الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا؛ وما يسري على المسند إليه من تنكير للأغراض البلاغية -السالف ذكرها- يسري على غيره فكثير من الأغراض التي ذكرناها لتنكير المسند إليه تأتي في غيره كما في قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} (الزمر: 29) فالمضروب به المثل في الموضوعين فرد من أفراد الرجال، وهو غير مسند إليه فيهما.
ومن تنكيره لإفادة النوعية قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) فليس المراد مطلق حياة، إذ لا معنى لأن يحرص الإنسان على شيء قد استوفاه بالفعل إنما يحرص على شيء لم يحصل له بعد، فالمراد إذن نوع خاص من الحياة وهو الحياة الممتدة الزائدة، وكأنه يقول: ولتجدنهم أحرصَ الناس وإن عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضيهم وحاضرهم حياةً مستقبلة ً؛ ولهذا نكَّر لفظ الحياة؛ للدلالة على هذا النوع منها وهو غير مسند إليه وهكذا.
توابع المسند إليه
هذا؛ وقد عرض الخطيب القزويني وسائر علماء البلاغة لتوابع المسند إليه، يستجلون أسرارها ويستنطقونها، ويستخرجون منها ما فيها من وجوه بلاغية، وهذا من ثم يستوجب البحث عن شيء من سر بلاغة هذا حتى نلمَّ بهذا الباب من أبواب البلاغة.
فقد يتبع المسند إليه بتابع كالوصف والبدل والتوكيد والعطف وذلك لغرض يقصد إليه البلاغي، وشأن المسند إليه في هذا شأن غيره من أجزاء الجملة كما لا يخفى عليك أن الأحوال التي ذكرناها للمسند إليه تجري أيضًا على غيره من أجزاء الكلام.
ولنبدأ حديثنا عن الوصف:
يوصف المسند إليه أو المسند أو أحد متعلقات الفعل بدواع بلاغية كثيرة؛ منها: أن يكون الوصف مفسرًا وكاشفًا عن معنى الموصوف كما في قول أوس بن حجر يرثي نضارة بن كِلدة:
أيتها النفس أجملي جزعًا
…
إ ن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع الشجاعة والنـ
…
جدة والبِر والتقى جمعا
الألمعي الذي يظن به الظـ
…
ن كأن قد رأى وقد سمعا
أودَى فلا تنفع الإشاحة من
…
أمر لمرء يحاول البدعا
فقول: الألمعي، صفة كاشفة وموضحة للمسند إليه الذي جمع الشجاعة والنجدة والبر والتقى؛ ولذا حكي أن الأصمعي لما سئل عن الألمعي أنشد تلك الأبيات ولم يزد، واقرأ في ذلك إن شئتَ قول الله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19 - 21) ف قوله: {هَلُوعًا} حال من نائب الفاعل وهو وصف كاشف ومفسر وموضح لحقيقة الإنسان، يقول الزمخشري: الهلع سرعةُ الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم: ناقة هلوع؛ أي: سريعة السير، وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلعُ؟ قلت: قد فسره الله تعالى.
ومنها أن يكون الوصف مخصصًا للموصوف، ومعنى تخصيصه له تحديده ورفع احتمال غيره في المعارف وتقليل الاشتراك في النكرات، كقولك: زيد التاجر حضر، ومحمد العالم ذهب، ورجل فقير عندي، وامرأة مؤمنة تزوجت.
ومنها أن يكون الوصف مشعرًا بمدح كما في قول الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) وقوله عز وجل: {اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (الحشر: 24)
وقوله -جل وعلا -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) أو بذم كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) أو تأكيد لإظهار الفرح والسرور أو التأسف ونحو ذلك كقولك: أمس الدابر كان يومًا عظيمًا.
ومنها: أن يكون الوصف بيانًا للموصوف ومحددًا للمراد منه كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل: 51) وذلك أن الاسم النكرة الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين؛ الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما والذي سِيق له الحديث هو العدد، شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد، لم يحسن وخيل أنك تثبت الألوهية لا الوحدانية. وكذا إذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما الجنسية شفع بالصفة التي تبين ذلك، كما في قول الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38) فقد شفع لفظ {دَابَّةٍ} بـ {فِي الْأَرْضِ} ولفظ: {طَائِرٍ} ب ـ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} لبيان أن القصد بهما إلى الجنسية لا إلى العدد، وفي ذلك زيادة لمعنى التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة قط في جميع الأراضين السبع، ولا طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.
