الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسلوب الأمر
ولنجارِ في تناولنا لأساليب الإنشاء البلاغيين، ولنبدأ بالحديث عن أسلوب الأمر:
للأمر صيغ أربع، وهي:
1 -
فعل الأمر: كقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60)، وقوله عز وجل:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود: 37).
2 -
الفعل المضارع المقرون بلام الأمر: كما في قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7)، وقوله عز وجل:{فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (البقرة: 282).
3 -
اسم فعل الأمر: نحو: صه بمعنى: اسكت، ومَه بمعنى: اكفف، وعليك بمعنى: الزم. ومنه: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105).
4 -
المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النساء: 36) أي: وأحسنوا بهما، وقوله:{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (محمد: 4) أي: فاضربوا الرقاب، فمنه قول ابن الفجاءة:
فصبرًا في مجال الموت صبرًا
…
فما نيل الخلود بمستطاع
وكقوله عليه السلام: ((رفقًا بالقوارير))، وتقول: سعيًا في الخير، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر ورميًا بالرمح، وضربًا بالسيف، وحمدًا لله وشكرًا.
وقد قالوا في تحديد مفهوم الأمر: هو طلب حصول الفعل على جهة الاستعلاء. هذا هو مفهوم الأمر حيث يكون من الأعلى إلى الأدنى. فالأعلى يطلب ممن هو دونه حصول الفعل وتحقيقه ويبعثه ويحثه عليه. وهذا هو الأصل فيه؛ لأنه هو المتبادَر إلى الذهن عند سماع الأمر كما ذكر الخطيب.
وقد تستعمل صيغ الأمر في غير هذا الأصل الذي وُضعت له، فتفيد الإباحة أو الدعاء أو التهديد أو التمني أو الحث والإثارة أو الاستمرار والدوام على تحقيق الفعل، إلى غير ذلك من المعاني التي تفيدها هذه الصيغ بمعونة السياق وقرائن الأحوال. وقد اهتم البلاغيون بالحديث عن هذه المعاني وتجليتها والكشف عن دقائقها، ومزاياها في التعبير فذكروا أن الأمر يأتي أحيانًا للإباحة، وذلك عندما تستعمل صيغة الأمر في مقام يتوهم فيه السامع حاظر شيء عليه.
ومن جميل ذلك قول كثير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
…
لدينا ولا مقلية إن تقلت
القلي: يعني البغض والكراهية، أي: أنت لست ملومةً ولا مخليةً: أي: مكروهة. فكثير يبيح لعزة أن تسيء إليه أو تحسن فهو راضٍ في الحالين غاية الرضا. فسر جمال هذا التعبير -أي: التعبير بصيغة الأمر في مقام الإباحة في هذا البيت- أنه يكشف لنا عما أصاب الشاعر من عشق وهيام، وقد وصل به إلى منتهاه، حتى صار يطلب منها الإساءة كما يطلب منها الإحسان ويلح في ذلك إلحاحًا، وكأن الإساءة أمر مطلوب مرغوب. فالإنسان عندما يصل به الحب إلى حد الإفراط يصير كل فعل يصدر عن حبيبه لا يراه إلا جَمالًا.
وبهذا يتضح لك أن استعمال الشاعر لصيغة الأمر في مكان الإباحة يكشف عن مكنون نفسه، ويبرز ما بداخله بأخصر طريق وأجمله.
واستعمال الأمر في معنى الإباحة كثير في آي الذكر الحكيم، من ذلك قول الله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187) فالمراد من الأمر في الآية الكريمة إباحة الأكل والشرب في ليالي رمضان حتى طلوع الفجر. في التعبير بصيغة الأمر مكان الإباحة حثٌّ على تناول السحور، وكأنه أمر مطلوب مرغوب فيه، ومثل ذلك: قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وفيه: حثٌّ على العمل، وابتغاء الرزق.
ويأتي الأمر للتخيير بين شيئين أو أشياء بحيث يختار منها السامع. كما في قول بشار:
فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه
…
مقارف ذنب مرة ومجانب
فهو يخير مخاطبه بين أمرين: العيش واحدًا منعزلًا، أو صلة الإخوان ومخالطتهم مع التجاوز عما يكون منهم من إساءات؛ فتلك لا بد منها على حد قول الآخر:
وليس بمستبقٍ أخًا لا تلمه
…
على شعث أي الرجال المهذب
هذا، والفرق بين الإباحة والتخيير: أن الإباحة إذن في الفعل وإذن في الترك، فهو إذنان معًا. أما التخيير: فهو إذن في أحدهما من غير تعيين؛ ولذا فالتخيير لا يجوز الجمع بين الشيئين والإباحة تجوزه.
