الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن دواعي وأسرار تعريف المسند إليه بالعلمية قصد التسجيل على السامع؛ حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار كأن يقول القاضي مثلًا لرجل: هل أقر عمرو بذلك لزيد؟ فيقول الرجل: نعم، عمرو أقر بذلك لزيد، فيعيد المسند إليه باسمه ب قصد أن يسجل على السامع، فلا يتمكن من الإنكار بعد ذلك.
ومن الأغراض التي يعرف المسند إليه بالعلمية من أجلها قصد المتكلم التفاؤل مثل: سعد في دارك، أو قصد التطير مثل: السفاح في دارك أو في دار فلان، إلى غير ذلك من أسرار وأغراض ينشدها البليغ من وراء تعريف المسند إليه بالعلمية.
تعريف المسند إليه باسم الإشارة
نكات ودواعي تعريف المسند إليه بالإشارة:
يؤتَى بالمسند إليه اسم إشارة لأغراض بلاغية؛ أهمها: قصد تمييز المسند إليه أكمل تمييز؛ لأن اسم الإشارة يميز المشار إليه أكمل تمييز ويحدد المراد منه تحديدًا واضحًا؛ لأن التمييز الأكمل هو ما كان بالعين والقلب، ولا يحصل ذلك إلا باسم الإشارة، وهذا بالنسبة لما تحته من المعارف، ويكون الكلام في مقام لا يمكن فيه التعبير بما فوقه من المعارف، وأيضًا وجود ما هو أعرف منه لا ينافي أن يكون في اسم الإشارة خصوصية وهي تمييز المشار إليه أكمل تمييز يفوق فيها ما سواه؛ وذلك إذا كان المشار إليه حاضرًا محس ًّا بحاسة البصر أو منزلًا تلك المنزلة.
وعلى الرغم من أن هذه الخصوصية باسم الإشارة من معناه الأصلي، فهناك من المقامات ما يستدعي إبراز العناية بأمر المسند إليه وتقرير الحكم المحكوم به عليه وتأكيده، وخير ما يحقق هذا المطلوب تمييز المسند إليه أكمل تمييز؛ لذا يلجأ المتكلم في هذا المقام إلى تعريف المسند إليه بالإشارة ليتحقق لكلامه المطابقة لمقتضى الحال؛ نظرًا لهذه الخصوصية الكامنة في اسم الإشارة، نرى ذلك مثلًا في مقام المدح؛ لأن التمييز الأكمل أعون على كمال المدح وأدل على العناية بأمر ممدوح كقول ابن الرومي يمدح أبا الصقر الشيباني وزير المعتمد:
هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه
…
من نسل شيبان بين الضال والسلم
ويذكر أن الممدوح فذ في خلقه وخلقه لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء يعيشون بين أشجار الضال والسلم وهما نوعان من أشجار البادية، وهم يسكنون البادية وسكناها عند العرب يعني الوصف بالعز والمجد؛ لأنها لا تخضع لسلطان حاكم ولا تدين لسلطة قانون كما يوجد في الحضر؛ ولذا قال أبو العلاء المعري:
الموقدون بنجد النار بادية
…
لا يحضرون وفقد العز في الحضر
ومن تعريف المسند إليه باسم الإشارة في مقام المدح لتميزه أكمل تمييز قول الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
…
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فهنا يمدح الحطيئة هؤلاء القوم ويذكر أنهم أشراف ماجدون إن طلبوا مجدًا تلمسوه من أشرف السبل وأهداها، وأنهم أوفياء العهد لا يعرفون الغدر، وأنهم أقوياء العزيمة إن أبرموا أمرًا عقد عليه الخناصر فلا يتقاعسون.
والشاهد في البيتين تعريف المسند إليه بالإشارة؛ هذا في بيت ابن الرومي، وأولئك في بيت الحطيئة قصدًا إلى تمييزه أكمل تمييز لاقتضاء مقام المدح لهم.
ويمكن أن نعد من شواهد هذا الغرض أيضًا قول الفرزدق في علي بن الحسين سبق ذكره عندما تجاهله هشام بن عبد الملك:
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى آخر هذه الأبيات. فقد رد الفرزدق إنكار هشام بهذه الصفات وغيرها التي مدح بها علي بن الحسين في قصيدته، وجاءت مقررة مؤكدة بسبب تمييز المسند إليه أكمل تمييز، وذلك يرجع إلى تعريف المسند إليه بالإشارة وتكراره في الكلام الذي يشعر السامع أن هذه الصفات للم م دوح ذائعة شائعة فكيف يجهل الموصوف بها أو ينكر؟!