ومنها إفادة الترحم وطلب المغفرة كما في قول الشاعر:
إلهي عبدك العاصي أتاك
…
مقرًّا بالذنوب وقد دعاك
فقد وصف العبد التائب المقر بالذنوب بالعاصي؛ استعطافًا وطلبًا للمغفرة والرحمة.
هذا؛ وعندما تقع الجملة صفة للنكرة يشترط فيها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر، فلا يستقيم أن ت ك ون إنشائية، أما قول عبد الله بن رؤبة التميمي:
حتى إذا جن الظلام واختلط
…
جاءوا بمَزق هل رأيت الذئب قط
جن الظلام؛ أي: أقبل أوله واختلاطه إنما يكون بعد ذهاب نور النهار كله، والمزق هو اللبن المخلوط بالماء، وهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والشاعر يصف قومًا أضافوه فأطالوا عليه ثم أتوه بهذا المزق، فمعناه جاءوا بمزق يقال عند رؤيته: هل رأيت الذئب قط؟ فالجملة الاستفهامية ليست صفة وإنما هي مقول للصفة المحذوفة كما هو واضح.
من التوابع التأكيد:
يؤكد المسند إليه وكذا المسند أو أحد متعلقات الفعل ليتحقق بهذا التأكيد أغراض بلاغية يقصد إليها المتكلم؛ منها إبراز المؤكد وزيادة تقرير المعنى في ذهن السامع كقولك: هو يعطي الجزيل ويدفع الشدائد، فتقديم المسند إليه على خبره الفعلي في المثالين قد أفاد تأكيد المعنى وتقريره وإبراز المسند إليه لوقوعه في ابتداء الكلام، فانشغل الذهن به وتطلع إلى خبره، وأيضًا ب تكرير الإسناد؛ لأن الفعل أسند إلى الضمير المذكور مرتين؛ مرة باعتباره مبتدأً ومرة باعتباره فاعلًا.
ومنها: أيضًا دفع توهم التجوز كقولك: قطع الأمير نفسه السارقة، فلو لم تقل: نفسه، لجاز أن يتوهم أن القاطع غيره بأمره على ما جرت به العادة في ذلك.
ومنها: دفع توهم السهو كقولك: نجحت أنا، وأقبل زيد زيد، وجاءني محمد محمد، وقلت أنت هذا القول؛ فهذا التأكيد يدفع توهم السامع أن المتكلم سَهَا في إثبات الحكم لغير ما هو له.
ومنها: دفع توهم عدم الشمول كقولك: عرفني الرجلان كلاهما، وجاءني القوم كلهم؛ فإنك لو قلت: عرفني الرجلان وجاءني القوم بلا تأكيدـ لتوهم أن أحد الرجلين هو الذي عرفك وأن بعض القوم قد جاء والبعضُ لم يأت ِ، ولكنك لم تعتد بمن لم يعرفك ولا بمن لم يأت فأطلقت الكل وأردت البعض على سبيل المجاز، ودفعًا لهذا التجوز وهذا التوهم جاء التوكيد لإفادة الشمول والعموم، ومن ذلك قول الله تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (آل عمران: 93) وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} (طه: 56) وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 41، 42) وقوله تبارك وتعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (الحجر: 30، 31).
ولا يخفى عليك ما في الآية الأولى من إشارة إلى عظم النعمة، حيث أحل لهم كل الطعام، كما لا يخفى عليك ما في الآيات الأخرى من إشارة إلى فظاعة تكذيب فرعون وقومه، فقد كذبوا بالآيات كلها وإلى فظاعة استكبار إبليس اللعين حيث سجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا هو أبى واستكبر وكان من الكافرين.