ويأتي الأمر للتهديد ويكون في مقام عدم الرضا بالمأمور به، كما تسمع من الرئيس يقول لأحد مرؤوسيه: افعل ما بَدَا لك، أو من السيد يقول لعبده: دم على عصيانك فالعصا أمامك، فليس المراد من الأمر في الموضعين الامتثال أي: فعل ما أمر به، ولكن المراد هو التهديد والوعيد.
وتأمل مع ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (إبراهيم: 30). وقد أخبر الله عز وجل عنهم أنهم أشركوا به وجعلوا له أندادًا ليضلوا عن سبيله، ثم جاء الوعيد والتهديد:{تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (إبراهيم: 30)، فليس المراد بالأمر في الآية الامتثال. كأن الله تعالى لما ارتكب هؤلاء ما لا يغفر وهو الشرك أراد بهم أن يقوى طغيانهم، ويشتد إعراضهم، ويزدادوا تمتعًا بشهواتهم، فإذا ما تم لهم ذلك كان عقابهم أشد وأقوى.
فليس الأمر مرادًا -كما ترى- بل المراد: هو الزجر والوعيد حتى يقلع هؤلاء عما هم فيه من عناد ومكابرة. وتدبر الالتفات من الغيبة في قوله: {جَعَلُوا} ، {لِيُضِلُّوا} إلى الخطاب في قوله:{تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ} فهو التفات الغاضب المتوعد. وعلى نحو ما ذكر يُحمَل قوله عز وجل: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (التوبة: 64)، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40) فليس المراد -كما ترى- بالأمر: {اعْمَلُوا} أن يمتثلوا فيعملوا ما يشاءون، بل المراد الزجر والتهديد حتى يقلعوا عن الإلحاد، ويكفوا عن العناد، وكأن الله سبحانه لشدة غضبه عليهم يأمرهم بما يوجب عقابهم؛ لينكل بهم أشد تنكيل، وهذا هو سر بلاغة التعبير بالأمر في مقام الوعيد والتهديد.
ويأتي الأمر كذلك للتعجيز والتحدي، ويكون في مقام إظهار عجز من يدعي قدرته على فعل أمر ما وليس في وسعه ذلك. كما في قول الله تعالى: {وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (البقرة: 23). فليس المراد بالأمر في الآية الكريمة التكليف والإلزام والإتيان بسورة من مثله، وإنما المراد إظهار عجزهم عن الإتيان؛ لأنهم إن حاولوا ذلك الإتيان بعد سماع صيغة الأمر ولم يمكنهم ذلك، بَدَا عجزهم وظهر.
وسر بلاغة التعبير بالأمر في مقام التعجيز إبراز قوة التحدي والتسجيل عليهم؛ ليتعظوا ويقلعوا عما هم فيه من عنادٍ ومكابرةٍ. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)، وقوله:{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 168)، وقوله:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (لقمان: 11). فلا يخفَى عليك ما في هذه الآيات من قوة التحدي والتسجيل على المخاطبين وإبراز عجزهم، وفي ذلك لفتهم إلى النظر في حالهم، والتفكر فيما هم فيه من عناد ومكابرة، وسوء تقدير.
وتأمل قول المهلهل مخاطبًا آل بكر، ومعلنًا شدة غضبه لقتلهم أخاه كليبًا:
يا آل بكر انشروا لي كليبًا
…
يا آل بكر أين أين الفرار
فهو يهددهم بالويل والثبور، ويطلب منهم إعادة كُليب إلى الحياة؛ وإعادة كليب إلى الحياة من المحال. فالأمر في قوله: انشروا لي؛ للتعجيز. وسر بلاغة التعبير بأسلوب الأمر في البيت: إشعارهم بأنه لا منجى لهم ولا مهرب، وأنه آخذ بثأره منهم لا محالة.
ومثله قول الآخر:
أروني بخيلًا طال عمرًا ببخله
…
وهاتوا كريمًا من كثرة البذل
لأنك تجد أن الشاعر هنا يتحدى المخاطبين أن يوقفوا على بخيل قد امتد عمره وطال أجله بسبب بخله، وأن يبرزوا له كريمًا قد مات من كثرة البذل والعطاء. وتشعر بما وراء ذلك من التنفير من البخل، والحث على الكرم والعطاء.
