الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفائدة السادسة: وضع قواعد البلاغة ومعرفتها يحول دون الفوضى في الحكم والتخليط فيه، فإذا اختلف اثنان في الحكم على عمل أدبي ما احتكما إلى علم البلاغة، وكان في احتكامهما ما يرد المخطئ عن خطئه. ثم إن البيان في حد ذاته -وتلك هي الفائدة السابعة- فضيلة تسمو على كثير من الفضائل؛ ولذا يفتخر به النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)) ويقول أحد الشعراء:
كفى بالمرء عيبًا أن تراه
…
له وجه وليس له لسان
أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها
هذا، ومن أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها: أبو الهلال حسن بن عبد الله بن سهل العسكري، ولد في مدينة عسكر مدينة من كور الأهواز بخوزستان بين البصرة وفارس، ونشأ بها طوال حياته، ولم يبرحها إلا نادرًا. عاش حياته فقيرًا مغمورًا خامل الذهن، فلم يحظ بما هو خليق به من المجد ونباهة الشأن، كما حظي غيره من العلماء والأدباء في العصر الذي عاش فيه، وإن كان حظي بعد موته بالتقدير والاحترام بما ألف وكتب. وقد تتلمذ على طائفة من العلماء الفضلاء من أشهرهم: أبوه أبو الحسن عبد الله العسكري اللغوي، وأبو سعيد الحسن بن سعيد، وتوفي أبو هلال العسكري سنة
395 عن خمسة وثمانين عامًا. ومن أشهر مصنفاته كتاب (جمهرة الأمثال) كتاب (الفرق بين المعاني) كتاب (شرح الحماسة) كتاب (الصناعتين) وهو الكتاب الذي اشتهر به واقترن به اسمه.
وكذا عبد الله بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني، شيخ البلاغة، النحوي المشهور، المتكلم على مذهب الأشعري، الفقيه على مذهب الشافعي. أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، كان من كبار أئمة العربية والبيان مع الدين المتين والورع والسكون، وتوفي سنة 471 هجرية. ومن أشهر مصنفاته:(المغني في شرح الإيضاح) في نحو ثلاثين مجلدًا، و (الجمل) و (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة). ومن أشهر المؤلفين في البلاغة: سراج الدين يوسف بن أبي بكر محمد بن علي أبو يعقوب السكاكي الخوارزمي، ولد في قرية خوارزم في عهد السلطان الرابع للدولة الخوارزمية "إيل إرسلان بن إكز". كان في أول أمره حدادًا، وبقي كذلك حتى جاوز الثلاثين، ثم انصرف إلى العلم انصرافًا كليًّا، قد تتلمذ على طائفة من العلماء الفضلاء من أشهرهم: سديد الدين بن محمد الخياطي، ومحمود بن صاعد بن محمود الحارثي، وبرهان الأئمة محمد بن عبد الكريم التركستاني، وكان يجيد اللغتين: التركية والفارسية إلى جانب معرفته التامة باللغة العربية.
وقد عكف السكاكي على تحصيل العلم والمعرفة فصار عالمًا محققًا في علوم شتى: كالبلاغة، وعلم الكلام، والفقه، والكيمياء، وعلم خواص الأرض، وأجرام
السماء، ولقد طبقت شهرته الآفاق حتى صار الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات، وتوفي سنة 626 من الهجرة. ومن أهم مصنفاته (مفتاح العلوم) (شرح الجمل) وهو شرح لكتاب (الجمل) للإمام عبد القاهر الجرجاني. من أشهر الذين كتبوا في البلاغة: جلال الدين قاضي القضاة محمد بن القاضي سعد الدين عبد الرحمن القزويني الشافعي، ونسبته إلى قزوين ترجع إلى أن بعض أجداده سكنها، وهو عربي أصيل؛ إذ تعود نسبته إلى أبي دلف العجلي قائد المأمون. ولما شب تفقه على أبيه، وعلى علماء وطنه، وقد نزل مع أبيه وأخيه بلاد الروم، وتولى القضاء في بعض أعمالها، ثم قدم دمشق مع أخيه إمام الدين، الذي تقلد وظيفة قاضي القضاة ببلاد الشام، وكان ينوب عنه.
وفي أثناء ذلك عكف على حلقات العلماء حتى أتقن علم اللغة، وأصول الفقه وعلوم البلاغة، وولي خطابة دمشق في جامعها الأموي الكبير، فلمع اسمه، وطلبه السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى القاهرة، فقدم عليه سنة 724 وخطب بجامع القلعة بين يديه، فأعجب به وولاه قضاء دمشق وخطابتها جميعًا، ولم يلبث أن استخدمه وولاه قضاء الديار المصرية، فنبه ذكره، وطار صيته، ثم وافته المنية، فتوفي سنة 739. ومن أشهر مصنفاته كتاب (تلخيص المفتاح) وهو تلخيص لكتاب (مفتاح العلوم) للسكاكي وكتاب (الإيضاح بتلخيص المفتاح) وهو شرح مطول لما أجمله في كتاب (تلخيص المفتاح). لكن ثمة فروقًا تميز أسلوب كلّ من عبد القاهر والسكاكي والخطيب، فلقد كان أسلوب عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) أسلوبًا بليغًا ممتازًا، يساعد على تربية ملكة البلاغة، ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أنه
يسرف في العبارات المترادفة، حتى تطغى على تقرير القواعد، وعلى ما عني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية. وهو فيما عني به من الأمرين الناقد الأديب والبليغ الحاذق، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يسبق إليها، ولم يأت بعده من سار على هديها.