هذا؛ ولفظ كل تارة يقع تأكيدًا وذلك عندما يستخدم مع المعارف كما في الشواهد المذكورة، ومعنى وقوعها تأكيدًا: أن الشمول مفاد بدونها فهي تأتي لتوكيده ودفع توهم غيره -كما رأيت - وتارة تقع تأسيسًا وذلك عند إضافتها إلى النكرات كما في قول الله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وقوله عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}
(الإسراء: 12) وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (الأنبياء: 96) ومعنى وقوعها تأسيسًا: أنها هي التي تفيد الشمول وتؤسسه فهو لا يفاد أصلًا إلا بها، وهذا واضح في الآيات الكريمة؛ إذ بدون "كل" لا تجد فيها شمولا.
من التوابع أيضًا عطف البيان:
ويقصد البلاغي إلى عطف البيان لأغراض بلاغية، أهمها إيضاح المعطوف عليه باسم مختص به كقولك: قدم صديقك خالد، فخالد عطف بيان للصديق فقد أوضحه وبينه؛ لأن المخاطب له أصدقاء كثيرون فعندما تقول له: جاء صديقك لا يدري أيهم، وعندما تقول: خالد، لقد وضحت وبينت إذا حصرت المجيء في خالد دون غيره من الأصدقاء.
وقد يكون عطف البيان غير مختص بمتبوعه، ولكن يحصل الإيضاح والاختصاص بمجموعهما كما في قول الشاعر:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها
…
ربان مكة بين الغَيل والسند
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
…
إذن فلا رفعتَ صوتًا إلي يدي
والمؤمن الواو هنا للقسم، والمراد بالمؤمن الله عز وجل والعائذات جمع عائذة من العوذ وهو الالتجاء وتعرب مفعولًا به للمؤمن أو مضافًا إليه، وللطير عطف بيان على العائذات، والغيل بفتح الغين وسكون الياء، والسند ب فتح السين والنون موضعان في جانب الحرم فيهما الماء، وجواب القسم قوله: ما إن أتيت بشيء، وإنَّ فيه زائدة للتأكيد.
والمعنى: والله الذي آمن الطير الملتجئة للحرم، والساكنة به للأمن من الاصطياد والأخذ، وقد حصل لها ذلك؛ إذ لا يجوز لأحد أخذها، بل الركبان القاصدون مكة المارون بين الغيل والسند تمسحها ولا تتعرض لها؛ فالطير عطف بيان للعائذات وهو غير مختص بها؛ لأن العائذات صادق على الطير وعلى غيره مما يعوذ بالحرم ويؤمنه الله سبحانه وتعالى فيه، وعند التأمل تجد أن عطف البيان في المثال الأول غير مختص أيضًا بمتبوعه؛ لأن الصداقة تطلق على خالد وعلى غيره؛ ولذا فالمهم أن يكون عطف البيان أخص من متبوعه؛ حتى يتحدد ويتضح ذلك المتبوع في ذهن السامع عندما ينصرف إلى تابعه.
ومنها: مدح المتبوع والدلالة على عظم شأنه كما في قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (المائدة: 97) فالبيت الحرام عطف بيان للكعبة قصد به المدح والدلالة على عظم شأنها لا الإيضاح؛ لأن الكعبة أظهر من نار على علم، فليست في حاجة إلى إيضاح وبيان، وكان البيت الحرام مدحًا وتعظيمًا؛ لأن فيه دلالةً على أن هذا البيت موصوف بالحرمة والاحترام والمنع من كل امتهان وانتهاك.
ومنها: ذم المتبوع والدلالة على حقارته كما في قول الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} (إبراهيم: 15 - 17) فالصديد بيان للماء قصد به الذم والدلالة على حقارته وامتهانه وقبحه؛ وذلك حتى ينزجر ذلك الجبار ويقلع عن عناده.
ومن التوابع البدل:
ويقع الإبدال من المسند إليه أو المسند أو أحد المتعلقات لأغراض بلاغية يقصد إليها المتكلم ويقتضيها المقام، أهمها زيادة التقرير والإيضاح؛ كقولك: جاء زيد
أخوك، فأخوك بدل من زيد، وقد دل على تقريره وإبرازه؛ لأن مفهومه هو مفهوم زيد، ومنه قول الله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6، 7) فصراط الذين أنعمت عليهم بدل من: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وفيه بيان وإيضاح وزيادة تقرير لكون الصراط المستقيم هو صراط المنعم عليه بالإيمان والرضوان.