ويأتي الأمر للإهانة والتحقير: ويكون هذا في مقام عدم الاعتداد بالمخاطب، وقلة الاكتراث، وقلة اللامبالاة والاكتراث به. كما في قول الله تعالى:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان: 49). فالكافر لا يمكنه الذوق؛ لأنه يعاني غصص العذاب وآلامه ومحنه، وتلك حال لا يستطيع فيها أن يذوق إلا الحميم والغسلين. ولا يخفى عليك ما وراء أسلوب الأمر من الإهانة والتحقير والتهكم والاستهزاء بهؤلاء الذين انحرفوا عن العقل، وحادوا عن المنهج القويم. وتنبعث تلك السخرية من قوله:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} . ولا عزة ولا كرامة وإنما ذِلة ومهانة، ومثل قوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 138). فالأمر بالتبشير في الآية يحمل معنى الإهانة والتحقير لهؤلاء المنافقين.
وتأمل قول الشاعر:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري
…
أطنين أجنحة الذباب يضير
فأمره بترك الوعيد يشعر بمدى الحقارة والاستهزاء بهذا الذي يتوعد ويهدد وليس في إمكانه أن يحقق هذا الوعيد؛ فوعيده طنين كطنين أجنحة الذباب. وأنَّى لمثل هذا الوعيد أن يضير، بل كيف يتوعد مَن هذا شأنه؟!
ويأتي الأمر كذلك ويراد به التسوية ويكون ذلك في مقام توهم رجحان أحد الأمرين على الآخر. كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} (التوبة: 53). أي: يستوي عدم القبول منكم، سواء أكانت النفقة صادرةً
عن طواعيةٍ، أو عن كراهيةٍ؛ وذلك أنه سبحانه قد علم من حالهم عدم الاهتداء، وربما يتوهم المخاطب أن الإنفاق طوعًا مقبول، فدفع ذلك بالتسوية بينهم. ومثل ذلك: قول الله تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور: 16)، وقوله:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} (الإسراء: 107) أي: يستوي الصبر وعدمُه في عدم النفع؛ وذلك دفعًا لما قد يتوهم من أن الصبر نافع للكفار في عذاب يوم القيامة.
وتشعر في الآية الثانية فضلًا عن التسوية بين الإيمان وعدمه بمعنى الاحتقار والازدراء، وقلة المبالاة، أي: آمنوا أو لا تؤمنوا فقد آمَن به مَن هم أفضل منكم وأعظم؛ ولذا استوى إيمانكم وعدم إيمانكم.
ويأتي الأمر ليفيد التمني: ويكون ذلك في مقام طلب الشيء المحبوب الذي لا قدرةَ للطالب عليه، ولا طمع له في حصوله. كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (المؤمنون: 107). وقد طلبوا الخروج من النار. ولات حين خروج؛ إنه محال ولا طمع لهم في حصوله، ولكنه التمني.
وانظر إلى قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فالشاعر قد كثرت همومه، تكالبت عليه الشدائد حتى أصابه الأرَق، وهجره النوم. هو يتمنى أن ينجلي ذلك الليل وينأى بظلامه عنه حتى يستقبل الصباح، وينعم بضيائه، ثم عاد على ذلك بالنقل، فقال: وما الإصباح منك بأمثل. فأنت وهو سواء، وإنما طلب انجلاء الليل مع هذا؛ لأن في تغير الزمن راحةً على كل حال، وليس الغرض من صيغة انجلى: طلب الانجلاء من الليل؛ لأن الليل ليس مما يخاطب ويؤمر. وإنما يتمنى الشاعر ذلك تخلصًا مما يعاني.
ويفيد الأمر أحيانًا الدعاء: وهو الطلب على سبيل التضرع والخضوع، ويكون في أسلوب الأمر إذا صدر من الأدنى إلى الأعلى منزلةً، كما في قول الله تعالى:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه:25: 32)، وقوله عز وجل:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (آل عمران: 193)، وقوله -جل وعلا-:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 126).
