الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(باب: الفصل والوصل)
باب: الوصل والفصل بين المفردات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فحديثنا عن باب الفصل والوصل:
وباب الفصل والوصل بين المفردات أو بين الجمل بابٌ دقيق المجرى لطيف المغزى جليل المقدار كثير الفوائد غزير الأسرار. وقد تنبّه العلماء قديمًا لدقة هذا الباب، وجعلوه البلاغة بأسرها؛ حيث سُئل أحدهم عن البلاغة فقال: البلاغة معرفة الفصل من الوصل، كذا ذكره الجاحظ في (البيان والتبيين)، وقال عبد القاهر في (الدلائل):"واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض ودقيق صعب، إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب". والوصل معناه العطف، أي عطف الكلام بعضه على بعض، سواءٌ أكان هذا العطف للمفردات أم للجمل، وسواءٌ أكان بالواو أو بغيرها كالفاء وثم وأو، والفصل هو ترك العطف، هذا ما ذكره السكاكي.
ولكن البلاغيين جرت عادتهم في حديثهم عن الفصل والوصل أن يتجاوزوا عطف المفردات وعطف الجمل التي لها محل من الإعراب، معللين ذلك بأن عطف المفردات وكذلك الجمل التي لها محل من الإعراب أمره هيّن ويسير؛ إذ لا يُقصد به سوى مجرد التشريك في الحكم الإعرابي، أما دقة الفصل والوصل فإنما تظهر في الجمل التي لا محل لها من الإعراب.
كما تجاوز البلاغيون العطف بغير الواو قائلين: إن الواو من بين حروف العطف هي التي لا تفيد سوى مجرد الإشراك في الحكم ومطلق الجمع، فالعطف بها دقيق مشكِل، أما غيرها من حروف العطف فتفيد مع التشريك في الحكم معانيَ أخرى؛ فالفاء تفيد الترتيب والتعقيب، وثم تفيد الترتيب والتراخي، وأو تفيد
تردد الفعل بين شيئين أو التخيير أو الإباحة؛ ولذا لم يشكَل العطف بتلك الأحرف، وهذا الذي ذكروه وإن كان لا يخلو من الصحة، إلا أننا لا نُعدم وجوهًا دقيقة وأسرارًا خفية نجدها كامنة وراء العطف بغير الواو، كما أننا لا نُعدم وجوهًا أدق وأسرارًا أخفى تكمن وراء عطف المفردات والجمل التي لها محل من الإعراب، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12 - 14).
تجد أن الجمل قد وُصِلت في الآيات الكريمة بحرفي العطف ثم والفاء، ووراء الوصل بهذين الحرفين تكمن الدقائق واللطائف، فقد بدأت بالخلق الأول خلق آدم عليه السلام من طين، ولما أُريد وصله بالخلق الثاني -خلقِ التناسل- عطف عليه بـ ثم، لما بينهما من التراخي، ثم تحدثت الآيات عن أطوار الخلق فوصلت خلق العلقة بالنطفة بـ ثم لما بينهما من التراخي ثم توالت الأطوار؛ خلق المضغة فالعظام فكساء العظام لحمًا، موصولةً بالفاء حيث لم يكن هناك تراخٍ بينها، ثم وصل تسويته إنسانًا بكساء العظام لحمًا بحرف العطف ثم، إشارة إلى التراخي بينهم، كذا ذكره العلوي في (الطراز).
فإنك عندما تتأمل ما عطف بـ ثم، تجده أدق وأبعد مما عطف بالفاء، فقد نزّل الاستبعاد عقلًا أو رتبةً منزلة التراخي والبعد الحسي، فعطف بـ ثم، ونزّل القرب عقلًا أو رتبة منزلة القرب الحسي فعطف بالفاء، انظر في ذلك (روح المعاني) للألوسي ثم جاء قوله تعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14)
معطوفًا بالفاء على تلك الجمل التي جلّت أطوار الخلق في هذا النظم المبدع؛ لتنبه الإنسان إلى ما يجب عليه من المبادرة والإسراع إلى تعظيم الله عز وجل والإشادة بحسن خَلقه وعجيب صنعه؛ ولهذا نطق أكثر من صحابي بختام الآيات الكريمة: تبارك الله أحسن الخالقين، قبل أن يمليها النبي صلى الله عليه وسلم لكاتب الوحي، ويبتسم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:((هكذا نزلت)).
على أن السياق هو الذي يحدد كيفية الوصل بين الجمل، ويُعيّن حرف العطف الذي يتحتم استخدامه دون غيره، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (الكهف: 57) ثم تأمل مع ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة: 22)، تجد أن سياق الآية الأولى يتحدث عن الكفرة الذين ما زالوا يَحيون يعاندون ويكابرون ويرفضون قبول الهداية:{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف: 57) فهؤلاء يُعرضون عن الآيات فور تذكيرهم بها؛ ولذا ناسب العطف بالفاء التي تفيد التعقيب {ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} .
