الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(تقديم المسند إليه
، ومذاهبه)
تقديم المسند إليه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله؛ وبعد:
فيأتي البليغ بالمسند إليه مقدمًا لأغراض منها ما يلي:
أولها: كون التقديم هو الأصل ولا مقتضى للعدول عنه، وإنما كان الأصل في المسند إليه التقديم؛ لأن مدلوله الذات المحكوم عليها، والمسند هو الوصف المحكوم به، فهو مطلوب لأجل المسند إليه، ف تعقل الذات المحكوم عليها سابقٌ على تعقل الوصف المحكوم به ضرورةً؛ لأن الوصف إنما جاء لأجل الحكم به على الذات، وهذا وإن كان اعتبارًا نحويًّا لا ينافي أن يكون غرضًا بلاغيًّا إذا لم يعارض بغرض من أغراض التأخير مثل قولنا مثلًا: محمد حضر، ف قد قدم المسند إليه؛ لأن الأصل فيه هو التقديم؛ إذ هو المحكوم عليه بالحضور، فينبغي ذكرُه أولًا.
وإنما شرطوا في الجملة الاسمية عدم وجود نكتة أخرى تتطلب التأخير؛ لأن الأصالة وحدها نكتة ضعيفة لا تنهضه سببًا مرجحًا للتقديم مع وجود داعي التأخير، بحيث لو وجد لترجح التأخير على التقديم كما في الفاعل مثلًا، فإن الأصل فيه أن يقدم؛ لأنه الذات المحكوم عليها، غير أن الأصالة عارضها نكتة أخرى تقتضي تأخيرُه؛ وهي أن الفعل عامل في الفاعل الرفع، ومرتبة العامل التقدم على المعمول ورجح جانبه عليه أو لأن العامل علة في المعمول والعلة مقدمة على المعلول.
ويُقدَّم المسند إليه أيضًا بقصد إرادة تمكن الخبر في ذهن السامع؛ وذلك حيث يكون في المسند إليه ما يشوق إلى الخبر بأن يكون موصولًا أو موصوفًا بما يوجب
الدهشة والاستغراب، ويجعل النفس متطلعة إلى سماع الخبر حتى إذا سمعته تمكن منها أي تمكن؛ كما في قول أبي العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه
…
حيوان مستحدث من جماد
وقدم المسند إليه وهو الذي؛ لأن فيه تشويقًا إلى الخبر؛ إذ قد اتصل به ما يدعو إلى الدهشة وهو قوله: حارت البرية فيه، ومثل هذا الأمر الغريب يثير في النفس عواملَ الشوق إلى معرفة ذلك الذي أوقف البرية كلها موقفَ الحائر المدهوش، فإذا ذكر تمكن منها فضلَ تمكن ٍ، ورسخ رسوخًا لا يرقى إليه شك، ومنه قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
…
شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فق د قدم المسند إليه وهو ثلاثة؛ لأن فيه ما يشوق النفس إلى الخبر لاتصافه بما يدعو إلى الاستغراب والعجب؛ وهو قوله: تشرق الدنيا ببهجتها؛ فإن إشراق الدنيا كلها مما يدفع النفس إلى أن تعرف ذلك الذي جعلها تتألق وتضيء، فإذا عرفت ذلك تمكن منها واستقر، وهكذا يقدم المتكلم المسند إليه إذا أراد تمكن الخبر في ذهن السامع، بشرط أن يكون في المقدم ما يشوق إلى معرفة المؤخر، كما يقدم المتكلم المسند إليه لإرادة المبادرة بإدخال السرور على قلب السامع؛ ليتفاءل من حصول الخبر أو لإرادة المسارعة بإدخال ما يسوء على قلبه ليتطير بحصول الشر؛ لأن السامع كما جرت العادة يتفاءل أو يتشاءم غالبًا بأول ما يقرع سمعه من الكلام، وهذا فيما إذا كان لفظ المسند إليه مشعرًا بما يُتفاءل به أو بما يتشاءم منه.