فالأمر في هذه الآيات الكريمة ونحوها المراد منه التضرع إلى الله والتوجه إليه والدعاء له؛ لأن الله -جل وعلا- لا يأمره أحد من خلقه. وسر التعبير بأسلوب الأمر في مقام الدعاء في الآيات الكريمة هو إظهار كمال الخضوع لله عز وجل وبيان شدة الرغبة في تحقيق تلك الأفعال حتى كأنها أمور مطلوبة من الله تبارك وتعالى.
ومن المعاني التي يفيدها الأمر: الالتماس، ويكون عند خطاب مَن يساويك في الرتبة والمنزلة، والطلب منه على سبيل التلطف، وبدون تضرع ولا استعلاء. على نحو ما ترى في قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحَومل
وهو يخاطب صاحبيه، ويطلب منهما الوقوف في هذا المكان العزيز على نفسه؛ ليذرفَا معه الدمع قضاءً لحق هذه الذكرى الغالية. وهو طلب جاء لصاحبيه بأسلوب الأمر، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يراد بصيغة الأمر الالتماس لا الإلزام والتكليف؛ لأن خطاب الند ندَّه لا يراد به معنى الإلزام.
ويأتي الأمر كذلك للنصح والإرشاد: وذلك إذا تضمن نصيحة لم تكن على وجه الإلزام، كما في قول الله تعالى:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17)، وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:((إن أردت أن تسبق الصديقين؛ فَصِلْ مَن قطعك، واعط مَن حرمك، واعف عمن ظلمك)) ففي الآية الكريمة يوصي لقمان ابنه بتلك الفضائل. في الحديث ينصح صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه أن يتحلى بتلك الخصال الحميدة. ولا يقال: إن الأمر هنا للوجوب، إذ المأمور به واجب؛ لأن المأمور به إنما يكون واجبًا إذا وردت تلك الأوامر في مقام الأمر والإلزام من الله عز وجل.
أما ورودها هنا على لسان لقمان في الآية، وعلى لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث، فإن المقام يقتضي أن تكون للنصح والإرشاد. ومن هذا القبيل: تلك الأوامر التي ترد على ألسنة الوعاظ والمرشدين والموجهين؛ فهم يريدون منها النصح والإرشاد، وأن يعبروا عما يضمرونه من حب وإخلاص لأتباعه. وهذا هو سر التعبير في أسلوب الأمر في مقام الإرشاد والنصح.
ويأتي الأمر كذلك للإكرام: كما في قول الله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (الحجر: 46). وهذا مراد به الإكرام للمؤمنين، وهو شائع بين الناس. فإنك تقول لضيفك وهو مستمر في الأكل والشرب: كُلْ، واشرَبْ، وقد تقسم عليه أن يأكل ولا تقصد إلا زيادة إكرامه، وأن تصور ما في خلجات نفسك من حب له وسرور به.
وقد يأتي الأمر بتصوير حال المتكلم والدلالة على ما هو فيه من الحيرة والتخبط: كما في قول الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: 50). فأصحاب النار يعلمون يقينًا أن ما في
الجنة محرم عليهم، ولكنهم لفرط ما هم فيه من هول وعذاب كأنهم قد فقدوا عقولهم، فصاروا يطلبون ما لا سبيلَ إلى تحقيقه.
ومثل ذلك: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} (المؤمنون:99: 100)، وقوله:{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (المؤمنون:106: 107). وكأن الكافر وقد حضره ملك الموت، وأبصر زبانية العذاب، أصابه الهول، فصار يطلب ما لا سبيل إلى تحقيقه، ولا يدري ماذا يقول؟ وكذا في الآية الثانية، كأن الأشقياء لشدة ما ذاقوا من العذاب في جهنم أصبحوا في حيرة وتخبط، فصاروا يطلبون ويتمنون ما لا سبيل إلى تحقيقه.
وقد يأتي الأمر للإثارة والإلهاب والتهييج: وذلك عندما يوجه إلى المأمور الواقع منه الفعل، والذي لا يتصور أن يكون منه خلافه. كما في قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (الأحزاب: 1)، وقوله:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود: 112)، وقوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30).
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي يوجه فيها الأمر بما هو حاصل، أو النهي عن غير الحاصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن الغرض من الأمر أو النهي عندئذ:= هو الإثارة والتهييج والإلهاب؛ حتى يزداد المخاطب تمسكًا بما هو عليه من الحق واليقين، ويستمر ويداوم؛ ولذا قالوا: إن التعبير بالأمر في مثل هذه الآيات وكذا النهي يفيدان طلب الدوام والاستمرار، أي: طلب دوام التقوى والاستقامة، والابتعاد عن الكفار، وعن الطغيان.
