المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أغراض حذف المسند وذكره - البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها

- ‌فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته

- ‌أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها

- ‌تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة

- ‌الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة

- ‌معنى الفصاحة والبلاغة

- ‌العيوب المخلة بفصاحة الكلمة

- ‌فصاحة الكلام

- ‌فصاحة المتكلم

- ‌الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري

- ‌ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم

- ‌مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ

- ‌المراد بعلم المعاني، وما يعنى به

- ‌أحوال الإسناد الخبري

- ‌الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري

- ‌أضرب الخبر

- ‌مراعاة حال المتكلم

- ‌التجوز في الإسناد

- ‌الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

- ‌تعريف الحقيقة العقلية

- ‌المجاز العقلي وعلاقاته

- ‌الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته

- ‌قرينة المجاز العقلي

- ‌بلاغة المجاز العقلي

- ‌الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر

- ‌حذف المسند إليه

- ‌ذكر المسند إليه

- ‌الدرس: 8 تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالإضمار

- ‌تعريف المسند إليه بالعلمية

- ‌تعريف المسند إليه باسم الإشارة

- ‌الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه

- ‌تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

- ‌تعريف المسند إليه بـ"أل

- ‌تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة

- ‌الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع

- ‌(تنكير المسند إليه

- ‌توابع المسند إليه

- ‌الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه

- ‌(تقديم المسند إليه

- ‌المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه

- ‌الدرس: 12 أحوال المسند

- ‌أغراض حذف المسند وذكره

- ‌قرائن حذف المسند

- ‌أسباب ذكر المسند في الكلام

- ‌الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض تنكير المسند

- ‌أغراض تعريف المسند

- ‌أسرار تقديم المسند

- ‌المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم

- ‌أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات

- ‌الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل

- ‌أغراض حذف المفعول

- ‌تقديم المفعول على العامل

- ‌الدرس: 15 الأساليب الإنشائية

- ‌التعريف بالأسلوب الإنشائي

- ‌أقسام الأسلوب الإنشائي

- ‌أسلوب الأمر

- ‌أسلوب النهي

- ‌الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية

- ‌أسلوب الاستفهام

- ‌من أدوات الاستفهام "هل

- ‌بقية أدوات الاستفهام

- ‌أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي

- ‌الدرس: 17 مبحث القصر

- ‌تعريف القصر، وبيان أنواعه

- ‌أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه

- ‌الدرس: 18 تابع: مبحث القصر

- ‌العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن

- ‌ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء

- ‌ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما

- ‌رابع طرق القصر: التقديم

- ‌من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية

- ‌الدرس: 19 باب: الفصل والوصل

- ‌باب: الوصل والفصل بين المفردات

- ‌باب: الوصل والفصل بين الجمل

- ‌الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل

- ‌باقي مواضع الفصل بين الجمل

- ‌مواضع الوصل بين الجمل

- ‌الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب

- ‌الإيجاز، وأنواعه

- ‌المساواة والإطناب

- ‌صور الإطناب

الفصل: ‌أغراض حذف المسند وذكره

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثاني عشر

(أحوال المسند)

‌أغراض حذف المسند وذكره

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه؛ وبعد:

فعلى إثر فراغنا من الحديث عن أحوال المسند إليه، أستعرض في عجالة أهم ما يعتري أحوال المسند الذي يعني الخبر في الجملة الاسمية والفعل في الجملة الفعلية.

ونبدأ بالحديث عن أغراض حذفه وذكره.

على ما هو المتعارف، فإن المسند يحذف عند وجود القرينة الدالة على حذفه؛ ليفيد أغراضًا بلاغية متعددة. هذه الأغراض لا يمكن الإحاطة بها؛ لأنها دقائق ولطائف تكمن وراء العبارات والصيغ، ولا يدركها إلا المتأمل الواعي، والذوَّاقة الخبير بالنظم وأحواله.