ومنها: التفصيل بعد الإجمال، والإيضاح بعد الإبهام؛ كما في قول الله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (الفرقان: 68، 69) ف قوله: {يَلْقَ أَثَامًا} فيه إجمال للعقاب، وقوله بعده:{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} بدل من القول الأول وفيه تفصيل وإيضاح لما أجمل فيه.
ولا يخفى عليك ما للبيان والتفصيل بعد الإجمال من وقع في النفس؛ لأنه عند الإجمال تتطلع النفس وتستشرف إلى التفصيل، فعندما يأتي التفصيل يكون له وقعه وأثره، حيث أتى والنفس إليه متطلعة وله مترقبة، ومنه قول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
…
ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت
ف في قوله: ذي رجلين إبهام وإجمال أزاله ووضحه البدل في قوله: رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت، ومثله قول الآخر:
بلغنا السماء مجدنا وثناؤنا
…
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وفي قوله: بلغنا، إجمالًا، وقد جاء البدل مجدنا وثناؤنا مفصلًا وموضحًا لهذا الإجمال، ولا يخفى عليك أن البدل في البيت الأخير بدل اشتمال، وفي الشواهد السابقة بدل مطابق، ومن بدل الاشتمال أيضًا قولُك: سلب عمرو ثوبه، وأعجبني المعلم علمه، والغرض البلاغي من البدل في المثالين هو الإيضاح هو
التفصيل بعد الإبهام والإجمال؛ لأن قولك: سلب عمرو، وأعجبني المعلم فيه إبهام وإجمال يظل معه المخاطب متعلقًا إلى إيضاحه ومستشرفًا إلى تفصيله؛ وعندئذ يأتي البدل ثوبه وعلمه موضحًا ومبينًا، فيقع المعنى في النفس موقعًا حسنًا ويثبت فيها ويرسخ.
ومن بدل البعض قولك: جاءني القوم أكثرهم وفيه -كما ترى- زيادة إيضاح وتقرير وبيان لما في المسند إليه وهو القوم من إجمال.
ومن الأغراض البلاغية للبدل القصد إلى المبالغة والتفنن في بناء العبارات، ويكثر هذا في بدل الغلط كما في قول البحتري:
ألمع برق سرى
…
أم ضوء مصباح
أم ابتسامتها
…
بالمنظر الضاحي
حيث أراد المبالغة في وصف الابتسامة ومدى وقعها عليه فتفنن في العبارة كما ترى، ومنه أيضًا قوله أيضًا في وصف الإبل الأمضاء:
كالقسي المعطفات
…
بل الأسهم مبرية بل الأوتار
فقد قصد إلى المبالغة في وصف الإبل المهازيل، فتفنن في التشبيه مترقيًا عن طريق الإضراب من الدقيق إلى الأدق.
وبهذا يتضح لك أن نظرة البلاغي للتوابع تختلف عن نظرة النحوي، وما ذكرناه من كل الشواهد والأمثلة السابقة إنما هو على وجه التمثيل وإلا فالكلام في ذلك أكثر من أن تحصره محاضرة.
والبلاغي دائمًا ينظر إلى ما وراء هذه التوابع من دقائق وأغراض ومزايا جمالية، أما النحوي فينظر إلى أحكامها وكيفية استعمالها في الكلام؛ ولذا نجد النحوي مثلًا يسوي بين البدل المطابق وعطف البيان فيجعلهما شيئًا واحدًا، وليس الأمر
كذلك عند البلاغي، بل هما مختلفان ولكل منهما مقامات خاصة به ومقاصد يقصد إليها على نحو ما رأينا فيما سبق من شواهد.