وقد يأتي الأمر تصويرًا للحدث وبيانًا لكيفية وقوعه انقيادًا وإظهارًا لقدرة الله تعالى، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11)، وقوله:{فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} (البقرة: 243)، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82). فالأمر في الآيات الكريمة: راِئْتِيَا}، رمُوتُوا}، ركُنْ}، يصور حالَ الحدثِ وسرعةَ وقوعِه، وانقياده لأمر الله تعالى. في هذا من الدلالة على القدرة البالغة ما لا يخفى على صاحب الذوق الرفيع. وتأمل ما في الآيات من أمر يعقبه استجابة سريعة، ثم قارن بينه وبين أن تقول: فأماتهم الله ثم أحياهم، إنما أمره إذا أراد شيئًا يكون، فأمرهما بالطاعة فأطاعتَا، فستجد أن تصوير الحدث وبيان كيفية وقوعه وانقياده الخاطف لقدرة الله تعالى قد ولَّى وذهب من هذه الأقوال.
وقد يأتي الأمر بالفعل مرادًا به الحث على الاتصاف بصفة معينة: كما في قولك: مُت وأنت كريم، مت وأنت تقي، صلِّ وأنت خاشع، واقرأ وأنت يقظ. فأنت في هذه الأقوال لا تريد أمره بالموت ولا الصلاة ولا القراءة، وإنما تريد أن تحثه على تلك الصفات المذكورة، وهي: الكرم، والتقوى، والخشوع، واليقظة، وأن يحافظ ويستمر على الاتصاف بها، ويحرص على ذلك طوال حياته، فهذا هو الأولى به واللائق بأمثاله من الكرماء الأتقياء.
ومثل الأمر في ذلك: أسلوب النهي، تقول: لا تصلِّ إلا وأنت خاشع، لا تمت إلا وأنت كريم. ومرادك من هذا النهي أن تحثه على الخشوع والكرم، لا أن تنهاه عن الصلاة والموت.
وقد يرِد الأمر ولا يراد به مأمور معين، وإنما يراد به كل من يتأتَّى منه الخطاب. كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((بشروا المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))، فهو صلى الله عليه وسلم لا يريد بهذا مخاطبًا معينًا، إنما أراد عموم الأمر؛ حتى كأن كل فرد من أفراد الأمة مبشر لهؤلاء، وفي هذا تكريم للمشائين إلى المساجد، وتنويه بشأنهم، وبرضا الله تعالى عنهم، وتجليه عليهم بالرحمة والغفران والنور التام.
إلى غير ذلك من الأغراض والمعاني البلاغية التي يفيدها أسلوب الأمر، وهي كثيرة يطول حصرها، وما نريده الآن هو أن نقف على وجه دلالة أسلوب الأمر على تلك المعاني.
وقد ذكر كثير من البلاغيين: أن هذه المعاني التي يفيدها أسلوب الأمر معان مجازية، بمعنى: أن الأسلوب قد انتقل من الدلالة على الأمر إلى إفادة تلك المعاني، وكل مجاز لا بد فيه من علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي.
وقد خاض البلاغيون ووجدوا في التماس تلك العلاقات. فالعلاقة بين الأمر والإباحة هي الإطلاق والتقييد؛ لأن الأمر إذن المقيد، والإباحة لمطلق الإذن. فاستعمال الأمر في الإباحة مجاز مرسل. ويجوز أن تكون العلاقة التضاد؛ لأن إباحة كل مِن الفعل والترك تُضاد الإيجاب، والعلاقة بين الأمر والتهديد شبه التضاد، وبين الأمر والإهابة اللزوم. وهكذا.
وبعضهم يجعل استعمال الأمر في تلك المعاني من قبيل الكناية، وبعضهم يجعله من قبيل مستتبعات التراكيب، وكذا القول في المعاني البلاغية التي يفيدها أسلوب النهي أو أساليب الاستفهام الآتي بيانها -إن شاء الله-.
والذي نراه أن دلالة الأمر وكذا النهي والاستفهام على تلك المعاني هي من مستتبعات الكلام، بمعنى: أن السياق وقرائن الأحوال هي التي تحدد تلك المعاني