو له مثل: أنبت الله البقل، وكذلك هو طريق المجاز فيه نحو: أنبت الربيع البقل.

هذا؛ وينقسم المجاز العقلي من حيث طرفيه وهما المسند والمسند إليه أربعة أقسام:

الأول: أن يكون طرفاه حقيقتين لغويتين كقولك: أنبت الربيعُ البقلَ، فالتجوز هنا في إسناد الإنبات إلى الربيع الذي هو زمانه، أما طرفا الإسناد وهما الفعل أنبت وفاعله المجازي الربيع، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي الذي وضع له في اللغة، فيكون كل من الطرفين حقيقة لغوية، وقِس على ذلك قوله: صام نهاره وجرى النهر وسار الطريق، فكل من الطرفين مستعمل فيما وضع له في اللغة والتجوز في إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وعليه قول الشاعر:

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشي

فكل من طرفي الإسناد مستعمل في حقيقته وهو حقيقة لغوية، والتجوز في إسناد الفعل "أشاب" إلى الزمان كر الغداة ومر العشي كما سبق أن أوضحناه من قبل.

القسم الثاني: أن يكونا مجازين لغويين، وبذلك يكون المجاز في الإسناد وفي طرفيه معًا وإن اختلف طريق المجاز، فهو في الإسناد عقلي وفي طرفيه لغوي، خذ مثلًا قولك: أحيا الأرض شباب الزمان، فطرفا المجاز هنا هما أحيا وشباب الزمان، وكل منهما مستعمل في غير معناه الوضعي، فالمسند أحيا معناه الحقيقي إيجاد الحياة، والمقصود منه هنا إحداث خضرة الأرض ونضارتها، فالعلاقة بين المعنيين هي المشابهة، ذلك أنك تجعل خضرة الأرض ونضارتها وبهجتها بالنبات

ص: 133

والأزهار التي يهبها الله تعالى للطبيعة حياةً لها؛ أي: أنك جعلت ما ليس بحياة حياةً على التشبيه، وفي الفعل أحيا استعارة تبعية، فهو مجاز لغوي، والمسند إليه أشاب له معنى حقيقي، فهو مرحلة من مراحل العمر وطور من أطواره والمقصود منه هنا الربيع؛ أي: أن لفظ شباب الزمان مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة أيضًا، معنى المعنيين الحقيقي والمجازي، فكل منهما يمثل مرحلة ازدهار وابتهاج فهو مجاز لغوي أيضًا، فالطرفان إذن مجازان لغويان، وأما إسناد الفعل إلى شباب الزمان فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية أو السببية.

القسم الثالث من أقسام المجاز العقلي باعتبار طرفيه: أن يكون المسند مجازًا لغويًّا والمسند إليه حقيقة مثل: أحيا الأرض الربيع، فالمسند أحيا مجاز لغوي -كما سبق أن ذكرنا - والمسند إليه وهو الربيع مستعمل في معناه الحقيقي فهو حقيقة لغوية، ومن هذا النوع قول المتنبي يصف ممدوحه بالشجاعة والكرم:

وتحيي له المال الصوارم والقَنا

ويقتل ما تحيي التبسم والجِدا

فقد جعل الشاعر الزيادة والوفور حياةً في المال كما جعل تفريقه في العطاء قتلًا، ثم أثبت الحياة فعلًا للصواري، والقتل فعلًا للتبسم، مع أن العلم بأن الفعل لا يصح منهما.

ومنه قولهم: أهل النار الدينار والدرهم، فإسناد أهلك إلى الدينار والدرهم مجاز عقلي علاقته السببية، ولفظ أهلك المسند ليس حقيقة بل مجاز عن الفتنة؛ إذ الإهلاك مسبب عن الفتنة فهو مجاز مرسل علاقته المسببية، وقد أسند إلى الدينار والدرهم إسنادًا مجازيًّا، ف التجوز واقع في الإسناد وفي المسند، في الإسناد مجاز عقلي وفي المسند مجاز لغوي.

