الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر: 42). وبمعنى النوم كما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) وبمعنى الرفع كما في هذه الآية: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} (المائدة: 117).
وفي الآية الكريمة قصر لصفة المراقبة بمعنى المراعاة والحفظ والعلم على موصوف وهو الله تعالى، وطريق القصر هو ضمير الفصل أنت، ولو لم يكن ضمير الفصل في الآية الكريمة للدلالة على القصر بأن كان مثلًا مبتدأ ثانيًا أو تأكيدًا لما حسُن؛ لأن الله لم يزل رقيبًا عليه في جميع الأحوال، وإنما الذي حصل بتوفيته عيسى عليه السلام وقد كان شهيدًا عليهم يراقبهم ويأمرهم بعبادة الله؛ أنه لم يبقَ لهم رقيب غير الله؛ ولذا ينبغي أن يتعين إعرابه فصلًا دالًا على القصر.
من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية
ومن طرق القصر المعروفة لدى البلاغيين: تعريف المسند أو المسند إليه بأل الجنسية:
إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين فالراجح أن السابق منهما هو المبتدأ واللاحق هو الخبر، تقول: محمد الشجاع، فتخبر عن محمد بالشجاعة، وتقول: الشجاع محمد، فتخبر عن الشجاع بمحمد، وتقول: زيد أخوك وأخوك زيد، فالأول إخبار عن زيد بأنه أخوه، والثاني إخبار عن أخيه بأن اسمه زيد، وعندما يكون أحد طرفي الإسناد معرفًا بأل التي للجنس فإن هذا التعريف يدل على القصر؛ إذ هو طريق من طرقه عند بعض البلاغيين كما عرفت، تقول: محمد الكريم والكريم محمد، فتفيد بهذا قصر الكرم على محمد في الموضعين، فالمقصور هو المعرف بأل الجنسية؛ سواء تقدم أو تأخر، والمقصور عليه هو الآخر، وتقول: خالد الأمير، والأمير خالد؛ فتفيد قصر الإمارة على خالد قصرًا حقيقيًا تحقيقيًا إذا لم يكن ثمة أمير سواه. وتقول: محمد الشجاع، والشجاع محمد؛ فتفيد قصر الشجاعة على
محمد قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا؛ لأنك تجعله الكامل في الشجاعة، ولا تعتد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال وهكذا.
فإن كان طرفا الإسناد معرفين بأل الجنسية، كقولك: العالم المنطلق، فإن السياق هو الذي يحدد المقصور والمقصور عليه؛ إذ هو صالح لقصر العلم على المنطلِق، ولقصر الانطلاق على العالم، والسياق هو الذي يحدد ويعين المراد، والمقصور بهذا الطريق هو المعرف بأل أو الذي يحدده السياق، إذا كان الطرفان معرفين معًا بها، وقد يكون على إطلاقه كما في الأمثلة السابقة وقد يقيد بقيد كقولك: محمد المطاع في قومه، وأنت القائد الجريء؛ حيث قُصِرت الطاعة المقيدة بالجار والمجرور على محمد، وقُصرت القيادة المقيدة بالجرأة على المخاطب. ومن ذلك قولهم: هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرًا، وهو الجواد حين يبخل الناس، ومنه قول الأعشى:
هو الواهب المائة المصطفاة
…
إما مخاضًا وإما عشارًَا
فالشاعر قد قصر الهبة على الممدوح ليس مطلقًا وإنما مقيدة بكونها من النوق، وبكونها مائة وبكونها مصطفاة وبكونها إما مخاضًا وإما عشارا، وهذا أبلغ في مقام المدح من قصر الهبة المطلقة كما لا يخفى. ومن أهم ما ينبغي أن تتجه إليه عناية الدارس لأسلوب القصر: أن يقف على ما بين طرقه من فروق وأوجه اختلاف؛ فإن هذه الطرق على الرغم من اشتراكها في الدلالة على معنى القصر فإنها تختلف من عدة أوجه، وأهم هذه الأوجه:
1 -
أن دلالة التقديم وضمير الفصل وتعريف الطرفين أو أحدهما "بأل" الجنسية على القصر، ليست دلالة وضعية وإنما هي دلالة تذوقية، تفهم من فحوى الكلام وسياقاته وقرائن أحواله، وكذا توسط الضمير بين طرفي الإسناد قد يكون لتأكيد مضمون الكلام ويعرب مبتدأ ثانيًا، فليس دائمًا لإفادة الاختصاص، وتعريف الطرفين أو أحدهما بأل الجنسية قد يكون للتقرير وتأكيد نسبة المسند إلى المسند إليه، وقد يكون لغير ذلك، أما النفي والاستثناء وإنما والعطف بـ لا وبل ولكن فدلالتها على القصر دلالة وضعية.
