الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقول ابن الرومي:
وكالنار الحياة فمن رماد
…
أواخرها وأولها دخان
فتقديم المسند في هذه الشواهد وفيما جاء على شاكلتها أفاد التشويق إلى معرفة المسند إليه، والإفصاح عنه. ولا يخفى عليك القصر في البيت الأخير، أي: قصر الحياة على كونها نارًا لا استقرارَ فيها. ويفيد تقديم المسند أيضًا إشاعة روح التفاؤل كما في قول الشاعر:
سعدت بغرة وجهك الأيام
…
وتزينت ببقائك الأعوام
فالمسند، وهو الفعل سعدت، قد قدم ليفيد التفاؤل؛ لأنه من جنس السرور والسعادة، وكذلك تزينت، قدم على المسند إليه، والأعوام لنفس الغرض.
ومن أسرار تقديم المسند: إظهار التألم والتضجر. كما في قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
عدوًا له ما من صداقته بُد
إلى غير ذلك من الأغراض التي تقتضي تقديم المسند على المسند إليه.
المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم
ومن المباحث التي من المهم أن نعرض لها ونحن نذكر أحوال المسند: إتيانه مفردًا أحيانًا، وجملةً أحيانًا أخرى، وإيراده فعلًا أحيانًا، واسمًا أحيانًا أخرى.
فالمسند يرد مفردًا في نحو: محمد عالم، وزيد كريم. لمجرد الإخبار عن المسند إليه قد يرد جملة بها ضمير يعود إلى المبتدأ، وهذا الضمير ليس مسندًا إليه، نحو: محمد أبوه عالم، علي أجداده ملوك، وهذا المسند يسميه البلاغيون مسندًا سببيًا، أي: أن المسند إليه بسبب من المسند، ومرتبط به بروابط قوية.
وقد يرد المسند جملة بها ضمير يعود إلى المسند إليه متقدم، وهذا الضمير يكون مسندًا إليه أيضًا، نحو: محمد يعطي الجزيل، خالد يحمل السلاح، والمقام هو الذي يحدد نوع المسند الذي ينبغي على المتكلم أن يستعمله، فإذا أراد المتكلم مجرد الإخبار عن المسند إليه أورد المسند مفردًا، فيقول: محمد عالم، علي جواد. وإذا أراد وصله بآبائه، وأنه ورثه المآثر والأمجاد عنهم، أورده سببًا، فيقول: محمد أبوه كريم، وخالد آباؤه أبطال، وهكذا.
وإذا أراد تقوية الحكم أورده جملة غير سببية، فيقول: محمد يعطي الجزيل، خالد يجود بماله، هم يضربون الكبش، إلى آخر ذلك.
ويرد المسند فعلًا وقد يأتي اسمًا، إذ لا يخفى عليك الفرق بين الاسم والفعل، الفعل: يدل على حدث وقع في زمن، نحو: قام، ويقوم. والاسم: يدل على حدث مجرد من الزمن، نحو: قائم، وذاهب، وراكع، وساجد، كما أن الفعل المضارع يفيد: الثبوت والتجدد، والاسم يفيد: الثبوت والدوام، نحو: زيد ينطلق وزيد منطلق. فالأول: أفاد انطلاقًا يتجدد، والثاني: أفاد انطلاقًا ثابتًا. ولذا؛ فإن المتكلم عندما يورد المسند فعلًا، هو يقصد إما تقييده بأحد الأزمنة، نحو: فاز المجد، ويجاهد الجندي.
فالأول: أفاد حدوث الفوز في الزمن الماضي، والثاني: أفاد حدوث الجهاد في زمن الحال، واستمرار حدوثه في الزمن المستقبل، وأما إفادة الحدوث والتجدد، فذلك إنما يكون في الفعل المضارع، فهو يفيد التجدد الاستمراري بمعونة السياق وقرائن الأحوال.
وغالبًا ما يكون ذلك في مقامات المدح والفخر، وانظر مثلًا إلى قول طريف بن تميم:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة
…
بعثوا إليَّ عريفهم يتوسم
العريف: هو القيم الذي يقوم بأمر القوم، يقول: إنه شجاع مِقدام، له موقف مع كل قبيلة، فالقبائل جميعها تطلبه، وكلما وردت سوق عكاظ قبيلة بعثوا عريشهم يتفرس الوجوه، ويتوسمها؛ لعله يهتدي إليه فيثأر منه، وتلاحظ أن الشاعر قد استخدم الفعل المضارع يتوسم؛ لإفادة التجدد والحدوث. فالعريف دائم المراجعة والتأمل، وإعادة النظر في وجوه القوم، يحدث منه التوسم شيئًا فشيئًا، ولو قال: بعثوا إليَّ عريفهم متوسمًا لَمَا تحققت هذه الإفادة، ولما كان هناك إشعار بحالة التجدد هذه.