ص: 134

انظر إلى قول الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) تجد أن الآية أسند ت: {اشْتَعَلَ} إلى: {الرَّأْس} إسنادًا مجازيًّا؛ لعلاقة المكانية، إذ الرأس مكان للاشتعال، والذي يفعل الاشتعال حقيقة إنما هو الشعر، ولفظ المسند:{اشْتَعَلَ} مجاز لغوي؛ إذ المراد به ظهور شيب الرأس، فاستعير الاشتعال للظهور، وتفيد هذه الاستعارة عموم الشيء وإحاطته بجميع الرأس، كما تفيد المفاجأة في ظهور الشيء، فهو اشتعال وليس ظهورًا، وتفيد أيضًا حب زكريا عليه السلام لهذا الشيء حيث أحس به إحساسًا مشرقًا مضيئًا، الذين يصورون ظهور الشيب بالرأس تصويرًا حزينًا مؤلمًا، إذ يكون سببًا في فراق الأحبة وابتعادهن.

انظر مثلًا إلى قول القائل:

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكَى

وإلى قول الآخر:

ل هـ منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع

والأسفع: الأبيض الناصع شديد البياض، والأسود الأسفع: هو الأسود المائل إلى حمرة، وقد استعير الأسود الأسفع لما يحدثه الشيب من الهم والحزن، فإنك تجد أنهم يشعرون بالشيب شعورًا حزينًا كئيبًا؛ لأنه يؤذن بتولي الشباب ويعلن عن فراق الحبيبات.

ونعود إلى المجاز العقلي لننظر في شواهد هذه الصورة التي وقع التجوز فيها في المسند وفي الإسناد، نجد منها قولهم: سال بهم الواد، حيث استعير السيلان للسيل، ثم اشتق منه سال بمعنى سار على سبيل الاستعارة التبعية، وأسند سال إلى الوادي إسنادًا مجازيًّا لعلاقة المكان، ويفيد هذا التجوز المبالغة في سرعة سير القوم، وكأن المكان قد فاض بهم ودفع، ومثله قول الشاعر:

فقدنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

ص: 135

وقول الآخر:

سالت عليه شعاب الحي حين دَعا

أنصاره ب وجوه كالدنانير

ففي إسناد السيلان إلى الأباطح وإلى شعاب الحي مجاز عقلي علاقته المكانية، والمسند سال مجاز لغوي حيث استعير السيلان بالسيل، ولا يخفى عليك بلاغة المجاز في البيتين، وقد أبرز شدة ان دفاع المطي في الأباطح وسرعة اندفاع الأنصار إلى الداعي، وكأن الشعاب قد فاضت بهم ودفعتهم إليه، وكأن الأباطح هي التي تسيل وتمضي إلى الإبل، وما من شك في أن المجاز اللغوي قد ساهم في تحقيق هذه المبالغة بنصيب وافر.

رابع هذه الأقسام: أن يكون المسند حقيقةً والمسند إليه مجازًا لغويًّا مثل: أنبت البقلَ شبابُ الزمان، فالإنبات مستعمل في معناه الحقيقي وشباب الزمان مجاز لغوي عن الربيع كما عرفت آنفًا.

وهكذا تستطيع أن ترد صور المجاز العقلي إلى هذه الأنواع الأربعة، ف هي لا تخرج في كل أحواله عن واحد منها.

وكما يجيء المجاز العقلي في النسب المثبتة فإنه يجيء أيضًا في النسب المنفية، هذا موضع سؤال: هل يتأكد مجاز العقل في النسب المنفية؟ نقول: نعم، ولا فرقَ في ذلك بين حالتي الإثبات والنفي، فإذا قلت في شأن العابد: صام نهاره بإسناد الفعل إلى زمانه على سبيل المجاز العقلي، فإن قولك في شأن غيره: ما صام نهاره بالنفي، يكون أيضًا من المجاز العقلي التي علاقته الزمانية، فأنت لا تجري في النفي إلا على الطريقة التي جريت عليها في الإثبات، من الحقيقة أو المجاز. ومن ذلك قول الشاعر:

لقد لمتننا يا أم غَيلان في السرى

ونمتِ وما ليل المطي بنائم

ص: 136

وقوله تعالى في شأن المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) فالتجوز هنا في إسناد الربح إلى التجارة؛ لأن التجارة لا تربح، وإنما الذي يربح هو التاجر بسبب التجارة، فحقيقة الإسناد كما ربحوا في تجارتهم، لكن لما كانت التجارة هي السبب في الربح أسند الفعل إليها على سبيل المجاز العقلي، والجملة منفية بـ"ما" -كما ترى - وعلى ذلك يكون قولك: ما سار الطريق، وما جرى النهر، وما بنى الأمير المدينة، وما جد جده، كل هذه الأمثلة المنفية من قبيل المجاز العقلي في النسب المنفية.

وعلى نحو ما يتحقق المجاز العقلي في النسب المثبتة والمنفية، فإنه يتحقق كذلك في النسب الإنشائية؛ فمما ينبغي الإشارة إليه في هذا المقام أن المجاز العقلي ليس مختصًّا بالخبر كما قد يفهم من ذ كره ضمن أحوال الإسناد الخبري، وإنما يجري أيضًا في الإسناد الإنشائي ب مختلف علاقاته مثل قولك: صام نهار العابد وقام ليله، تستطيع أن تقول: ليصم نهار ك وليقم ليل ك، على إسناده إلى الزمان وهو من صيغ الأمر، وفي قولك: جرى النهر تقول: هل جرى النهر وليت النهر يجري على إسناده إلى المكان، وهو من صيغ الاستفهام في الأولى والتمني في الثانية.

ف هذه أمثلة للمجاز العقلي في الإنشاء وم نه قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (غافر: 36) فرعون يطلب من وزيره هامان ذلك، وهامان لا يبني بنفسه وإنما يأمر العمال بالبناء ف أسند إليه الفعل ابني؛ لأنه سبب فيه، فهذا من المجاز العقلي في الأساليب الإنشائية، حيث أسند فعل الأمر إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وعلى ذلك يمكن القول: بأن جميع الملابسات التي

ص: 137

عرفناها في الإسناد الخبري ترِد أيضًا في الإسناد الإنشائي أمرًا ونهيًا واستفهامًا وتمنيًا، فالمجاز العقلي يجيء في الإنشاء كما يجيء تمامًا في الخبر؛ لأنه حالة من أحوال الإسناد في الكلام، والكلام إما خبر وإما إنشاء كما هو معلوم.

وهنا سؤال يفرض نفسه: هل لكل مجاز عقلي حقيقة؟

نقول: إنه باستقصاء أمثلة المجاز العقلي وشواهده نجد أن الكثير منها يمكن الرجوع به إلى أسلوب الحقيقة، وذلك بإسناد الفعل إلى فاعله الحقيقة، فيعود الفاعل المجازي إلى مكانه الأصلي قبل التجوز سببًا للفعل أو زمانًا أو مكانًا أو مصدرًا، إلى غير ذلك من الملابسات الذي تحدثنا عنه، وفي قولك: صام نهار العابد، وقام ليله، وجرى النهر، وسار الطريق، وربح تجارته، تقول: صام العابد نهاره وقام ليله، وجرى الماء في النهر، وسار الناس في الطريق، وربح التاجر في تجارته، وهذا أمر ميسور. غير أن الكلام يفقد روعته ومزيته التي اكتسبها في الإسناد المجازي. ثم إن هناك تراكيبَ مجازية يصعب على المتكلم أن يعود بها إلى أصلها في الحقيقة، إذ لم يجر العرف بإسناد الفعل فيها إلى الفاعل الحقيقة، وقد فطن الإمام عبد القاهر إلى ذلك، فذهب إلى أنه لا يجب أن يكون لكل فعل في المجاز العقلي فاعل في التقدير إذا أسند الفعل إليه صار حقيقة.