ويمكن أن نعد من شواهد هذا الغرض قول الشاعر:
وإذا تأمل شخص ضيف مقبل
…
متسربل سربال ليل أغبر
أومى إلى الكوماء هذا طارق
…
نحرتني الأعداء إن لم تنحر
فهنا يصف الشاعر ممدوحه بالجود، وأنه لا يرى شبح ضيف في جوف الليل إلا بادر إلى ناقته ينحرها لهم، وأومى تخفيف أومأ؛ أي: أشار، والكوماء الناقة الضخمة، والشاهد تعريف المسند إليه بالإشارة لتمييزه أكمل تمييز.
وأبين من ذلك قول الله تعالى في حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (النور: 12) قال: هذا، ولم يقل: هو؛ ليبرز المسند إليه ويحدده فيقع الحكم عليه بأنه إفك مبين بعد هذا التمييز والتجسيد، وفي ذلك كما يقول الدكتور أبو موسى في (خصائص التراكيب): كبير قدر من قوة الحكم وصدق اليقين من أنه إفك مبين.
وتأمل قوله عز وجل بعد ذلك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) تجد تميز الحدث وكمال إبرازه بالإشارة إليه أن نتكلم بهذا: {سُبْحَانَكَ هَذَا} ، قد جعل الحكم عليه بأنه بهتان عظيم يقع موقعه في الأنفس، ولا يخفى عليك ما وراء الإشارة من تحقير وإهانة لمن خاض في هذه الحادثة.
ومن دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة أيضًا قصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرًا ويفتخر عليه:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمع ت نا يا جرير المجامع
فهنا يخاطبه قائلًا: أولئك الذين عرفت ما لهم من القدر العظيم، وعلمت ما بلغوه من الشرف الرفيع، هم آبائي الذين أعتز بهم وأفخر، فهل تستطيع يا جرير ولن تستطيع أن تأتي بأمثالهم من آبائك إذا جمعتنا مجامع الفخر والمساجلة؟ فالأمر في قوله: فجئني؛ للتعجيز، والشاهد في البيت هنا أولئك آبائي حيث عرف المسند إليه بالإشارة؛ قصدًا إلى التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يدرك إلا المحس لحاسة البصر؛ لأن المشار إليهم غائبون لموتهم، وفي التعريف بالإشارة أيضًا تعظيم للآباء. وهذا سر آخر، ومعلوم أن النكات البلاغية لا تتزاحم.
ومن هذا قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة الموضوع للقريب، بيان ذلك: أن أسماء الإشارة -كما نعلم- منها ما هو موضوع ليشار به إلى القريب مثل قولك: هذا زيد، ومنها ما هو موضوع للبعيد مثل: ذلك عمرو، ومنها ما هو للوسط بين القرب والبعد مثل: ذاك بشر، فيعرف المسند إليه
بالإشارة للقريب بسر بلاغي يتمثل في تعظيمه؛ تنزيلًا لقربه من النفس منزلة قرب المسافة والمكانة؛ فيعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للقريب؛ تحقيقًا لهذا الغرض كما في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9) ووجه إفادة التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للقريب أن المحبوب يكون عادة مخالطًا للنفس، حاضرًا في الذهن، لا يغيب عن الخاطر، فإرادة تعظيمه يناسبها القرب المكاني.
وكما يعرف المسند إليه بالإشارة للقريب للتعظيم يعرف بها أيضًا بقصد التحقير؛ تنزيلًا لدنو منزلته وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة؛ فيعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للقريب؛ تحقيقًا لهذا الغرض، كما في قول الله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) وقد أشير إلى الحياة الدنيا بالقريب إشعارًا بهوانها وحقارتها، فلا ينبغي للمؤمن أن يجعلها غاية أو أن يتخذها هدفًا. من هنا قال صلى الله عليه وسلم:((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها جرعة ماء)) وكما في قوله تعالى حكايةً لقول المشركين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 36) مشيرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم قصدًا إلى إهانته في زعمهم -قبحهم الله -.