2 -
أن الأصل في طريق العطف بـ لا وبل ولكن، النص على المثبت والمنفي معًا، تقول: زهير شاعر لا كاتب، ما شوقي كاتبًا بل شاعر، ما عمرو جواد لكن حاتم، ولا يُترك النص على المثبت والمنفي في هذا الطريق إلا كراهة الإطناب في مقام الإيجاز، أما بقية الطرق فالأصل فيها أن يُنص على المثبت فقط دون المنفي، تقول: ما شاعر إلا زهير، وما زهير إلا شاعر، إنما أنت أبٌ، إياك أكرمت، محمد الشجاع، خالد الوفي، وهكذا، فبهذه الطرق قد نص على المثبت فقط، أما المنفي فمفهوم من القصر بمعرفة سياقات الكلام.
3 -
اجتماع طريقين من طرق القصر: لا يجوز أن يجتمع طريق النفي بلا العاطفة وطريق النفي والاستثناء؛ لأن لا موضوعة لأن يُنفى بها ما أوجب للمتبوع، كقولك: زيد كريم لا شجاع، فهي موضوعة للنفي ابتداء، لا لأنْ تعيد بها النفي في شيء قد نفيته، أما بقية الطرق فتجتمع والنفي بـ لا، تقول في اجتماعه وإنما: إنما زيد كريم لا شجاع، وفي اجتماعه والتقديم: إلى الله أشكو لا إلى الناس، وفي اجتماعه والتعريف بأل: زيد الكريم لا عمرو؛ وذلك لأن النفي في هذه الطرق ليس نفيًا صريحًا، بل نفيت بها ما قد فُهم نفيه في الجملة
المتقدمة بغير أداة، والقصر عندئذ طريق "إنما" والتقديم والتعريف بأل، أما العطف بـ"لا" فلتأكيد القصر.
وقد تجتمع "إنما" وضمير الفصل أو التعريف بأل، فيقال: إنما الجواد أنت، إنما العالم هو محمد؛ إذ المقصور عليه بالتعريف أو بضمير الفصل هو الخالي من أل، والمقصور عليه بـ"إنما" هو المؤخر، فلا تناقض في بناء العبارة كما ترى، بل إن طريقي القصر يؤكد كل منهما الآخر، فإن قلت: إنما أنت الجواد، إنما محمد هو العالم، تدافع الطريقان، ولو جعلت ضمير الفصل أو التعريف للتأكيد وتقوية الحكم وتقريره فلا تدافع؛ إذ يكون القصر مدلولًا عليه بإنما، والتعريف وضمير الفصل مؤكدان له، وقد تجتمع طريق "إنما" وطريق التقديم كقولك: إنما زيد أكرمت، وإنما بهذا أمرتك، وإنما عليك المعول، وعندئذ يتحتم إلغاء دلالة أحد الطريقين على القصر ويبقى الآخر؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يلائم بين طريق إنما وطريق التقديم؛ إذ المقصور عليه بـ إنما هو المؤخر والمقصور عليه في التقديم هو المقدم، الذي يحدد ذلك هو السياق وقرائن الأحوال وما يقتضيه المعنى.
4 -
أن الأصل في طريق النفي والاستثناء أن يُستعمل فيما شأنه أن يجهله المخاطب وينكره، والأصل في إنما أن تستعمل فيما شأنه أن يعلمه المخاطب ولا ينكره، وقد يأتيان على خلاف ذلك على سبيل التنزيل، هذا وقد صرح الشيخ عبد القاهر بأن أفضل مواقع إنما هو التعريض؛ لأنها فيه أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب، فقد علمت أن الحكم الذي تستعمل فيه إنما من شأنه أن يكون معلومًا لا يجهله أحد، ولا ينكره منكر؛ لذلك امتازت عن بقية طرق القصر بأنها تُستعمل في كلام لا يكون الغرض منه إفادة الحكم للعلم به، وإنما يكون الغرض التلويح به إلى معنى آخر على سبيل التعريض، تقول لمن يهمل في مدارسة العلم
ولا يجتهد في تحصيله: إنما ينال العلا من اجتهد، فأنت لم تُرد أن تعلمه هذا الحكم لوضوحه وظهوره، وإنما قصدت أن تلوّح له بإهماله وأنه لن يحقق رغبته في نيل العلا إلا بالجد.
ومثل ذلك ما جاء في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19)، فالمعنى: إنما يتذكر الحق ويعقله أرباب العقول السليمة والفِكَر السديدة، وليس الغرض من الآية أن يعلم السامعون هذا المعنى الظاهر، بل ترمي من وراء ذلك إلى التعريض بذم الكفار، ومثل ذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: 18) وقوله جل وعلا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (النازعات: 45).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.