ونحن عندما نتحدث عن أغراض الحذف، إنما نذكر بعضًا من تلك الدقائق، وأنت عندما تتأمل النظم الجيد، والأساليب الرفيعة، لا تقف عند ذاك البعض الذي نذكره، بل عليك أن تطيل النظر والبحث والتنقيب؛ حتى تصل إلى دقائق أخرى كثيرة قد لا تحيط بها في تلك الدراسة العاجلة.

ومما سبق، في باب حذف المسند إليه، فإن وراء كل حذف سواء كان المحذوف مسندًا إليه أو مسندًا أو أحد متعلقات الفعل، ثلاث مزايا بلاغية، هي: الإيجاز، والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، وإثارة حس مخاطب، وإيقاظ مشاعره؛ كي يقف على المطوي من العبارة، ويحيط به. وبالإضافة إلى تلك المزايا التي تكمن وراء كل حذف، نجد لحذف المسند أغراضًا بلاغيةً أخرى، أهمها: ضيق المقام، كما في قول ضابئ بن الحارث البرجمي،

ص: 267

وكان الخليفة عثمان رضي الله عنه قد حبَسَه في المدينة؛ لهجائه بني نهشل، ورميه أمهم. فضاق ضابئ بسجنه، وقال معبرًا عن آلامه وواصفًا ومصورًا أحزانه:

ومن يك أمسى بالمدينة رحلُه

فإني وقيار بها لغريب

رحله: يعني: منزله ومأواه، وقيار: اسم فرسه، وقوله: فإني وقيار بها لغريب، محل الشاهد هو: من عطف الجمل. كذا ذكره في (الإيضاح). فقد أراد الشاعر هنا أن يبين عما في نفسه من أن من أمسى بالمدينة مستقرًا له منزله الذي يأوي إليه، وأهله وأصحابه الذين يأنس بهم، ويسكن إليهم، طابت نفسه، وحسن حاله، ورضي بعيشته، أما أنا وقيار فإنا بها لغريبان، وأنَّى للغريب أن يسعد ويهنأ، فالشاعر حزين مكروب؛ قد ضاق صدره لغربته وحبسه، وتتجدد آلامه كلما تذكر مع الذنب الذي ارتكبه الأهل والأصحاب والمنزل الهنيء، وكلما مر بخياله الانطلاق والحرية، ولذا تراه قد طوى المسند إلى قيار في الشطر الثاني، وتقديره: فإني لغريب بها وقيار، غريب بها أيضًا، فطيه: ينبئ بالحال الكئيبة التي يعيشها، فهو -كما تراه- قد طوى جواب الشرط، وتقديره: ومَن يك أمسى بالمدينة رحله فهو مسرور طيب النفس، مستريح البال، طواه لنفس السبب، وكأن الكلمات لا تسعفه؛ كي يذكر جواب الشرط وخبر قيار، ثم كيف يذكر الجواب وهو من جنس السعادة والهناء. إن لسانه ليتوقف عاجزًا عن النطق به؛ لأن في الإفصاح عنه زيادة لآلامه وأحزانه.

وتأمل؛= كيف قدم قيارًا، فقال: وإني وقيار، ولم يقل: فإني لغريب بها وقيار؛ وذلك للإشارة إلى أن قيارًا ولو لم يكن من جنس العقلاء قد بلغه هذا الكرب، واشتدت عليه تلك الغربة حتى صار مساويًا للعقلاء في التشكي منها، ومقاساة شدائدها. فتقديم قيار وإقحامه بين جزئي الجملة ينبئ بالتسوية بينهما في التحسر،

ص: 268

ومقاساة الألم، وينبئ بالتالي بشدة ما يلاقيه الشاعر، فلم تعد الآلام مقصورةً عليه، بل تجاوزته إلى جواده، فصار الجواد يشعر بما يشعر به ضابئ صاحبُه من ألم وضيق.