ومن ذلك: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 3). فالرزق من الله متجدد مستمر، يتجدد بتجدد العباد، لا ينقطع ولا يزول. وهذا يلائمه التعبير بالفعل:{يَرْزُقُكُمْ} ، ولو قيل: هل من خالق غير الله رازقكم، لما أفيدت هذه الإفادة.
ومنه: قول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد: 39). وقوله عز وجل: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (ص: 18). فالمحو والإثبات يتجددان، وهما مستمران. وتسبيح الجبال يحدث آنًا بعد آن، ويقع حينًا بعد حين، وهذا يناسبه التعبير بالفعل الذي آثره النظم الكريم:{يَمْحُو} ، {يُثْبِتُ} ، {يُسَبِّحْنَ} .
وعندما يورد المتكلم المسند اسمًا فإنه يقصد به إفادة الثبوت والدوام، وذلك يكون بمعرفة السياق وقرائن الأحوال. إذ الاسم يدل على الحدث مجردًا من
الزمان، والمتكلم قد يسوقه في سياق ترشد قرائنه إلى إفادة الثبوت والدوام والاستمرار، انظر مثلًا وتأمل إلى قول النضر بن جؤبة:
قالت طريفة ما تبقى دراهمنا
…
وما بنا سرف فيها ولا خرق
إنا إذا اجتمعت يومًا دراهمنا
…
ظلت إلى طرق الخيرات تستبق
لا تألف الدرهم المضروب صرتنا
…
لكن يمر عليها وهو منطلق
والدرهم المضروب: هو المسبوك هنا تجد أن الشاعر يمدح قومه بالكرم والعطاء، فهم لا يبقون من المال بقية، وصرتهم لا تألف الدرهم، وإنما يمر عليها الدرهم منطلقًا ومندفعًا إلى الخيرات. مثل هذا المقام، يلائمه التعبير بالاسم: منطلق؛ لأنه يفيد انطلاق الدرهم انطلاقًا ثابتًا ومستمرًا، ولو قال: يمر عليها وهو ينطلق، لكان المعنى: أن انطلاقه يتجدد، وهذا يعني: أنهم يمسكونه زمنًا ما. ولا يخفى عليك عدم مناسبة ذلك لمقام المدح.
والبيت يروَى برفع الدرهم وبنصب الصرة، وبنصب الدرهم، ورفع الصرة. والرواية الثانية أبلغ؛ لأنها تدل على غِناهم، وأن الدراهم تمر، والصرة لا تألفها. أما الرواية الأخرى: ففيها إيهام أنهم فقراء، وأن الصرة خالية لا يألفها الدرهم المضروب، وخذ عندك قول الله تعالى:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (الكهف: 18) إذ لا يخفى عليك ما يفيده الاسم هنا: {بَاسِطٌ} من ثبوت البسط ودوامه واستمراره، وأنه لو قيل: يبسط ذراعيه، لما أدَّى هذا الغرض. وتأمل مع ذلك قول الله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} (الملك: 19) إنك تجد أنه لما كان الأصل في الطيران هو صف الأجنحة، فقد عبر عنه بالاسم الذي يفيد الثبوت والدوام، ولما كان القبض طارئًا على البسط فقد عبر عنه بالفعل الذي يفيد الحدوث والتجدد.
يقول الزمخشري: فإن قلت: لما قيل: {وَيَقْبِضْنَ} ولم يقل: قابضات، قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك. فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى: أنهم صافات، ويكون منهن القبض تارة، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح. وكذا ذكره صاحب الكشاف.
والجملة في هذا الحكم كالمفرد، فإذا كان الاسم يفيد الثبوت والدوام في نحو قولك: زيد منطلق، وكذلك الجملة الاسمية. وإذا كان الفعل يفيد التجدد والحدوث في نحو قولك: ينطلق زيد، فكذلك الجملة الفعلية. ولكون الجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام كانت آكد من الجملة الفعلية، ومن أجل هذا فإنه يحسن إيثار التعبير بالجملة الاسمية في المقامات التي تتطلب التأكيد، تأمل قول الله تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14). تجد أن المنافقين لكونهم قد أظهروا الإيمان؛ خوفًا ومداراةً للمؤمنين وليس عن يقين راسخ وثابت. وقد عبروا عنه بالجملة الفعلية: {آمَنَّا} ، ولما كان الكفر ثابتًا وراسخًا في عقولهم قد خاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية المؤكدة:{إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .
وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (الأعراف: 193) كان الوثنيون الذين عبدوا الأصنام من عادتهم أنهم لا يدعون تلك الأصنام إذا نزلت بهم شدة، بل يدعون الله. وإذا ناسب التعبير عن صمتهم في الجملة الاسمية المفيدة للثبوت والدوام، وتأكيد الحكم، ولما كان الدعاء غير معتاد، فقد عبر عنه بالجملة الفعلية التي لا تفيد ثبوتًا. والمراد: سواء عليكم أأحدثتم الدعاء على غير عادة أم بقيتم مستمرين على عادة صمتكم.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (هود: 69). فالأصل: نسلم سلامًا، فقال: سلام عليكم. تلاحظ أن تحية إبراهيم عليه السلام جاءت بالجملة الاسمية، وتحيتهم جاءت بالجملة الفعلية، وكأنه عليه السلام أراد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه به؛ أخذًا بآداب التحية في قول الله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86). وخذ قول الله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (االأنبياء: 55). أرادوا: أحدث منك مجيء بالحق، ولم تكن كذلك، أم أنت مستمر في لعبك الذي عهدناه فيك. عبروا عن مجيئه بالحق بالفعل الذي يفيد التجدد، وعن اللعب بالجملة الاسمية التي تفيد تأكيد لعبه واستمرار أحوال لهوه في اعتقادهم. ولا يخفى عليك ما وراء ذلك من عنادهم وإعراضهم عن الإذعان للحق وقبول الهداية.
ومثال ذلك أيضًا: قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8). فقولهم: {آمَنَّا} إخبار بوقوع الإيمان وإحداثه، ولكونهم كاذبين في دعواهم، فقد نفاها الله عز وجل بالجملة الاسمية المؤكدة:{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} . وقوله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (المائدة: 37). فقد أرادوا حدوث خروج، فأجيبوا بدوام البقاء واستمرار العذاب.
ومن ذلك: قوله أيضًا: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) حيث عبر عن الصادقين بالفعل؛ لأنهم يحدثون صدقًا بعد صدق في كل موطن، وعبر عن الكاذبين
بالاسم؛ لأن ما صدر منهم كذب مستمر، وجارٍ على عادتهم الدائمة المستمرة، وناشئ عن رسوخ في الكذب والثبات.
هذا وقد اهتم البلاغيون بتقييد الفعل بأدوات الشرط: "إن" و"إذا"؛ لما يكمن وراء تقييد المسند: وهو الفعل بهما من اعتبارات بلاغية وملاحظات دقيقة.
قال البلاغيون: إنّ "إنْ" و"إذا" للشرط في الاستقبال بمعنى: تقييد حصول الجزاء على حصول الشرط في الاستقبال، نحو: إن تزرني أكرمك، إذا جاءك الفقير فأحسن إليه. وتختلف "إن" عن "إذا"، في أن "إذا" تستعمل في الشرط المقطوع لقبوله، وذلك بأن يكون الشرط مجزومًا بوقوعه في المستقبل، نحو: إذا غربت الشمس حل الظلام، إذَا أذن المؤذن أسرع المسلم للصلاة، أو يظن ظنًّا قويًّا وقوعه فيه، نحو: إذا جئتني أكرمتك، إذا كنت تعتقد اعتقادًا قويًّا أنه سيأتي، وترجح مجيئه على عدم مجيئه، ولذا كان الغالب في الفعل المستعمل مع "إذا" أن يكون بلفظ الماضي؛ للإشعار بتحقيق الوقوع، أما "إنْ" فتستعمل في الشرط غير المقطوع بوقوعه، بأن يتردد في وقوعه في المستقبل، أو يُظن عدم وقوعه، ويترجح على الوقوع، أو يكون مما لا يقع إلا نادرًا، كما سنرى في الشواهد.
فإذا كان الشرط مجزومًا ومقطوعًا بعدم وقوعه في المستقبل فلا تُستعمل فيه "إن" ولا "إذا" إلا لنكتة بلاغية، وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} (الأعراف: 131). تلاحظ أنه قد استعملت "إذا" في جانب الحسنة، و"إن" في جانب السيئة؛ وذلك لأن مجيء الحسنة أمر مقطوع به محقق الوقوع، إذ المراد بالحسنة الحسنة المطلقة عن التقييد بنوع معين؛ ولذا عُرِّفت تعريف الجنس لتشمل كل فرد من أفراده، وكل نوع من أنواع الحسنات، وشأن هذا أن يقع كثيرًا؛ لاتساعه، وكثرة أفراده
وأنواعه، ولكون مجيء الحسنة محققًا ومقطوعًا بوقوعه، فقد عبر عنه بلفظ الماضي:{جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} ، أما إتيان السيئة فغير محقق الوقوع، إذ نادرًا ما تقع السيئة بالنسبة إلى الحسنة؛ ولذا استعملت "إنْ" معها، ونكِّرت السيئة؛ لإفادة التقليل، فعبر عن الإصابة بلفظ المضارع:{تُصِبْهُمْ} المشعر لعدم تحقق الوقوع.
