الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(تابع: الأساليب الإنشائية)
أسلوب الاستفهام
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ثم أما بعد:
فنبدأ بالحديث عن أسلوب الاستفهام:
من المعلوم أن الهمزة والسين والتاء إذا زيدت في الفعل الثلاثي أفادت معنى الطلب؛ يقال: استزاد أي طلب الزيادة، واستغفر أي طلب المغفرة، واستفهم أي طلب الفهم؛ فالاستفهام يعني: طلب الفهم؛ ولذا قالوا في تعريفه: الاستفهام هو طلب العلم بشيء لم يكن معلومًا من قبل بأدوات خاصة، وهذه الأدوات هي: الهمزة وهل ومَن وما وكيف وكم وأين وأيان ومتى وأنى وأي، وقد عرفت أن الجملة الخبرية التي تدخل عليها هذه الأدوات تتكون من أجزاء هي المسند والمسند إليه وأحد المتعلقات، وبضم هذه الأجزاء وإسناد بعضها إلى بعض تتكون الجملة التي تفيد حكمًا معينًا بهذا الضم أو بذاك الإسناد. وعندما تدخل هذه الأدوات على الجملة الخبرية يكون الاستفهام بها عن أحد أمرين؛ إما عن النسبة أي الإسناد أو الحكم المفاد من الجملة، ويُسمى تصديقًا، وإما عن أحد أجزاء الجملة ويسمى تصورًا؛ فالتصديق هو إدراك النسبة بين الشيئين ثبوتًا أو نفيًا، والتصور هو إدراك أحد أجزاء الجملة المسند أو المسند إليه أو أحد المتعلقات.
وأدوات الاستفهام بحسب المستفهم عنه ثلاثة أنواع: ما يطلب به التصور تارة والتصديق تارة أخرى، وهو الهمزة وحدها. ما يطلب به التصديق فقط وهو هل. ما يطلب به التصور فقط وهو بقية الأدوات.
ولأجل ما ذكرنا كان لبناء جملة الاستفهام مع "الهمزة وهل" ضوابط واعتبارات دقيقة، ينبغي الوقوف عليها والإحاطة بها، أما بقية الأدوات فلكونها لطلب تصور أشياء محددة؛ فإنهم لا يلتزمون في بناء الجملة معها شيئًا زائدًا عن الضبط العام في النظام الإعرابي ووجوب تصدر هذه الأدوات.
ونبدأ بالحديث عن الهمزة: وكما ذكرنا فإنه يطلب بها إما التصديق أي إدراك النسبة الواقعة بين الطرفين ثبوتًا أو نفيًا، وذلك عندما يكون السائل عالمًا بأجزاء الإسناد ويجهل الحكم أو مضمون الجملة، فهو يسأل ليقف على هذا الحكم، وإما التصور؛ أي إدراك أحد أجزاء الجملة عندما يكون السائل عالمًا بالحكم ولكنه يجهل أحد أجزاء البناء، فإذا كانت الهمزة لطلب التصديق كان جواب الاستفهام بنعم أو لا، ولا يذكر معها معادل، ويليها غالبًا الفعل إن وجد، تقول: أنجح خالد؟ أعمرو شجاع؟ إذا كنت تتصور أجزاء الكلام نجح وخالد وعمرو وشجاع، وتتصور النسبة بين أجزائه؛ أي بين نجح وخالد، وبين عمرو وشجاع، ولكنك تجهل وقوع هذه النسبة، أو: أواقعة هي ومحققة أم غير واقعة؟ ولذا يجاب سؤالك بنعم أو بلا؛ أي بتحقق هذه النسبة ووقوعها أو بعدم تحققها، ومن ذلك قول الشاعر:
أأترك إن قل الدراهم خالدٍ
…
زيارته إني إذن للئيم
فالجواب هنا بالنفي؛ أي لا لن أترك زيارته إن قل ماله؛ لأن السؤال عن التصديق؛ إذ المتكلم يعرف الفعل ويتصور الفاعل وهو المتكلم نفسه، ويعلم المفعول وهو زيارة خالد، كما أنه يتصور النسبة بين تلك الأجزاء، ولكنه
يتساءل: أتقع منه أم لا تقع، فإن ذُكر المعادل "أم" بعد همزة التصديق هذه كانت أم منقطعة بمعنى بل، وكانت بعدها همزة أخرى مقدّرة كما في قول الشاعر:
ولست أبالي بعد فقدي مالكًا
…
أموتي ناءٍ أم هو الآن واقع
فالسؤال بالهمزة عن نسبة، وأم للإضراب عن الكلام السابق؛ أي عن هذا التساؤل، وبعدها همزة مقدرة يُسأل بها سؤال آخر، والمعنى: أموتي ناء بل أهو الآن واقع، وإذا كانت الهمزة للتصور وجب أن يليها المستفهم عنه، ويُذكر للمستفهم عنه غالبًا معادل بعد أم المتصلة، وقد يستغنى عن ذكر المعادل إذا وجد ما يدل عليه، ولا يكون جواب الاستفهام عندئذ بنعم أو بلا، وإنما يكون بتعيين المستفهم عنه، تقول في السؤال عن الفاعل: أمحمدٌ جاء أم عمرو؟ فيكون الجواب: محمد أو عمرو؛ أي بتعيين من جاء منهما، ولا يقال عندئذ: نعم أو لا، ففي السؤال عن الفعل: أجاء محمد أم تخلف؟ فيقال: جاء أو تخلف، وعن المفعول: أعمرًا ضربت أم زيدًا؟ فيجاب: عمرًا أو زيدًا، وعن الظرف: أفي البيت زارك عمرو أم في المدرسة؟ فيجاب: في البيت أو في المدرسة، وقد يستغنى عن المعادِل إذا دل عليه دليل، كما في قوله تعالى:{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 62) فالسياق وقرائن الأحوال تدل على أن المسئول عنه هو الفاعل؛ حيث أشاروا إلى الفعل بهذا، فهو معلوم لهم وهم يشاهدون الأصنام محطمة ويجهلون الفاعل؛ ولذا ولي الفاعل الهمزة: أأنت، والمعنى: أأنت فعلت هذا أم غيرك؟ وقد أجابهم عليه السلام معينًا لهم الفاعل على سبيل التهكم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} (الأنبياء: 63).