ومن ذلك قول عمرو بن امرئ القيس الخزرجي يخاطب مالك بن العجلان حين رد قضاءَه في واقعة للأوس والخزرج:

يا مال والسيد المعمم قد

يبتره بعض الرأي والسرف

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

مال: منادي مرخم، والأصل: يا مالك، وترخيم المنادَى مما يبرز حالَ المتكلم، وينبئ بآلام الشاعر وأحزانه. والمعمم: الذي عممه قومه، وارتضوا حكمه ورأيه. ويبتره: يعني: يقطعه، يريد: نحن بما عندنا من الرأي راضون؛ لأن رأينا هو الصواب والحق، وأنت بما عندك من رأي راض وقد قضيت به وحكمت، على الرغم من منافاته للصواب، ومجانبته للحق، فالرأي مختلف، والحق بجانب الشاعر، والصواب في رأيه. وعلى الرغم من ذلك لم يأخذ به مالك ولم يقض لعمرو، وهذا هو ما يؤلم الشاعر ويحزنه.

ومما يضاعف آلامه ويزيد أحزانه؛ أن القاضي ذو رأي وصاحب عقل راجح، أنه السيد المعمم قد عممه الجميع وارتضوا رأيه، ولكن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة. فالسيد المعمم ذو العقل الراجح قد يبتره بعض الرأي، ويخونه التوفيق فيقضي بغير الصواب، وهذا ما قد حدث، وهذا هو الذي يؤلم عمرًا ويحزنه، ولذا تراه قد طوى المسند من الشطر الأول في البيت الثاني، فلم يقل: نحن بما عندنا راضون، بل حذف الرضا من جانبهم؛ لدلالة رضا المخاطب برأيه في الشطر الثاني عليه، حذف الرضا من جانبهم؛ لدلالة رضا المخاطب في الشطر

ص: 269

الثاني عليه هذا الحذف ينبئ بآلام الشاعر وضيقه، وكأنه يأبَى أن يصرح بنسبة الرضا إليهم في اللفظ؛ فهم مقتنعون بصواب رأيهم غير راضين بما حكم به مالك ذو الرأي والعقل، فحذف المسند يبرز لك حالتهم تلك.

وانظر إلى قول المتنبي:

قالت وقد رأت الصراري مَن به

وتنهدت فأجبتها المتنهد

يريد: لما رأت حالي وما وصلت إليه بسبب حبها، تساءلت متنهدةً: مَن فعل بك هذا؟ ومن وراء حالتك هذه؟ فأجبتها: المتنهد، أي: فعل بي ما ترين أنت، فأنت الذي أهواها. الشاعر قد حذف المسند وطواه، فلم يقل: صنع ما ترين المتنهد، بل قال: المتنهد، والمتنهد: هي السائلة، وكأن ألم العِشق قد أوصله إلى حالة لم يستطع معها أن يكمل الجواب. وكأن الشاعر أيضًا قد أراد بهذا الحذف أن يبادر بذكر المتنهد، وأن يفصح لها عن حبه؛ فهي التي بلغت به إلى تلك الحالة، وقد وجدها فرصة عندما سألته: من به؛ لكي يسارع هو بالإفصاح عن حبه، فحذف المسند يحقق تلك المسارعة. ولو ذكره فقال: فعل هذا بي المتنهد، لكان هناك تباطؤ في الإعلان عن حبه. ولا يخفَى عليك ما وراء الالتفات في البيت من دلالة المحب، وتمنعه. فهي تخاطبه ولم تقل له: مَن بك؟ بل التفتت. فقال: من به؟ دلالًا وتمنعًا.

وقيل: المسند المحذوف: اسم، والمعنى: من المطالب به، فأجبتها: المتنهد، أي: المطالب به. وعندئذٍ يكون الضمير في به عائدًا إلى الاصفرار، فلا التفاتَ. وقد يفيد حذف المسند تعظيم المسند إليه، على نحو ما ترى في قول الله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (التوبة: 74). وقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (التوبة: 62).

ص: 270

فالأصل: إلا أن أغناهم الله من فضله وأغناهم رسوله، والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. فحذف المسند في الموضعين؛ لدلالة المذكور عليه، وحذفه يفيد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المسند إليه، إذ جعل إرضاءه من إرضاء الله، وإغناءه من إغنائه تعالى، وهذا تعظيم ما بعده تعظيم.

