الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان من العبر والعظات والأدلة على قدرة الله ما لو تأمله الكافر وتدبره لأقلع عن كفره وضلاله، فوجود الكفر منه بعدئذ يدعو إلى التعجب والإنكار. ومثل ذلك قوله:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) وقوله: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} (القيامة: 10) وقوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (ق: 30).
أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي
ومن أساليب الإنشاء الطلبي: أسلوب النداء:
والنداء: هو طلب الإقبال بحرف نائب مناب كلمة أدعو، والغاية منه أن يصغى من تناديه إلى أمرٍ ذي بال؛ ولذا غلب أن يلي النداء أمر أو نهي أو استفهام أو إخبار بحكم شرعي، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 1 - 4) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: 1) وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1) وهكذا، ودلالة النداء على الطلب دلالة مطابقة على أرجح الأقوال؛ لأنه طلب الإقبال بمعنى "أقبل"؛ فهو بمعنى أقْبِل؛ الأمر. وحروف النداء هي: الهمزة وأي ويا وآ وآي وأيا وهيا ووا، وأكثرها استعمالًا في نداءات القرآن هو يا، وهذه الأدوات منها ما يُنادى به القريب وهي الهمزة وأي، وما ينادى به البعيد وهي بقية الأدوات.
وإذا كان النداء هو طلب الإقبال، فإن الأصل فيه أن يكون للقريب الذي لا يجاوز امتداد صوت المنادي، ولكنهم توسعوا فيه فنادوا البعيد الذي لا يمكن أن يسمع صوت المنادي، أو بمعنى آخر: الذي لا يمكن أن يصل إليه صوته، وجعلوا لندائه أدوات، ولنداء القريب أدوات، ولم يتوقفوا عند نداء البعيد الذي لا يصله صوت المنادي، بل اتسع تصرفهم في النداء، فنادوا غير الحي العاقل كالناقة والطير والوحش، ومشاهد الطبيعة من برق وسحاب وأقمار وشموس وأشجار وأرض وسماء وجبال إلى غير ذلك، وقد يُنزّل البعيد منزلة القريب فينادى بالهمزة وأي لغرض بلاغي، وهو الإشعار بأنه حاضر في القلب لا يغيب عن الخاطر، حتى صار كأنه حاضرٌ مشاهد، ومن ذلك قول الشاعر:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا
…
بأنكم في ربع قلبي سكان
فهو ينادي سكان هذا الوادي، وقد عبر بالهمزة الموضوعة لنداء القريب لينبئ بأنهم قريبون منه لا يتركون فكره ولا يبرحون خياله. كما قد ينزّل القريب منزلة البعيد فينادى بغير الهمزة وأي لأغراض بلاغية؛ أهمها الإشعار ببعد منزلته وعلو مكانته، فينزّل بعد المنزلة وعلو المكانة منزلة البعد المكاني، كما في قول الله تعالى:{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 44، 45) الإشعار بأن المنادى وضيع المنزلة منحط المكانة، وكأنه بعيدٌ عن القلب فينزل هذا البعد النفسي منزلة البعد المكاني، ومنه قول الفرزدق في هجاء جرير:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
التنبيه على عظم الأمر المدعو له وعلو شأنه وإظهاره، حتى كأن المنادى مقصر فيه غافل عنه مع شدة حرصه على الامتثال، كما في قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) أن يكون المنادى نائمًا أو ساهيًا، فيكون كلٌّ من النوم والسهو بمنزلة البعد الذي يقتضي علو الصوت، كقولك: هيا عمر استيقظ، أيا خالد تنبه، الإشعار بغفلة المنادى عن الأمر العظيم الذي يقتضي اليقظة والانتباه، كقولك: هيا فلان تهيأ للحرب. ويأتي أسلوب النداء مفيدًا لمعان بلاغية كثيرة، تفهم من السياق وقرائن الأحوال؛ من ذلك الإغراء وهو الحث على طلب الأمر الذي ينادى له، كقولك لمن يتظلم: يا مظلوم تكلم، فأنت تريد بهذا النداء إغراءه وحثه على بث الشكوى وإظهار التظلم.
الاختصاص: وهو تخصيص حكم عُلّق بضمير باسم ظاهر، صورته صورة المنادى أو المعرف بأل أو بالإضافة أو بالعلمية، كما في قولك: أنا أفعل كذا أيها الرجل، ونحن نقول كذا أيها القوم، واغفر اللهم لنا أيتها العصابة، فالمراد بالمنادى هو المتكلم نفسه، والمعنى: أنا أفعل كذا متخصصًا من بين الرجال، ونحن نقول كذا متخصصين من بين الأقوام، واغفر اللهم لنا متخصصين من بين العصائب، وهكذا. الاستغاثة: كقولك: يا الله أي أقبل علينا لإغاثتنا. التعجب: كقولك وقد شربت ماء باردا: يا للماء، تريد التعجب من برودته وحلاوته.