أما سياق الآية الثانية فيتحدث عن المجرمين الذين انتهت حياتهم وماتوا على الكفر: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (السجدة: 20، 21) فهؤلاء قد استمر تذكيرهم في الدنيا بالآيات، وامتدّ زمانًا بعد زمان، ثم أعرضوا عنها إعراضًا نهائيًّا بالموت، وهذا يلائمه العطف بـ ثم التي تفيد الامتداد والتراخي. وبهذا يتضح أن العطف بغير الواو يكمن وراءه من الدقائق والأسرار واللطائف ما ينبغي إظهاره وتجليته، ولا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه.
أما عطف المفردات -الذي لم يدخله جمهور البلاغيين في باب الفصل والوصل- فلا يخلو هو الآخر من نكات وأسرار؛ ذلك أن القول بأن المفردات يُعطف بعضها على بعض بالواو لمجرد أنها متناسبة متجانسة كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162) باعتبار أن الصلاة والنسك والمحيا والممات أسماءٌ متناسبة، وكذا قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) فالفواحش والإثم والبغي والشرك والقول على الله ما لا يعلمون ألفاظٌ متجانسة متناسبة.
ومثله قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285) فالله والملائكة والكتب والرسل أسماءٌ بينها تناسب وتآلف، وعليه، فهذا الذي ذكره البلاغيون بشأن الاقتصار على الجمل التي لا محل لها من الإعراب، والادعاء بأن المفردات بـ ثم ليس بينها سوى العطف لمجرد كونها متناسبة غير سديد، والأسلم لقائله من البلاغيين أن التناسب بين الألفاظ والتلاؤم والتجانس بين الكلمات مطلوبٌ، سواء أعطفت هذه الكلمات أم لم تعطف، وقد ذكروا ذلك في علم البديع وسمّوه مراعاة النظير، فالمتكلم ينبغي له أن يُراعي التناظر والتجانس والتآلف بين ألفاظه، وألا يُباعد في القول؛ ولذا عاب النقاد قول أبي تمام يمدح أبا الحسين محمد بن الهيثم:
لا والذي هو عالمٌ أن النوى
…
صبر وأن أبا الحسين كريم
حيث جمع بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين، وهما متباعدان لا تجانس بينهما، والذي أوقع أبا تمام في هذا العيب هو محاولته التخلص من الغزل والانتقال إلى المديح، ولكنه لم يحسن التخلص ووقع فيما وقع فيه من عدم التجانس بين مرارة
الفراق وكرم الممدوح، الأمر الذي يعني أن التناسب والتجانس والتآلف بين الألفاظ ليس مقصورًا على كونها معطوفة، بل لابد من مراعاة النظير بين المفردات؛ سواء أكانت معطوفة أم غير معطوفة.
وقول البلاغيين: إن الصفات لا يُعطف بعضها على بعض إلا إذا كانت متضادة، كما في قول الله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) أما إذا كانت غير متضادة فإنها تُذكر بالعطف كما في قوله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الحشر: 23، 24) واتكاؤهم في ذلك على ما جاء في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (التحريم: 5) وأن الصفات قد توالت بلا عطف إلا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} فقد عطفتا لما بينهما من التضاد، ونظيره كذلك ما جاء في قول الله تعالى:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التوبة: 112) حيث توالت الصفات بالعطف ما عدا صفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاءت الواو بينهما لأنهما متضادان. قولهم هذا تعسف ظاهر، فقد ترد الصفات متضادة وبدون عطف، كما في قوله تعالى:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة: 1 - 3) وكما في قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
كما ترد الصفات غير متضادة ومعطوفة مثل الآية المذكورة: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر: 3) ومثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران: 16، 17) وقوله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (الأحزاب: 35) إلى آخر الآية، وكان الأولى من ذلك والأجدر أن تهتم الدراسات البلاغية بالبحث عن الأسرار الكامنة وراء الواو، وأن تكشف وتجلي سر مجيئها حين تأتي، وسر تركها حين تترك؛ فهذه الواو تفيد التغاير، وعندما تأتي بين الصفات فإنها تفيد كمال اتصاف الموصوفين بكل صفة منها على حدة.
انظر إلى قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ} (آل عمران: 17) تجد أن الواو دلت على كمالهم في كل واحدة منها، هكذا ذكره الزمخشري في (الكشاف)، وعندما تُترك الواو وتأتي الصفات متوالية بالعطف، فإنها تفيد كمال اجتماعها في الموصوف، خذْ مثلًا قول الله تعالى:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} (التوبة: 112) إلى آخر الآية، وقوله:{مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} (التحريم: 5) وتأمل فستجد أن ترك الواو أفاد أن هذه الصفات مجتمعة في الموصوفين، وكأنها صفة واحدة، فذكْر الواو بين الصفات يفيد أنهم كاملون في كل صفة على حدة، وتركها يفيد أنها مجتمعة فيه، كذا ذكره الزمخشري أيضًا. وعلى هذا فقول امرئ القيس:
مِكَرٍّ مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
يفيد أن هذه الصفات قد اجتمعت في الجواد في وقت واحد، من غير أن تكون مستقلّة متغايرة، ولو أنه قال: مِكر ومفر ومقبل ومدبر لما صح أن يقول: "معًا"، وكذا القول في الآية الكريمة:{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة: 2، 3) أي تخفض وترفع في زمنٍ واحد، ويقع منها الفعلان معًا، ولو قيل