وتأمل قول الله تعالى في آية أخرى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم: 36). تجد أنه نكرت الرحمة: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} ، وعبر عن الإذاقة بالماضي:{أَذَقْنَا} ، واستعملت "إذا"؛ وذا للدلالة على أن إذاقة الناس قدرًا قليلًا من الرحمة أمر مقطوع به، ثم استعملت "إن" والمضارع:{تُصِبْهُمْ} ، ونكرت السيئة {تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ؛ لإفادة أن إصابة السيئة لهم أمر غير مقطوع به، فالله عز وجل لا يؤاخذهم بما كسبوا بل يعفو عن كثير:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (فاطر: 45).
وتأمل معي قول الله تعالى: {إِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الروم:33، 34)، وتأمل مع ذلك قوله عز وجل:{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فصلت: 51) تجد أن قوله -عز من قائل-: {أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} ، {أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ} مقطوع بوقوعه، وهذا واضح كما بينا في الآيتين السابقتين؛ ولذا استعملت إذا في الموضعين، أما قوله تعالى:، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} (المعارج: 20). قد يلتبس عليك التعليق بـ"إذا" فيهما، وتقول: إن مس الضر أو الشر ينبغي أن
يكون نادرًا وغير مقطوع بوقوعه، فالموضع هنا موضع إن لا إذا، ولكن هذا الالتباس سرعان ما يزول عندما تتأمل السياق في الآيتين، وتعرف أن الحديث عن الإنسان الكافر الذي إذا مسه شر أو ضر دَعَا ربه منيبًا إليه، دعاه دعاءً عريضًا، فإذا ما أنعم الله عليه أعرض ونأى بجانبه وكفر بأنعم ربه. ولهذا توعدهم الله عز وجل:{فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 55).
فمثل هذا الكافر ينبغي أن يكون مس الضر أو الشر له في حكم المقطوع به، وتلاحظ التعبير بلفظ المس في الآيتين هو أقل من الإصابة أو الإذاقة، ثم تنكير الضر وتعريف الشر بـ"أل" الجنسية المفيدة أي نوع من أنواع الشر، فإذا ما أضفتَ ذلك إلى الإنسان المتحدث عنه، وقد وقفت على حقيقته تيقنت أن الشرط ينبغي أن يكون مجزومًا به ومقطوعًا بوقوعه.
وعندما تتأمل الشعر الجيد، تجد للتعليق بهاتين الأداتين موقعًا لطيفًا، ومذاقًا حلوًّا. اقرأ مثلًا قول أبي الطيب المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أكرمت اللئيم تمردا
تجده قد استخدم إذا في جانب إكرام الكريم، فدل على أنه أمر محقق، وينبغي أن يوجد دائمًا وأن يقع كثيرًا، ثم استخدم إن في جانب إكرام اللئيم، فدل على أنه نادرًا ما يقع؛ لأن النفوس تنفر من اللئام وتأبَى إكرامهم.
واقرأ قول الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) وقوله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (النصر: 1: 3) تجد التعليق بـ"إذا" في الأداتين أفاد تحقيق وقوع الشرط، فزلزلة الأرض وإخراجها أثقالها في ذلك اليوم
من الأحداث الثابتة المحققة، ومجيء نصر الله الذي وعد به سبحانه وتعالى حق ثابت لا ريب فيه، ولا يتردد في إثباته مؤمن، فقد جاء كما وعد -جل وعلا-.
وخذ قوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (آل عمران: 111). وقوله عز وجل: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (الممتحنة: 2) وقد أفاد التعليق بـ"إن" ضعف شوكة الكفرة، وعدم جرأتهم على قتال المؤمنين؛ فقتالهم أمر نادر الوقوع غير مقطوع به، وكذا الظفر بالمؤمنين، أي: ظفر هؤلاء الأعداء بالمؤمنين أمر غير محقق وغير مقطوع به: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} (الممتحنة: 2) أي: يظفروا بكم، ثم تأمل قوله:{وَوَدُّوا} بالماضي عطفًا على المضارع: {يَكُونُوا} و {يَبْسُطُوا} ، وما ينبئ به استعمال الماضي في موضع المضارع من رغبة الكفرة وتمنيهم وحرصهم الشديد على أن يتحقق هذا الفعل. كأنه قيل: ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم عن دينكم، هم يتمنون لكم مضار الدنيا والآخرة من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردكم كفارًا، وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.
هذا هو رأي الزمخشري، ويرى الخطيب: أن: {وَوَدُّوا} ليس معطوفًا على الجزاء، بل هو معطوف على الجملة الشرطية، كما في عطف:{ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (آل عمران: 111) في الآية السابقة؛ وذلك لأنه ليس في تقييد: {وَوَدُّوا} بالشرط فائدة؛ إذ ودادتهم أن يرتدوا كفارًا حاصلة، وإن لم يظفروا به.
ذكر ذلك الخطيب القزويني في كتاب (الإيضاح).