يقول الإمام عبد القاهر في (الدلائل): واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أنك تقول في:{رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} : ربحوا في تجارتهم، وفي يحمي نساءنا ضرب: نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء، ألا ترى أنه لا يمكن أن

ص: 138

تثبت للفعل في نحو: أقدمني بلدك حق لي على إنسان، فاعلًا سوى الحق؟ كذلك لا تستطيع في قوله:

وصيرني هواك وبي

يحين يضرب المثل

الحين والهلاك استعير لما وصل إليه من سوء الحال فيها. وكذا قول أبي نواس:

يزيدك وجهه حسنًا

إذا ما زدته ن ظرًا

أن تزعم أن لصيرني فاعلًا قد نقل عنه الفعل ف جعل للهوى كما فعل ذلك في: {رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ويحمي نساءنا ضرب، ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله: يزيدك وجهه حسنًا فاعلًا، غيرَ الوجه.

انتهى من كلام عبد القاهر.

وقد توهم بعض العلماء أن عبد القاهر ينكر أن يكون لكل فعل فاعل حقيقي إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقيًّا، وهذا التوهم بعيد عن مراد عبد القاهر، كما يتضح من النص المذكور، فهو يرى أن بعض أساليب المجاز يمكن الرجوع بها إلى الحقيقة بسهولة ويسر، وبعضها الآخر لا نستطيع أن نفعل فيه ذلك، وهو فيما ذهب إليه يحتكم إلى العرف وإلى واقع الأساليب بذوقه الرفيع وحِسه المرهف، فهذه الأمثلة لم يرِد لها فاعل حقيقي في الإسناد العرفي، ولم تجرِ على ألسنة القوم بأسلوب الحقيقة، بل شاع استعمالها هكذا على الإسناد المجازي، وعمدته في ذلك استقراءُ النصوص.

يقول الخطيب القزويني في (الإيضاح): واعلم أن الفعل المبني للفاعل للمجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة، وذلك قد يكون ظاهرًا كما في قوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي: فما

ص: 139

ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيًّا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل كما في قولك: سرتني رؤيتك؛ أي: سرني الله وقت رؤيتك، وكما في قولك: أقدمني بلدك حق لي على فلان؛ أي: أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان؛ أي: قدمت لذلك، ونظيره: محبتك جاءت بي إليك؛ أي: جاءت بي نفسي إليك لمحبتك.

وهذا رد على الإمام عبد القاهر في رده السابق وقد علمت مراده، وهو لا ينازع في أن كل فعل لا بد له من فاعل، ولكنه استقرأ النصوص واحتكم إلى واقع الأساليب المجازية، فوجد أن بعضها يسهل الرجوع به إلى الحقيقة بإسناد الفعل إلى فاعله الحقيقي، وبعضها لا نستطيع أن نقدر له فاعلًا حقيقيًّا نقل عنه الإسناد إلى الفاعل المجازي؛ لأن العرف لم يجرِ بالاستعمال الحقيقي، وإنما جرى بالاستعمال المجازي وشاع هكذا على ألسنة الناس.

هنا نلحظ أن السكاكي يمنع المجاز العقلي على الإطلاق على الرغم من أنه عرف المجاز العقلي في كتاب (مفتاح العلوم) بقوله: والكلام يفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التؤول إفادةً للخلاف لا بواسطة وضع؛ كقولك: أنبت الربيع البقل وشفَى الطبيب المريض.

وبعد أن عرَّفه وشرح التعريف، وأخرج المحترزات، أعلن رأيه في هذا النوع من المجاز، حيث أنكره واختار جعله من باب الاستعارة بالكناية، ولعلك تسأل: إذا كان السكاكي قد أنكر المجاز العقلي فلماذا عرفه ومثَّل له وبين حده؟

والجواب: أنه فعل ذلك مجاراةً للأصحاب الذين تعرضوا له، وكأنه يقول لهم: إن كان ولا بد من القول به فهو عندي كذا وكذا. يقول السكاكي: والذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية كجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل

ص: 140

الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبنَى الاستعارة، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة وبجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارةً بالكناية عن الجند ي الهازم، وجعل نسبة الهَزْم إليه قرينة للاستعارة، ومعنى ذلك: أنه يشبه الربيع بالفاعل الحقيقي وهو الحي القادر، ثم يدعي أن الربيع قادر مختار، ثم يطلق لفظ المشبه الادعائي وهو الربيع الذي ادعى أنه قادر مختار على المشبه به؛ أي: الحي القادر على سبيل الاستعارة بالكناية.