الزجر: كما في قول الشاعر:
يا قلب ويحك ما سمعتَ لناصح
…
أما ارعويت ولا اتقيت كلاما
الوعيد: كما في قول المهلهل:
يا آل بكر انشروا لي كليبا
…
يا آل بكر أين أين الفرار
التنبيه: وقد يأتي حرف النداء لمجرد هذا التنبيه، كما في قول الله تعالى:{يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (النساء: 73)، وقوله صلى الله عليه وسلم:((يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)). التحسر والتحزّن: وذلك عند نداء الأطلال والمنازل والمطايا والقبور والأموات والويل والحسرة وما إلى ذلك، كما في قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} (الفرقان: 27 - 29) ومثل قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (الزمر: 56).
التمني: وقد قالوا في تعريفه: هو طلب أمر تحبه النفس وتميل إليه وترغب فيه، ولكنه لا يُرجى حصوله إما لكونه مستحيلًا أو لكونه بعيدًا، لا يطمع في نيله، والأداة الموضوعة له هي "ليت" تقول في تمني الأمر المحبوب الذي لا طمع فيه لكونه مستحيلا لا يمكن حصوله: يا ليت الشباب يعود يومًا، ومن ذلك قوله:{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (مريم: 23) وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الفرقان: 27).
وتقول في تمني الشيء المحبوب الذي يمكن حصوله، ولكنه غير مطموع فيه لبعد مناله: ليت لي مالًا فأحج به! ومن ذلك قول الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: 79)، فقد تمنوا أن يكون لهم مثل تلك الكنوز التي تنوء مفاتحها بالعصبة أولي القوة، وهي أمنية محببة لنفوسهم وليست مستحيلة، بل هي ممكنة الوقوع ولكنهم لا يطمعون فيها لبعد منالها.
هذا، وقد يقع الأسلوب الخبري في موقع الأسلوب الإنشائي؛ وذلك لأغراض بلاغية يقصد إليها البليغ؛ أهمها: التفاؤل وإظهار الحرص والرغبة في وقوع المعنى الإنشائي وتحقيقه، إدخالًا للسرور على المخاطب ويكون ذلك في الدعاء بأن يقصد المتكلم طلب الشيء، وتكون صيغة الأمر هي الدالة عليه أو طلب الكف، وتكون صيغة النهي هي الدالة عليه، فيعدل عنهما إلى صيغة الإخبار بالماضي الدالة على تحقق الوقوع، وفيه إشعار بأن الدعاء للمخاطب قد حصل وتحقق، من ذلك قول الشاعر:
إن الثمانين وبُلّغتها قد
…
أحوجت سمعي إلى ترجمان
ومن هذه الأغراض التي يعبر فيها بالخبر عن الإنشاء: الاحتراز عن صورة الأمر أو النهي المشعرة بالاستعلاء تأدبًا مع المخاطب؛ حيث يقتضي المقام ذلك التأدب، كقولك لمعلمك: ينظر إلي أستاذي لحظة، لا يعاقبني أستاذي. ومن ذلك حمل المخاطب على تحقيق المطلوب وتحصيله وذلك كقول الصديق لصديقه: تزورني غدًا، وكقول الأستاذ لتلاميذه: تأتوني كل صباح، بدلا من
زُرني وائتوني بصيغة الأمر، وذلك لأن التعبير بصيغة الخبر يحتمل الصدق والكذب، فلو أن الصديق لم يحضر لزيارة صديقه ألصق به الكذب، ونسبه إليه، وكذا التلاميذ إذا لم يأتوا كل صباح، كما أخبر أستاذهم نسبوه إلى الكذب وألصقوه به. وقد يقع الإنشاء في موقع الخبر لأغراض أهمها: الاهتمام بالشيء كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 29) والمعنى: وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد، فعدل عن الخبر إلى صيغة الأمر؛ تنبيهًا إلى وجوب الاهتمام بالمأمور به والحرص على تحقيقه.
من ذلك: الرضا بالواقع حتى كأنه مطلوب، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). ومنه: الاحتراز عن مساواة اللاحق بالسابق، كما في قول الله تعالى:{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54) فالمعنى: إني أشهد الله وأشهدكم، فعدل عن ذلك إلى ما عليه النظم الكريم، من التعبير بصيغة الأمر:{وَاشْهَدُوا} احترازًا عن مساواة شهادتهم بشهادة الله عز وجل. وفيه أيضًا تعظيم لهود عليه السلام وإعلاء لشأنه وتحقير لهؤلاء الكفرة المشركين، حتى يخضعوا ويذعنوا ويستجيبوا لما يأمرهم به.
ولعلنا بهذا نكون قد طوفنا معا حول ما عُرف لدى البلاغيين بأساليب الإنشاء، ووقفنا على كثير من الأسرار والنكات البلاغية التي تكتنفها هذه الأساليب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.