من التوابع كذلك عطف النسق:
ويستخدمه البلاغي ليحقق أغراضًا بلاغية ومقاصد يقصد إليها، وهذه الأغراض تراها كامنة وراء حروف العطف؛ وهي الواو ثم والفاء ولا وبل ولكن وحتى وأو وما، وما بين تلك الحروف من فروق دقيقة، فالواو لمطلق الجمع، والفاء للترتيب مع التعقيب، وثم للترتيب مع التراخي، وبل للإضراب وصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر، ولا للعطف ونفي الحكم عما بعدها، ولكن عكس لا، وحتى للتدرج إلى الأعلى أو إلى الأدنى، وأو للتخيير أو للإباحة أو للشك أو للتشكيك؛ والبلاغي يستغل تلك المعاني ليحقق أغراضًا بلاغية يهدف إليها تقول مثلًا: جاءني زيد وعمرو وخالد، فتفيد تفصيل المسند إليه مع الإيجاز، حيث أفادت الواو اشتراك زيد وعمرو وخالد في المجيء؛ ففصلت المسند إليه وأغنت عن قولك: جاءني زيد وجاءني خالد وجاءني عمرو، وهذا هو وجه الإيجاز في المثال، وتأمل قول الله تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: 8) تجد أن: {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} قد ذكرَا مفصلين معطوفًا أحدهما على الآخر، ثم عطف عليهما بقية القوم إجمالًا:{وَجُنُودَهُمَا} ؛ وذلك لغرض بلاغي وهو أن فرعون وهامان كانَا السبب في الخطيئة دون جنودهما.
وتقول: جاء زيد فعمرو، فتفيد تفصيل المسند وهو المجيء مع الإيجاز والإنباء بالتعقيب؛ إذ المراد جاء زيد وجاء عمرو بعده مباشرة، وتقول: جاء زيد ثم عمرو، فتومئ إلى ما بين المجيئين من تراخ بالإضافة إلى إفادة التفصيل والإيجاز، وكذا تقول: اشتدت العاصفة ثم هدأت، مشيرًا بالحرف ثم إلى امتدادها، وأنها لم تكن إلا بعد زمن طويل، وقد تريد التدرج بالمعاني علوًّا أو دنوًّا، فتستعمل حتى في عطف تلك المعاني. انظر مثلًا إلى قول الشاعر:
قهرناكم حتى الكُماة فأنتم
…
تهابوننا حتى بنينا الأصاغر
حيث ارتفع بقهرهم إلى أعلاهم حتى الكماة، ثم انخفضت بهيبتهم إلى ما لا يخيف: حتى بنينا الأصاغر، وهذا معنى جميل وتموج رائع؛ إذ بدأ بالأدنى مرتفعًا بالقهر حتى انحدر بالإخافة منتهيًا إلى أدنى ما يمكن أن يخيف.
وقد يلجأ البلاغي إلى عطف النسق؛ ليرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب بأخصر طريق فيقول مثلًا: جاء زيد لا عمرو لمن اعتقد أنهما جاءا معًا، أو أن الذي جاء عمرو دون زيد، وكذا تقول: ما جاء زيد لكن عمرو وما جاء زيد بل عمرو، لمن اعتقد مجيئهما معًا أو مجيء زيد دون عمرو.
وقد يُراد بالعطف التشكيك كما في قول الشاعر:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
…
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقد عطف بأو ليشكك السامع وعندئذ ينظر في أمره ويتأمل حتى يصل إلى الخبر اليقين، ويعرف أفاجر الشاعر أم تقي.
وقد يراد به الإبهام استمالةً للمخاطب؛ وترغيبًا له في الحق والاهتداء كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24)
ومنه قول الشاعر:
نحن أو أنتم الألى ألفوا الحق
…
فبعدًا للمبطلين وسحقًا
فقد استخدمت أو للإبهام فلا يواجه الضال بضلاله، فيكون في هذا تنفير له من قبول الحق والهداية.
وبهذا يتضح لك أن البلاغي يجد في معاني حروف العطف وسائل لتحقيق مآربه وإبراز أهدافه البلاغية السامية التي يهدف إليها ويقصد.
تعقيب المسند إليه بضمير الفصل:
ونختم بتعقيب المسند إليه بضمير الفصل، وقد يعقب المسند إليه بضمير الفصل فيفيد ذلك القصر؛ أي: قصر المسند على المسند إليه كقولك مثلًا: زيد هو المنطلق، وخالد هو الذي يجود بماله، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (التوبة: 104) فالمعنى لا يقبل التوبة عن عباده إلا الله، أو يفيد قصرًا مسند إليه على المسند كقولك: الكرم هو التقوى والحسب هو المال؛ أي: لا كرم إلا بالتقوى ولا حسب إلا بالمال، وقد يكون ضمير الفصل لمجرد التوكيد؛ وذلك إذا كان القصر مفادًا بغيره ب أن تكون الجملة معرفة الطرفين مثلًا كما في قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 58) وقوله عز وجل: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) وقوله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (الحشر: 20).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.