وتأمل؛ تقديم المسند إليه: {رَسُولُهُ} ، وإيلاءه لفظ الجلالة، ففيه تنبيه ولفت إلى تعظيم رسول الله -صلوات الله عليه- ودلالة على أنه من الله بمكان. ومن البلاغيين من يرى أنه لا حذف في الآيتين مجوزًا أن تكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير في:{مِنْ فَضْلِهِ} ، و {يُرْضُوهُ} ، ينبئ بأنه لا تفاوتَ بين إغناء الله وإغناء رسوله، ولا بين إرضاء الله وإرضاء رسوله؛ فهما في حكم مغن واحد ومرضٍ واحد، كما تقول: إحسان عمرو وكرمه غمرني. وتفرد الضمير جاعلًا الإحسان والكرمَ بمعنًى واحدٍ، ولا يخفى عليك ما في هذا أيضًا من تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعة بشأنه.

كذا ذكره في (الإيضاح).

ومثل هذا وعلى طريقته قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 69) حيث قدم: {الصَّابِئُونَ} على خبر إن، وهو مبتدأ، أي: الصابئون كذلك؛ وذلك لأن الصابئين أشد هذه الفرق. ويُظن أنهم لا يستوون مع غيرهم، فأقحم للدلالة على التساوي كما في الشواهد التي مضت. وقد ترى سر التأثير ومرجع المزية في حذف المسند كامنًا في تكاثر المعنى؛ نظرًا لكثرة الوجوه التي تصلح لتقدير المحذوف.

ص: 271

ومن ذلك: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (الأنفال: 41) وقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} : مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: فحق أو فواجب أو فثابت. قال الزمخشري: كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات. كقولك: ثابت، واجب، حق، لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى للإيجاب من النص على واحد.

وتأمل قول الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} (الرعد: 33) تجد أنه قد حذف المسند وتقديره: أفمن هو قائم كمَن ليس كذلك، والقائم على كل نفس هو الله -جل وعلا- فهو متولي أمر كل نفس وحافظ شأنها. ومن ليس كذلك هو المعبود بالباطل من دون الله عز وجل. والحذف هنا يشعر بتعظيم الله تبارك وتعالى وتحقير وازدراء تلك المعبودات، وينبئ بأنه لا وجه للمقارنة بين الخالق القادر القائم على كل نفس وبين تلك المعبودات.

فينبغي عدم الجمع بينهما ولو في اللفظ. وكذا القول في الآيات الكريمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 22) والتقدير: كمن قَسَا قلبه، وكان صدره ضيقًا حرجًا. ومثله: قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر: 24) أي: كمن ينعم في الجنة. وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (فاطر: 8) أي: كمن لم يزين له، أو كمن هداه الله، فالحذف في الآيات يشعر بأنه لا وجه للمقارنة بين الاثنين، فهذا قد شرح الله صدره للإسلام، وذاك قد أمسى قلبه وأضحى صدره ضيقًا حرجًا، وهذا يتقي

ص: 272

بوجهه سوء العذاب. هذا يتقي بوجهه سوء العذاب، وذاك ينعم في الجنة، هذا قد زين له عمله السيئ فرآه حسنًا، وذاك قد هداه الله للخير والعمل الصالح.

فحذف المسند كما ترى ينبئ بالتباعد بين الفريقين، ويوحي بالمسافات المتناهية بينهما، ويجعل الذهن يتشبع ويمتلئ بصورة المسند إليه فتقر في القلب، وترسخ في العقل.

ولا يخفى عليك أن الحذف في الآيتين الأخيرتين قد أفاد تعظيم المسند المحذوف ورفعة شأنه، كما أفاد تحقير المسند إليه المذكور وانحطاطه، وذلك عكس ما أبصرت في الآيتين السابقتين، إذا أفاد الحذف فيهما تعظيم المسند إليه المذكور وعلو منزلته، وتحقير المسند المحذوف وانحطاطه، وازدياد وازدراء النفوس له.