ومن هذا القبيل قول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
…
وذا يشج فلا يرثى له أحد
فقد عرف المسند إليه في الموضعين من البيت الثاني باسم الإشارة الموضوع للتحقير، ووجه دلالته على التحقير أن التحقير عادة لا يمتنع على الناس، بل
يكون قريب الوصول إليه مبتذلًا، فتحقيره حينئذٍ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير.
ومن التعريف باسم الإشارة الموضوع للقريب لقصد التحقير، هكذا نلحظ أن الإشارة للقريب كانت وسيلة للتعظيم في مواطن عديدة، ووسيلة للتحقير في مواطن أخرى، ولا ضير في ذلك، فالجهة منفكة والوجهة مختلفة.
ومن دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة الموضوع للبعيد، فما قلناه في التعريف باسم الإشارة الموضوع للقريب من حيث الدلالة على التعظيم أو التحقير نقوله كذلك في التعريف باسم الإشارة الموضوع للبعيد من حيث دلالته على تعظيم المشار إليه مرة في مقام، ول دلالته على تحقيره في مقام آخر.
ولكل دلالة وجهتها، فالجهة منفكة والوجهة مختلفة -كما قلنا آنفًا- ومن هذا المنطلق نجد تعريف المسند إليه بالإشارة للبعيد تفيد تعظيمه تنزيلًا لبعد درجته وعلو مرتبته منزلة بعد المسافة؛ ف يعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على قصد التعظيم، كما في قول الله تعالى حكايةً عن امرأة العزيز ردًّا على أولئك النسوة اللاتي لمنها:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يوسف: 32) لم تقل: هذا مع إنه قريب حيث كان حاضرًا في المجلس؛ رفعًا لمنزلته في الحسن، وتمهيدًا للعذر في الافتتان به.
ومثله قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) وقوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) ف تعريف المسند إليه فيهما بالإشارة للبعيد للدلالة على تعظيم شأنهما، ووجه الدلالة على
التعظيم أن العظيم عادة بعيد المنزلة عالي المكانة، وينزل البعد المعنوي هذا منزلة البعد الحسي الموضوع له اسم الإشارة؛ ولذلك يعبر عنه باسم الإشارة الموضوع للبعيد بعدًا حسيًّا، فيفيد البعد المعنوي المشعر بالتعظيم.
هذا؛ وكما يعرف المسند إليه بالإشارة للبعيد لقصد التعظيم يعرف بها أيضًا لقصد التحقير تنزيلًا لبعده عن ساعة الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة؛ فيعرف حينئذٍ بالإشارة من بعيد للدلالة على معنى التحقير، خذ مثلًا في ذلك قول الله تعالى:{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون:2، 3) وكما تقول لشخص يحضر مجلسك: ذلك الرجل وشَى بي عند الأمير، ووجه الدلالة هنا على التحقير أن الحقير عادة تنفر منه النفس، وهو بعيد عن القلب والخاطر لا يلتفت إليه لحقارته، فينزل هذا البعد المعنوي منزلةَ البعد الحسي الموضوع له اسم الإشارة، ولذلك يشار إليه بما يشار به إلى البعيد حسًّا؛ فتفيد الإشارة البعد المعنوي المشعر هنا بالتحقير.
ومن هذا القبيل قوله تعالى في شأن الناس يوم البعث بعد النفخ في الصور: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون: 102، 103) حيث نرى الإشارة إلى البعيد في الآية الأولى أفاد للتعظيم، وهي بعينها في الآية الثانية أفادت التحقير، لكن باعتبارين مختلفين، وفي ذلك يقول الخطيب القزويني في (الإيضاح) مع البغية: وربما جُعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} (البقرة: 1، 2) ذهابًا إلى بعد درجته ونحوه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} (الزخرف: 72) ولذا قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ولم تقل: فهذا وهو حاضر؛ رفعًا لمنزلته في الحسن، وتمهيدًا للعذر في الافتتان به، وقد يجعل ذريعة إلى التحقير كما يقال: ذلك اللعين فعل كذا.
