الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(الأساليب الإنشائية)
التعريف بالأسلوب الإنشائي
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
حديثي عن قسيم الخبر وهو الإنشاء.
وكنت قد وقفت بك -فيما سبق- على الأسلوب الخبري، وأحوال الإسناد الخبري، وأحوال أجزاء الجملة من مسند ومسند إليه، ومتعلقات الفعل. وعرفتَ ما يمتاز به هذا الأسلوب إنه مبني على الحكاية، ويقصد به الإخبار والإعلان بمضمون الجملة الخبرية. وبجانب هذا الأسلوب الخبري توجد الأساليب الإنشائية التي يقصد بها إنشاء الكلام وإيجاده ابتداءً.
فليس الهدف منها الإعلان وحكاية الخبر، وإنما هي عبارات تُصاغ ابتداءً وتنشأ إنشاءً؛ ليطلب بها مطلوبًا. وتمتاز الأساليب الإنشائية؛ للحث وإثارة الذهن وتمشيط العقل وتحريك المخاطب.
ولمزيد من الإيضاح، والتفرقة بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي، فانظر إلى هذه الشواهد يقول الغنوي في رثاء أخيه:
أخ كان يكفيني وكان يعينني
…
على نائبات الدهر حين تنوب
عظيم رماد القدر رحب فناؤه
…
إلى سند لم تحتجبه غيوم
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه
…
سريعًا ويدعوه الندى فيجيبُ
السند: هو ما ارتفع عن الوادي وسفل عن الجبل. والغيم: هو البطن المنخفض من الأرض. وحليف الندى: أي: بينه وبين الندى، وهو: الكرم حلف وعهد. عندما تتأمل هذه الأبيات تجد أن الشاعر يحكي عن أخيه ويخبر بأنه كان يأخذ بيده في أوقات الشدة، وكان كريمًا تقصده الضيوف فلا يحتجب عنهم؛ لأن الكرم خُلقه وشيمته. فهما حليفان لا يفترق أحدهما عن الآخر، ولا يتخلف عن
إجابة دعواه. وهذا الذي يخبر به الغنوي قد يطابق الواقع، فيكون صادقًا وقد يخالفه فيكون كاذبًا.
وقارن بين رثاء الغنوي في الأبيات المذكورة وبين قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
أعيني جودا ولا تجمدا
…
ألا تبكيان لصخر الندى؟
ألا تبكيان الجواد الجميل؟
…
ألا تبكيان الفتى السيدا؟
تجد: الأسلوب هنا يختلف؛ الخنساء لا تخبر وإنما تنادي، وتأمر، وتنهى، وتسأل، هي تحض عينيها وتحثهما على بكاء صخر. هذه هي الأساليب الإنشائية، وهي وإن كان لها واقع في نفس الخنساء إلا أنه لا يقصد بتلك الأساليب مطابقة هذا الواقع أو مخالفته، وإنما يقصد بها إنشاء تلك المعاني.
كذلك القول في قول البحتري:
فيا ليت طالعة الشمسين غائبة
…
ويا ليت غائبة الشمسين لم تغب
وقول الآخر:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
…
عقود مدح فما أرضَى لكم كلمي
هؤلاء الشعراء لم يريدوا الإخبار، وإنما قصدوا إلى إنشاء تلك المعاني.
ولذا ساغ للبلاغيين أن يقسموا الكلام إلى قسمين:
القسم الأول: الخبر: يقال عنه: أنه قول يحتمل الصدق والكذب لذاته. كقولك: جاء زيد، وذهب خالد، ونجح عمرو. فتلك أخبار تحتمل الصدق والكذب. وقيدوه بقولهم: لذاته أي: لذات القول؛ لينبهوا إلى تلك الأقوال التي لا تحتمل إلا الصدق، كأخبار القرآن الكريم، الحديث الشريف وكالأقوال الثابتة، نحو:
السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والواحد نصف الاثنين. فتلك الأخبار لا تحتمل سوى الصدق، ولكن هذا الاحتمال ليس لذات القول وإنما بالنظر إلى قائله وهو الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وباعتبار ثبات الأقوال في الأخبار التي تتضمن أقوالًا ثابتةً.
وننبه أيضًا إلى الأخبار التي لا تحتمل إلا الكذب، كأخبار مُسيلمة الكذاب، فمثل هذه الأقوال لا تحتمل إلا الكذب ليس لذات القول، بل باعتبار من قالها؛ ولذا قيدوا احتمال الخبر للصدق والكذب أي: لذاته، أي: بغض النظر عن قائله، ومرجع احتمال الخبر للصدق والكذب إلى تطابق النسبتين الكلامية والواقعية أو عدم تطابقهما، فقولك: نجح عمرو، له نِسبتان؛ كلامية: يفيدها النطق بالخبر والإعلام به، وخارجية: وهي ما عليه الواقع. فإن تطابقت النسبتان كان الخبر صادقًا وإن تخالفتَا كان كاذبًا.
القسم الثاني: هو الإنشاء وقد عرفوه بقولهم: قول لا يحتمل الصدق والكذب. وذلك أساليب الإنشاء يقصد بها إنشاء المعاني -كما قلنا- وصوغها ابتداءً؛ ليطلب بها مطلوبًا معينًا. وهذا لا يعني أن أساليب الإنشاء ليس لها نسبة خارجية حتى ينظر في مطابقتها للنسبة الكلامية، فيكون المعنى على الصدق أو عدم مطابقتهما، فيكون المعنى على الكذب أو عدم مطابقتها. بل لها نسبة خارجية وهي قيام المعنى الإنشائي من تمن، أو أمر، أو نهي، أو استفهام، أو نداء في نفس المتكلم.
ولكن ليس المقصود من الجملة الإنشائي الإخبار بمطابقة هذه النسبة بالنسبة الكلامية، وإنما المقصود هو إنشاء المعنى وابتداؤه.