وقد يحذف المسند اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب كقولك: خرجت فإذا زيد، لولا زيد لهلك الناس، لعمرك لأفعلن، كل رجل وضيعته، والتقدير: فإذا زيد حاضر، لولا زيد موجود، لعمرك يميني كل رجل مقترنان، وقد ذكر النحاة أن الأساليب العربية جرت على إسقاط المسند في هذه المواضع، وهي: إذا الفجائية، ولولا، والقسم الصريح، وواو المصاحبة، وكذا مع الحال الممتنع كونها خبرًا، نحو: ضربه زيدًا قائمًا. أي: ضربه زيدًا حاصل إذا كان قائمًا.

وذكر سيبويه أن الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها عمل الأفعال، وهي: إن، ولكن، وليت، ولعل، وكأن، يحسن السكوت عليها، مع إضمار خبرها. من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، وقد شكروا عنده الأنصار:((أليس قد عرفتم أن ذلك لهم؟ قالوا: بلى. قال عليه الصلاة والسلام: فإن ذلك))، يريد: فإن ذلك مكافأة لهم.

ص: 273

وقول عمر بن عبد العزيز لرجل من قريش جاء يكلمه في حاجة له، فجعل يمت بقرابته، فقال له عمر: فإن ذلك، أي: فإن ذلك لك، ثم ذكر الرجل حاجته، فقال عمر: لعل ذلك، أي: لعل ذلك ييسر لك ويقضى، وتقول لمن قال لك: هل لك أحد ينصرك، إن الناس إلب عليك، تقول: إنْ زيدًا، وإنْ عمرًا، وإنْ ولدًا، وإنْ مالًا. وعليه قول الأعشى:

إن محلًّا وإن مرتحلًا

وإن في السفر إذا مضوا مهلًا

يريد: إن لنا محلًّا في الدنيا، وإن لنا مرتحلًا عنها إلى الآخرة. ومحِلًّا ومرتحلًا: مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال.

والسفر: اسم جمع بمعنى: المسافرين. والمراد بهم في البيت: الموتى. والمهل: مصدر بمعنى: الإمهال وطول الغيبة، والمعنى: إن في غيبة الموتى طولًا وبعدًا؛ لأنهم مضوا مضيًا لا رجوع معه إلى الدنيا. ومنه قول الآخر: ليت أيام الصبا رواجعًا، يريد: ليت أيام الصبا لنا رواجعا، أو أقبلت رواجعا. وتقول لمن قال لك: هل أحد يشبه عمرَ في عدله؟: كأن فلانًا. ولمن قال لك: الخسارة فادحة، والخطب جلل، الناس جميعًا ضدك، لكنْ مالًا، ولكنْ ولدًا، يريد: كأن فلانًا يشبهه، لكنّ لي مالًا ولي ولدًا. والعفو في هذا الموضع أفاد الإيجاز ونقاء الجمل وترويقها. أو كما قال البلاغيون: الاحتراز عن العبث. فالذي حذف قد وجدت القرينة الدالة عليه، والمقام مقام إيجاز، ولمح.

وذكر ما قد دل الدليل عليه في مثل هذا المقام يعد عبثًا.

تأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فإن ذلك))، قول عمر: لعل ذلك. فستدرك قوة لمح المتكلم، وحسن اقتداره على تصفية العبارة وترويقها من زوائد لا يستدعيها المقام. تأمل قولك: ضربي زيدًا قائمًا. ووازن بينه وبين قولك: ضربي زيدًا

ص: 274

حاصل إذا كان قائمًا. فستجد أن المحذوف أكثر من المذكور، وعلى الرغم من ذلك، فقد ازداد المثال جمالًا؛ بسبب الحذف، وبَدَا موجزًا أنيقًا. وأراك تشعر بما وراء قول القائل: إنَّ مالًا وإن إبلًا ولكن ولدًا. من اعتداد واعتزاز وقوة لا تكون لو قدر المحذوف فقيل: إن لنا مالًا ولكن لنا ولدًا؛ لأن استرخاء العبارة عندئذ يوحي بفتور الشعور، وضعف المعنى.

