الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس
(الحقيقة العقلية والمجاز العقلي)
تعريف الحقيقة العقلية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ وبعد:
فقد توقفنا في درسنا الفائت على أن من أحوال الإسناد الخبري التجوز في الإسناد أو في النسبة وهو ما نسميه بالمجاز العقلي أو المجاز الحكمي وألمحنا إلى أن الإسناد لا يجري على وتيرة واحدة وإنما يتنوع وتتعدد طرقه فمنه ما هو حقيقة ومنه ما هو مجاز؛ لأن المتكلمين لا يلتزمون إسناد الأحداث والأفعال إلى ما هي له دائمًا وإنما يتوسعون ويتجوزون في الإسناد انطلاقًا مع الخيال واستجابة للحس وتأنقًا في أداء المعاني، ونفصل الحديث عن هذا الأمر، فأقول:
لما كان إسناد الكلمة إلى الكلمة أمرًا عقليًّا يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة فقد قالوا: حقيقة عقلية ومجاز عقلي؛ لرجوع ذلك إلى تصرف العقل وإرادة المتكلم، ومن الواضح أنه لا دخل للغة في هذا التجوز؛ لأنها لم تحدد للفعل فاعلًَا معينًا بحيث إذا أسند إليه كان الإسناد حقيقة، وإذا أسند إلى غيره كان مجازًا، فالحقيقة والمجاز في الإسناد عقليان لا لُغويان، والمجاز قسيم الحقيقة؛ أي: مقابل لها، فالحديث عن المجاز العقلي يستدعي الحديث عن الحقيقة العقلية.
فما المراد إذن بكل منهما؟
عرف الخطيب القزويني الحقيقة العقلية تعريفًا قصر فيه الإسناد على الفعل وما في معناه فقال: الحقيقة العقلية هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر. هذا موجود في كتاب (الإيضاح) ويحتاج هذا التعريف إلى شرح؛ فما في معنى الفعل كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل، وقوله: إلى ما هو له يعني: أن يسند
الفعل إلى ما حقه أن يسند له كالفاعل في الفعل المبني للمعلوم نحو: ضرب زيد عمرًا، والمفعول به فيما بني للمجهول نحو: ضرب عمرو، فالفعل المبني للفاعل من حقه أن يسند إلى الفاعل كما في المثال الأول، والفعل المبني للمفعول من حقه أن يُسند إلى المفعول الذي هو نائب الفاعل كما في المثال الثاني.
وعلى ذلك فالإسناد في قولك: ربح محمد في تجارته، وصام العابد نهاره وقام ليله، وجرى الماء، وقام زيد، وأحسن خالد، هو من قبيل الحقيقة العقلية؛ لأنه إسناد إلى ما هو له، ومعنى: كونه له، أن معنى الفعل قائم به ووصف له، وحقه أن يسند إليه سواء أكان مخلوقًا لله تعالى كما يقول أهل السنة، أم كان لغيره كما يقول المعتزلة، وسواء أكان صادرًا عنه باختيار كضرب أم لا كمرض ومات.
ويمكن القول: إن الأفعال من هذه الجهة تنقسم إلى أفعال استأثر الله بها مثل: خلق ورزق وأحيا وأمات، وإلى أفعال لغيره كسب فيها مثل: قام وقعد وأحسن وأساء، وإلى أفعال يراد من إسنادها مجرد الاتصاف بها مثل: صح ومرض ومات وعظم وتنزه.
ف الطائفة الأولى إسنادها إلى الله حقيقي ولا يصح إسنادها إلى غيره على سبيل الحقيقة سبحانه وتعالى والطائفة الثانية منها ما يصح إسنادها إلى غير الله تعالى إسنادًا حقيقيًّا كأحسن، ومنها ما لا يصح إسنادها إلى الله تعالى مثل: قام وقعد، والطائفة الثالثة منها ما يسند إليه تعالى مثل: عظم وتنزه، ومنها ما يسند إلى غير مثل: صح ومرض ومات؛ فالفاعل في الإسناد الحقيقي يشمل مَن يقع منه الفعل حقيقة، ومَن يقع منه الفعل حكمًا، ومن يتصف به، ف من النوع الأول قوله تعالى:{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26) وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (النجم: 43){وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (النجم:44، 45).
فالله هو الخالق لهذه الأفعال على الحقيقة من الإيتاء والنزع والإعزاز والإذلال والإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء.
ومن الثاني قولك: قام زيد وقعد خالد، فالفاعل هنا فعل الفعل حكمًا بمعنى أن القيام صدر منه بأمر الله تعالى، وله فيه كسب وتحصيل.
ومن الثالث: قولك: مرض زيد، وبرد الماء، وطالت النخلة؛ فالفاعل هنا متصل بالفعل والإسناد في الأنواع الثلاثة حقيقي.
قوله: عند المتكلم في الظاهر -في التعريف- قيدٌ في التعريف لإدخال ما يطابق الاعتقاد دون الواقع وما يطابق الواقع دون الاعتقاد، وما لا يطابق شيئًا منهما؛ فالحقيقة العقلية بذلك أربعة أقسام:
أحدها: ما يطابق الواقع والاعتقاد معًا ك قول المؤمن: أنبت الله البقلةَ، وشفى الله المريض.
وثانيها: ما يطابق الواقع دون الاعتقاد، ك قول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها عنه: خالق الأفعال كلها هو الله تعالى، فالمعتزلي يعتقد أن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة له، فهذا القول منه يطابق الواقع، لكن يخالف اعتقاد المعتزلة، والمخاطَب يجهل حاله والإسناد إلى ما هو له في الظاهر.
ثالثها: ما يطابق الاعتقاد دون الواقع كقول الجاهل: شفى الطبيب المريض، معتقدًا شفاء المريض من الطبيب مع أن الواقع خلاف ذلك؛ فالشفاء من الله تعالى والطبيب سبب له، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن بعض الدهريين:{نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: 24)، فالدهري يعتقد أن الدهر هو الذي