ثم جاء أبو يعقوب السكاكي بعد عبد القاهر فلمح ما أشار إليه فيما سبق، من الفروق الثلاثة بين مباحث علم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، فميز بعضها عن بعض تمييزًا تامًّا، وجعل لكل مبحث منها علمًا خاصًّا، فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة، ثم جاراه في تقرير قواعدها، وزاد عليه زيادات كثيرة في تقريرها، وهذا في قسم البيان من كتابه (مفتاح العلوم) وقد جرى على ترتيبه لهذه المباحث من أتى بعده من المتأخرين، فكان السكاكي عمدتهم في هذا الترتيب. ولا شك أن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، ولكنه كان ناقدًا، ولم يكن أديبًا؛ لأن أسلوبه في كتابه لم يكن أسلوب البليغ الرصين مثل عبد القاهر؛ لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه، وكان الأسلوب التقريري الذي لا يعنى إلا بتقرير القواعد غالبًا عليه، فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد، وضعف التأليف، ومثل هذا قد يفيد الناظر فيه علمًا، ولا يفيده أسلوبًا بليغًا، بل يفسد فيه ملكة البلاغة، وبهذا يكون ضرره أكبر من نفعه.
وقد جاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا أن يحذوا في علم البلاغة حذوه، أولهما ابن مالك النحوي المشهور في كتابه (المصباح لتلخيص المفتاح) وثانيهما الخطيب القزويني في كتابيه (تلخيص المفتاح) و (الإيضاح لتلخيص المفتاح) وثانيهما كان كالشرح للأول. فأما مصباح ابن مالك فإنه لم يهذب كثيرًا من
مفتاح السكاكي في علم البلاغة؛ لأن ملكة النحو كانت غالبة عليه، وكان هذا سببًا في إعراض المتأخرين عن كتابه، وأما تلخيص الخطيب القزويني فإنه هذب كثيرًا في مفتاح السكاكي، فقدم في مباحثه وأخر، وزاد عليه ما تجب زيادته من كتب البلاغة.
وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي، ولكنه جعله أسلوبًا تقريريًّا لا يعنى إلا بجمع القواعد في أوجز لفظ حتى أسرف في الإيجاز إسراف عبد القاهر في الإطناب، وجعل من تلخيصه متنًا يحتاج إلى شروح وحواشٍ وتقارير، ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير المتأخرين وإعجابهم، فلما فرغ من تلخيصه شعر هو أيضًا بحاجته إلى شرح، فوضع كتابه (الإيضاح) كشرح له، يجري على ترتيبه في إطناب يختصره أحيانًا من كتابي عبد القاهر، وأحيانًا من كتاب السكاكي مع شيء من التهذيب فيه، ومع كثير من النقد الذي يفصله أحيانًا، ويرمز إليه أحيانًا بقوله:"وفيه نظر" وبهذا جاء (الإيضاح) وسطًا بين إيجاز (التلخيص) وإسهاب عبد القاهر. وكان بهذا هو الكتاب المميز عن غيره من كتب البلاغة القديمة، ولا يزال حتى يومنا هذا.
ولكنه على هذا لم يرزق من الحظوة عند المتأخرين ما رزق التلخيص؛ لأنهم شغفوا بالمتون حفظًا وشرحًا، وقد نظروا إلى التلخيص على أنه متن من المتون، فشغفوا بحفظه وشرحه، وكان من السابقين إلى شرحه سعد الدين التفتازاني، فوضع له شرحًا مطولًا سماه (المطول)، وشرحًا مختصرًا سماه (المختصر)، وكان سعد الدين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقته التقريرية، وفي ضعف أسلوبه لضعف سليقته العربية، بل كان هو وأمثاله ممن أتى بعد السكاكي من علماء العجم أضعف من السكاكي ذوقًا وسليقة، فمضوا في الطريقة
التقريرية إلى أن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الأدبي، ثم أخذوا ينشرونها هنا وهناك إلى أن غزت علماء العرب وغزت جميع العلوم من عربية إلى دينية إلى غيرها من العلوم، وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون أكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم.
ثم تهافت المتأخرون من علماء البلاغة على شرحي سعد الدين على (التلخيص) يضعون عليها الحاشية بعد الحاشية، ويضعون على الحاشية التقرير بعد التقرير، وشغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية في الأقطار المختلفة، يتعمقون في درسها إلى أقصى حدود التعمق، وينتقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير في استقصاء غريب، وتفنن في الفهم والبحث، ولو كان هذا في صميم مسائل البلاغة لهان الخطب، ولكن أكثره في بحوث خارجة عن هذه المسائل، وفي أسلوب ركيك يفسد ملكة البلاغة، فإذا كانت فيه فائدة قليلة فإنها تضيع في هذا الخضم الذي لا فائدة فيه. وقد تأبى كتاب (الإيضاح) وطريقته السابقة على المتأخرين من علماء البلاغة، فلم يضعوا عليه من الشروح والحواشي والتقارير مثلما وضعوا على كتاب (التلخيص) اللهم إلا شرحًا ضعيفًا للإقصاء، ولما كان كتاب (التلخيص) كالأصل لكتاب (الإيضاح) كان هذا مما يدعو قارئه إلى أن يرجع في كثير من مسائله إلى ما وضع على كتاب (التلخيص) من شروح وحواش وتقارير. لكن -وهذا من شديد ما يؤسف له- إذا رجع إليها غرق في ذلك الخضم من البحوث، التي ربما ضاع به ما يكتسبه من كتاب (الإيضاح) من ذوق أدبي لأن تلك الشروح والحواشي والتقارير تغطي عليه.