وتأمل بيت الأعشى الذي سبق ذكره:

إن محلًّا وإن مرتحلًا

وإن في السفر إذا مضوا مهلًا

تجد أن الشاعر يصف سرعة الخاطفة في الحلول والارتحال، وكأن هذه السرعة التي يحسها بزوال الدنيا قد انعكست على عبارته، فطوى فيها كثيرا من الكلمات؛ لأن سياق المعنى في البيت طي وإضمار واختصار، حلول يخطفه الارتحال، وارتحال دائم وسفر لا أوبة له، كذا في (خصائص التراكيب)، وقد يفيد حذف المسند التأكيد والاختصاص، كما في قول الله تعالى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} (الإسراء: 100). فالتقدير: لو تملكون تملكون، فأضمر المسند تملك الأول إضمارًا على شريطة التفسير، ولما أضمر الفعل انفصل الضمير أنتم، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، و {تَمْلِكُونَ}: تفسيره. ودليل الحذف: لو؛ لأن "لو" لا تدخل إلا على الأفعال.

قال الزمخشري في (الكشاف): وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن: {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} ، فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ. ونحوه: قول حاتم: لو ذات سوار لطمتني، قالها عندما لطمته أَمة قد جاءته ببعير؛ ليفصده فنحره. ويعني بذات السوار: الحرة من النساء.

ص: 275

ونحوه كذلك: قول المتلمس:

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي

جعلت لهم فوق العرانين ميسما

العرانين: مفردها: عرنين، وهو الأنف كله، أو ما صلب منه. والميسم: العلامة أو السمة؛ وذلك لأن الفعل الأول لما أسقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر. كذا في (الكشاف).

ومن هنا، أفاد حذف المسند في الشواهد المذكورة الاختصاص والتوكيد. وقد اعتُرض على الزمخشري: بأن الاختصاص إنما يكون في الجملة الاسمية التي يقدم فيها المسند إليه على الخبر الفعلي، كما عرفنا. تقول: محمد يفعل كذا، قوله عز وجل:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نوح: 17) والشواهد المذكورة ليست كذلك؛ لأنها جمل فعلية.

ويدفع هذا الاعتراض أمران:

أولهما: أنه لما أسقط الفعل برز الكلام في صورة الجملة الاسمية المبتدأ والخبر. كما ذكره الزمخشري.

ثانيهما: أن الاختصاص قد عُلق بلون، وهو حرف امتناع لامتناع كما هو معلوم.

أيضًا، من أحسن مواقع حذف المسند: ما ترى الجملة فيه قد بنيت على كلمة واحدة، كما في قول الله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51) أي: فلا فوتَ لهم. فحذف المسند وبقيت كلمة واحدة: {فَلَا فَوْتَ} . وهذه الكلمة تراها كالطود الشامخ، والحادث المنيع الذي

ص: 276

قضى على كل أمل لهم في الفوت والتفلت. ولا يخفى عليك ما في حذف جواب الشرط، وبناء الفعل: أخذوا للمجهول من إفادة التهويل والتفظيع.

ومن ذلك: قول الله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 49، 50) حيث أجاب السحرة وعيد فرعون وتهديده لهم بكلمة واحدة: {لَا ضَيْرَ} . أي: لا ضير علينا فيما تصنعه بنا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} . وهذا ينبئ بقوة الإيمان، وصدق اليقين إذا أجابوا توعده بكلمة واحدة، وكانت كالسهم النافذ الذي بدد كل وعيد وشتت كل تهديد.

وقد يأتي الكلام على الحذف، ثم تراه يحتمل أن يكون المحذوف هو المسند أو المسند إليه، على نحو ما ترى في قول الله تعالى:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) ففي هذه الآية الكريمة يحتمل أن يكون المحذوف المسند إليه، وتقديره: فصبري صبر جميل أو فشأني وأمري صبر جميل. ويحتمل أن يكون المحذوف المسند، وتقديره: فصبر جميل أولَى بي، أو فصبر جميل أجمل. والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه. وغير الجميل ما كان معه شكاية، ولكنه خير من عدمه. فيصح تفضيل الصبر الجميل عليه.