ف المجاز لغوي من وجهة نظره ولا مجاز في الإسناد، وهكذا صار المجاز كله لغويًّا عند السكاكي، والذي دفعه إلى ذلك -كما قال- رغبته في تقليل الأقسام، تلك الرغبة التي دفعته أيضًا إلى رد الاستعارة التبعية إلى المكنية، والرغبة في تقليل الأقسام أمر مقبول في مجال البحث والدرس، بشرط ألا يكون ذلك على حساب الخصوصيات والفوارق الدقيقة بين الطرق المختلفة، والحق أن المجاز العقلي طريقه غير طريق الاستعارة بالكناية؛ لأنها تقوم على علاقة المشابهة كغيرها من الاستعارات بخلاف المجاز العقلي؛ إذ تكفي فيه الملابسة بين الفعل وفاعله المجازي أو بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي؛ لتعلق الفعل بكل منهما، وعلاقة المشابهة لا تكفي فيها هذه الملابسة وإنما تتحقق بين طرفين يشتركان في صفة هي أخص صفات المشبه به، وقد جرى العرف على أن يشبه به من أجلها، وتعورف كونها أصلًا فيه كالشجاعة في الأسد والحسن في البدء والمضاء في السيف وهكذا.

فالمجاز العقلي إذن طريق من طرق التعبير والاستعارة المكنية طريق آخر، ولكل منهما مقام يقتضيه وموقف يناسبه، والمتذوق للأساليب المجازية يلمس الفرق واضحًا بين هذين النوعين، فأنت لا تستطيع مثلًا في قول الفرزدق:

سقاها خروق في المسامع لم تكن

علاطًا ولا مخلوطة في الملاغم

ص: 141

حيث أفاد الإسناد في السقي إلى خروق المسامع؛ تأكيدًا لهذه السببية بجعلها فاعلًا أن تحمله على الاستعارة المكنية، إ ذ لا معنى ل تشبيه هـ الخروق ب ال ساق ي، وليس هذا مراد الشاعر، بل مراده أن ذِكر قومه ونباهة شأنهم وصِيتهم البعيد الذي ملأ الأسماع كان سببًا قويًّا في أن أفسح الناس لهذه الإبل، وبالغ في هذه السببية حين أسند الفعل إلى سببه؛ تأكيدًا لهذا المعنى، وقِس على هذا البيت غيره كما في قول الآخر مثلًا:

وكل امرئ يولي الجميل محبب

وكل مكان ينبت العز طيب

ف فعل ينبت أسند إلى ضمير يعود إلى مكان، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى مكانه، ولا يعقل أن يكون الكلام فيه على التشبيه حتى نعتبره استعارةً مكنية ً؛ إذ لا معنى ل تشبيه المكان بالفاعل الحقيقي، والفيصل في ذلك هو الذوق السليم والحس اللغوي المرهف، أما قول الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

فإنك تستطيع بسهولة ويسر أن تدرك المشابهة بين الطرفين المنية والسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، فهو من قبيل الاستعارة بالكناية؛ لأنها تقوم على علاقة المشابهة، فرأي السكاكي هنا بعيد عن الصواب لما فيه تجاهل للفروق الدقيقة بين الأساليب والخصوصيات الواضحة لكل منها؛ ولذلك رد عليه الخطيب وناقشه مناقشة قوية حيث قال: وفيما ذهب إليه -أي: السكاكي- نظر؛ لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 21) صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق: 6) فاعل الدفق لا المني، وألا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى

ص: 142