ومن أسرار وأغراض تعريف المسند إليه بالإشارة قصد التنبيه إلى أن المشار إليه الموصوف بعدة أوصاف حقيق من أجل هذه الصفات لما يذكر بعد اسم الإشارة من جزاء، كما في قول الله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) بعد قوله عز وجل: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2){وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 4) فالمشار إليه في الآية بأولئك هم المتقون، وقد ذكر عقيبه أوصاف هي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق من الرزق والإيمان بما أنزل والإيقان بالآخرة، وإنما أشير إليهم بأولئك مع أن المقام للضمير لوجود مرجعه؛ تنبيهًا على أن المشار إليه م -وهم هنا المتقون- أحقاء من أجل الأوصاف التي وصفوا بها بما يذكر بعد اسم الإشارة من الجزاء؛ وهو الفوز بالهداية في الدنيا وبالفلاح في الآخرة.
ووجه تنبيه اسم الإشارة على أن المشار إليه حقيق وجدير بهذا الجزاء بسبب ما وصف به، هو أن اسم الإشارة موضوع للدلالة على المشار إليه، والمشار إليهم في الآية التي معنا هم الذوات مع ملاحظة الأوصاف السابقة؛ لأن كمال التمييز الدال عليه اسم الإشارة إنما يكون بمراعاة هذه الأوصاف، وتعليق الحكم على موصوف يشعر بغلبة الوصف، يعني: أن الأوصاف المذكورة هي العلة في استحقاقهم هذا الجزاء المتمثل هنا في الهداية والفلاح، أما الضمير فإنه لا يفيد مراعاة هذه الأوصاف في الغلبة وإن كانت موجودة؛ لأنه موضوع للذات المجردة عن أي اعتبار، لهذا كان المقام للإشارة لا للضمير.
ونظير ما جاء في صدر سورة البقرة بهذا الخصوص كثيرٌ في النظم القرآني ارجع إلى قوله تعالى مثلًا: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (المؤمنون: 10) في سورة البقرة: {أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 52) في سورة الرعد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} (الرعد: 5) وتأمل ما قبله وما بعده؛ ليتضح لك ما قلناه.
ويعرف المسند إليه بالإشارة أيضًا لقصد إبراز المعقول في صورة المُحَس؛ فإن المتكلم قد يعظم المعنى في نفسه حتى يخيل إليه أنه صار شيئًا محسًّا يشار إليه بالبنان؛ ف يعمد إلى تعريفه بالإشارة التي تجسد الأمر المعنوي وتبرزه في صورة مرئية مشاهدة، مثل قوله سبحانه على لسان المنكرين للبعث:{قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 82، 83).
وهذا الغرض لتعريف المسند إليه بالإشارة شائع ذائع في الشعر والكلام الجيد، وفي القرآن كثير، ولو رجعنا إلى آية الإفك التي استشهدنا بها على تمييز المسند إليه أكمل تمييز بواسطة تعريفه بالإشارة، لوجدنا الإشارة فيها أيضًا قد أبرزت الأمور المعنوية وجسدتها في صورة حسية.
ونظير ما سبق ما جاء في قول الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (النور: 44) فالإشارة قد أبرزت التقلي ب في صورة محسوسة مرئية ولكنها بعيدة؛ ذلك لأنه لا يأخذ العظة منها إلا النفوس المؤمنة القوية المهيأة للوعي والإدراك، ومثله قوله تعالى:{قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ومثله قوله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (يوسف: 37).
هذا؛ ومن مزايا اسم الإشارة أنك تجده في كثير من الأساليب يلخص الكلام، إذ يستطيع به المتحدث أن يطوي جملًا كثيرة ً، بل وربما صفحات كاملة دون حاجة
إلى إعادتها؛ لأن اسم الإشارة يقوم مقامَ هذه الإعادة ويغني عنها، وانظر مثلًا في ذلك إلى قول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء: 39) تجد أن اسم الإشارة: {ذَلِكَ} قد أغنى عن آيات عديدة حوت كثيرًا من الأوامر والنواهي، وهذا كثير في النظم الكريم وفي الأساليب الرفيعة، وهو لا يخفَى على الناظر الدقيق والمتأمل الواعي.
ومن مزايا اسم الإشارة أيضًا أنه يقوم مقام أدوات الربط، فَيَصِلُ بين الجمل المستأنفة والجمل المتقدمة على نحو ما نرى في الآيات الكريمة:{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 48، 49){إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ * هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (ص: 54، 55).
إلى غير ذلك من الأغراض والمزايا والمعاني اللطيفة التي تكمن وراء التعريف بأسماء الإشارة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.