والأرجح، أن يكون المحذوف هو المسند إليه، إذ الآية الكريمة مسوقة لمدح يعقوب عليه السلام وحين يكون المحذوف والمسند إليه يكون الكلام دالًّا على حصول الصبر له. إذ التقدير: فأمري أو فصبري صبر جميل. أو على جعل المحذوف هو المسند، فليس في الكلام ما يدل دلالةً مباشرةً على حصول الصبر ليعقوب عليه السلام إذ تقديره: فصبر جميل بي أو فصبر جميل أجمل.

ص: 277

كذا ذكره سعد التفتازاني في (المطول).

ومن ذلك: قول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} (النور: 1) ويحتمل أن يكون المراد: هذه سورة أنزلناها. فيكون المحذوف هو المسند إليه، ويحتمل أن يكون: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. فيكون المحذوف هو المسند. وكذا قوله -جل وعلا-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} (النور: 53). هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرهم أن يخرجوا من أموالهم لخرجوا. فنزلت هذه الآية الكريمة: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} . وهي تحتمل حذف المسند إليه، فيكون المعنى: أمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة، أي: بأنها بالقول دون الفعل. وتحتمل حذف المسند، فيكون المعنى: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

وما من ريب في أن الكلام إذا احتمل حذف المسند أو المسند إليه يكون أوفر معنًى، وأغزر دلالةً؛ لأنه يحتمل وجهين. ووفرة التأويلات من فضائل الكلام الجيد. على حد ما ذكر الدكتور أبو موسى في (خصائص التراكيب).

هذا، وتقدير المحذوف أو القول بالحذف يحتاج من الدارس إلى تأمل دقيق ونظر واع؛ حتى لا يتناقض مع صحة المعنى واستقامته، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ} (النساء: 171) فالمراد: النهي عن التثليث. أي: لا تقولوا بالتثليث، انتهوا عنه يكن خير لكم؛ فالله واحد لا شريك له. الآية الكريمة فيها حذف، ويحتمل أن يكون المحذوف

ص: 278

المسند، والتقدير: لنا آلهة ثلاثة، أو في الوجود آلهة ثلاثة. فحذف المسند: لنا أو في الوجود، ثم حذف الموصوف: آلهة. فصارت الآية: {لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} . أو التقدير: لا تقولوا لنا، أو في الوجود ثلاثة آلهة. فحذف الخبر ثم التمييز المضاف إليه فصارت الآية:{لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} . ويحتمل أن يكون المحذوف المسند إليه، وتقديره: ولا تقولوا الله، والمسيح، وأمه ثلاثة. أي: لا تعبدوهما كما تعبدون الله، ولا تسووا بينهم في الرتبة والصفة. كقوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (المائدة: 73).

وذلك أنهم إذا أرادوا التسوية بين اثنين، قالوا: هما اثنان. . وإذا أرادوا إلحاق واحد باثنين، قالوا: هم ثلاثة. ولا يصح أن يكون التقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة؛ لأن في هذا التقدير تقرير لثبوت آلهة، إذ النفي إذا سلط على جملة لا يتوجه إلى أحد طرفيها وإنما يتوجه للحكم المستفاد من الطرفين. فإن قلتَ: ليس أمراؤنا ثلاثة. فإنك تثبت بهذا القول أن لكم أمراء وتنفي أن يكون عددهم ثلاثة، فجائز أن يكون عددهم أقل من ثلاثة أو أكثر؛ ولذا فإن التقدير: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة. فيه إثبات أن عدد الآلهة اثنان أو أكثر من ثلاثة، وهذا إشراك -والعياذ بالله-.