وينبغي أن يُراعي عند ذكر المعادل بعد أم المتصلة أن يكون موافقًا لما بعد الهمزة، وألا يتناقض معها، على نحو ما ترى في الآيات الكريمة: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف: 39){أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (مريم: 78){قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140){أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} (الدخان: 37){لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (النمل: 40) حيث تجد أن ما بعد أم مماثل لما بعد الهمزة؛ ولذا كان من الخطأ أن تقول: أزيدًا أكرمت أم أهنت؟ أأكرمت زيدًا أم عمرًا؟ أجاءك خالد أم علي؟ لتناقُض ما بعد الهمزة مع ما بعد أم المتصلة، وهو ليس تناقضًا في تركيب العبارة فحسب، بل تناقض واضطراب في الإدراك والوعي.
إذ تقديم المفعول مثلا في قولك: أزيدًا أكرمت؟ ينبئ بأنك تجهل المفعول، وتتصور الفعل وهو الكرم، والفاعل وهو المخاطب، فلو قلت بعد ذلك: أم أهنت؟ أو قلت: أم خالد؟ بالرفع تناقضت العبارة وتناقض فهمك واضطرب إدراكك لما تقول، وعليك أن تعلم أن الفعل إذا حُدد وعُين كان الشك في الفاعل والجهل به كقولك: أأنت بنيت هذه الدار؟ ولا يصح قولك: أبنيت هذه الدار؟ لأن تحديد الفعل وتعيينه بالإشارة إليه يجعله معلومًا، ويجعل الشك في الفاعل، وتقديم الفعل وإيلاؤه الهمزة ينفي ذلك، ويجعل الشك في الفعل، وهذا تدافع وتناقض، فإذا أردت الاستفهام عن الفعل ينبغي عليك ألا تحدده بل تتركه بلا تحديد كأن تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعر الذي عزمت على قوله؟.
ولا يصح أن تسأل عن فاعل هذا الفعل غير المحدد، فلا تقول: أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أأنت قلت الشعر الذي عزمت على أن تقوله؟ لأن تقديم الفاعل يدل على أن الفعل قد وقع والمطلوب معرفة فاعله، وقولك: التي كنت على أن تبنيها، الذي كنت على أن تفعل، يدل على أن الشك في الفعل
وهذا تناقض فالسؤال عن الفاعل يقتضي بالضرورة معرفة فعل محدد معين حتى يقال في الجواب: فعله فلان، ولا يعقل أن يُسأل عن فاعل فعل غير محدد، فلا يقال: أأنت أكلت طعامًا؟ أأنت رأيت اليوم إنسانًا؟ أأنت قلت شعرًا؟ وإنما يسأل في مثل هذا عن الفعل فيقال: أأكلت طعامًا؟ أرأيت اليوم إنسانًا؟ أقلت شعرًا؟
وقد يكون السؤال بالهمزة عن الفعل، ويلي الهمزة غيره لغرض بلاغي وهو المبالغة في الإنكار وتأكيد الردع والزجر، وذلك عندما يلي الهمزة أو يُعطف على ما وليها الفاعل أو المفعول أو ظرف الذي ليس للفعل غيره، كقولك: أفي ليل وقع هذا أم في نهار؟ فأنت لا تسأل عن الظرف وإنما تُنكر وقوع الفعل، ولم يلِ الفعل الهمزة كما ترى، بل وليها عطف على ما وليها الظرف الذي ليس للفعل ظرف سواه، فإذا ما انتفى الظرف الذي لا ظرف يقع فيه الفعل غيره؛ كان هذا أبلغ في انتفاء الفعل وأشد إنكارًا وأقوى ردعًا لمن يدعي وقوعه، ومن ذلك قول الله تعالى:{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} (الأنعام: 143) وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)، فالمعنى على إنكار التحريم والإذن، وقد ولي الهمزة غيرهما مبالغة في الإنكار والزجر؛ لأنه إذا انتفي المفعول الذي ليس للفعل مفعول غيره في الآية الأولى، والفاعل الذي ليس للفعل فاعل سواه في الآية الثانية؛ كان ذلك أبلغ في انتفاء الفعل وأشد ردعًا وأقوى زجرًا لمن ادعى وجوده وثبوته كذا في (دلائل الإعجاز).