قوله الله عز وجل بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يناقضه. وتأمل معي، قول الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) في قراءة من حذف التنوين، تنوين عزير. فلا يجوز أن يقدر مسند محذوف، وأن تعرب:{عُزَيْرٌ} : مبتدأ، و {ابْنُ}: صفته. ويكون التقدير: عزير بن الله معبودنا. هذا خطأ وإشراك؛ لأن فيه إثبات وتقرير الصفة للموصوف، أي: صفة ابن الله ثابتة لعزير. ولا يخفى عليك ما في هذا من فساد. والصواب: أنه لا حذف في الآية، وأن:

ص: 279

{عُزَيْرٌ} : مبتدأ، وخبره:{ابْنُ اللَّهِ} ، وأن التنوين، تنوين عزير مراد لذاته، وقد حذف لالتقاء الساكنين أو أنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، كآزر.

كذا ذكره الخطيب القزويني في (الإيضاح).

وقد يحذف كل من المسند والمسند إليه، كما في قولهم: أهلك والليل. يريدون: الحق أهلك وبادر الليل؛ حتى لا يحول بينك وبينهم. فالمقام يقتضي السرعة الخاطفة؛ ولذا حسن حذف المسند والمسند إليه. ومن لطيف ذلك قول الله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} (النحل: 30) أي: أنزل ربنا خيرًا.

فحذف الفعل والفاعل، وحذفهما ينبئ بسرعة استجابة هؤلاء المتقين وقوة إيمانهم وامتثالهم لأمر ربهم. وفرق بين إجابة المتقين في هذه الآية، وإجابة الكفرة في قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النحل: 24) أي: ذلك أساطير الأولين. يقول الزمخشري في (الكشاف): فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلًا بين جواب المقر، وجواب الجاحد. يعني: أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينًا مكشوفًا مفعولًا للإنزال. فقالوا:{خَيْرًا} . أي: أنزل ربنا خيرًا. وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين. وليس من الإنزال في شيء.

ومثله: قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 23) أي: قال ربنا الحق. فحذف المسند والمسند إليه وهو الفعل والفاعل؛ إسراعًا إلى الإفصاح عن الجواب، إذ المقام مقام إيجاز، يتطلب أن تكون الإجابة إشارة أو لمحًا. كيف لا؟! وقد فزع عن قلوبهم من الكلمة الواحدة بل الإشارة في مثل هذا المقام تغني عن الكلمات الكثيرة. وتأمل قول الله

ص: 280

تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (الشمس: 11: 13) أي: ذروا ناقة الله واحذروا سقياها. تجد أن الحذف هنا ينبئ بلهفة صالح عليه السلام وشدة حرصه على هداية قومه ونجاتهم؛ ولذا صاح بهم محذرًا: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} .

وانظر إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر: ((ما تزوجتَ؟ فقال: ثيبًا. فقال صلى الله عليه وسلم: فهلَّا جارية تلاعبها وتلاعبك؟)). أراد عليه السلام: فهلَّا تزوجت جارية. فحذف الفعل والفاعل؛ لدلالة الكلام عليهما. وفي هذا الحذف تنقية للعبارة وتصفية لها مما أقيم عليه الدليل؛ حتى لا يكون ذكرُه عبثًا وفضولًا.

وقد يحذف المسند والمسند إليه ويقام المصدر مقامَهما، كما في قول الله تعالى:{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد: 4) أي: فاضربوا رقابهم ضربًا. فحذف الفعل وفاعله، وهذا الحذف يلائم السياق؛ إذ الضرب المأمور به هو الضرب السريع الخاطف فور اللقاء. وتأمل هذه الفاءات:{فَإِذا لَقِيتُمُ} ، {فَضَرْبَ} ، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا} (محمد: 4) وما تقتضيه من التعقيب والسرعة الخاطفة.

ومن حذف المسند والمسند إليه: حذف القول وفاعله، وهو كثير في كتاب الله تعالى. من ذلك: قوله -جل وعلا-: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الكهف:47، 48). أي: فيقال لهم: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} . ولعلك تشعر بما وراء هذا الحذف من تأنيب وتعنيف شديد، ويساعد في إبراز هذا التعنيف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:{وَعُرِضُوا} ، {جِئْتُمُونَا}. ومنه قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}

ص: 281