الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعريف المسند إليه بالعلمية
التعريف بالعلمية، فإنه يؤتى بالمسند إليه معرفًا بالعل م ية لأغراض بلاغية؛ منها:
أولًا: إحضار المسند إليه بعينه وشخصه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختص به، فهناك بين المقامات ما يقتضي إحضار المسند إليه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختص به، ولا يكون ذلك إلا بالعلم؛ لأنه يحضر مسماه في ذهن السامع ابتداء بخلاف ضمير الغائب مثلًا، فإنه وإن أحضر شخصه في ذهن السامع لكنه إحضارٌ يأتي ثانيًا بعد إحضاره بالمرجع أولًا، مثل: جاءني زيد وهو راكب.
والعلم نص في مسماه فلا يقع فيه التباس؛ لأنه موضوع للذات المشخصة المعينة بخلاف الضمير فليس نصًّا في معناه من حيث ذاته، بل هو موضوع ل كل غا ئب، فالذي يتحقق به إحضار المسند إليه بشخصه بمجرد النطق باللفظ والعلم، وهذا الغرض وإن كان من استعمال العلم في معناه الأصلي فهو أيضًا من وجوه البلاغة إذا اقتضاه المقام.
ومن شواهد هذا الغرض قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) على جعل ضمير الشأن مبتدأً أولًا ولفظ الجلالة مبتدأً ثانيًا، والجملة من الأخير وخبره خبر المبتدأ الأول يكون فيه الشاهد، وهو إيراد المسند إليه علمًا للن قط ة المذكورة، وهي إحضار المسند إليه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به لاقتضاء المقام لها حيث إنه مقام بيان للتوحيد وتقرير لوحدانية الله عز وجل والتعبير بلفظ الجلالة أعون على ترسيخ ذلك في ذهن السامع.
ومن شواهده أيضًا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران: 36) وقوله كذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) وقوله أيضًا: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) وقوله -جل شأنه-: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (الرعد: 2).
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي نلحظ فيها أن المسند خاص بالله عز وجل.
ومن شواهده أيضًا قول مالك بن عويمر الهذلي من قصيدة له في رثاء أبيه وكان يكنَّى أبا مالك، والكنية كما هو معلوم من أنواع العلم:
أبو مالك قاصر فقره
…
على نفسه ومشيع غناه
ف هـ نا يصف الشاعر أباه بكرم الطبع، وأنه إذا أعوز ورقت حاله حبس فقره على نفسه، فلا يسأل أحدًا، وإن أيسر واتسعت ذات يده أشرك صحبه في ماله وأعطى منه كل الناس، والشاهد تعريف المسند إليه أبو مالك بالعل م ية بقصد إحضار مدلوله بشخصه حتى لا يلتبس بغيره، ومثل ذلك قول الحارث بن هشام معتذرًا عن فراره يوم بدر عن أخيه أبي جهل:
الله يعلم ما تركت قتالهم
…
حتى علو فرسي بأشقر مزبد
وشممت ريح الموت من تلقائهم
…
في مأزق والخيل لم تتبدد
فالشاعر هنا يعتذر لنفسه، إذ فرَّ من الميدان في وقعة بدر، فيقول: إنه لم يترك مكانه في ميدان الحرب إلا بعد أن ثخن بالجراح، فَعَلَا دمُه فرسَه، والأشقر لون الدم الذي سال منه حتى علا فرسه، وهو لون أحمر يضرب إلى الصفرة والمزبد وصف آخر للدم، والشاهد التعبير عن المسند إليه الذات العلية بلفظ الجلالة الله، وهو علم لاستحضار مدلوله في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به حيث إن المقام مقام اعتذار، وفي تفويض الشاعر عِلم حاله إلى الله وحده دليلٌ على صدق
ما أراد من أنه لم يفر جبنًا، وإنما فر بعد أن أبلى بلاءً حسنًا، حتى سالت دماؤه فغمرت فرسه.
ومن أسرار ودواعي التعريف بالعل م ية تعظيم المسند إليه أو إهانته كما في الألقاب والكنى الدالة على معنى محمود أو مذموم، مثال الأول أن تقول: أبو المعالي حضر وقدم علينا نصر الدين، ومثال الثاني أن تقول: أنف النا قة ذهب ونازعنا أبو جهل، فالتعريف في المثالين الأولين لتعظيم المسند إليه، والتعريف بالعل م ية كذلك في المثالين الأخيرين للإهانة والتحقير للمسند إليه.
وقد كان لقب أنف الناقة مكروهًا ولا يحب أهله الانتساب إليه حتى قال الشاعر:
قوم هم الأنواف والأذناب غيرهم
…
ومَن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فصاروا بذلك يفخرون بالانتساب إلى أنف الناقة، وكان الرجل من نمير يفخر بنسبته إليها، ويمد صوته عند النطق بهذه النسبة وغيره مفتخرًا بذلك، ولما قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نُمير
…
فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا
صار يكره وينفر من تلك النسبة، وكذا كان وقع الشعر في نفوس متلقيه ومستمعيه.
هذا؛ وكما يعرف المسند إليه بالعلمية لقصد تعظيمه أو تحقيره، يعرف كذلك بالعلمية لقصد تعظيم غيره أو تحقيره، مثل: أبو الفضل صديق ك، وأبو الجهل رفيق ك، فالتعظيم للأول للمخاطب والتحقير في الثاني للمخاطب كذلك وهو غير مسند إليه، ولكن انسحب عليه التعظيم أو التحقير لصلته بالمسند إليه، وكل قرين للمقارن ينسب.
ومن دواعي تعريف المسند إليه بالعل م ية قصد التبرك به إن كان مما يتبرك بذكر اسمه، أو قصد التلذذ بذكره تعريف المسند إليه بالعل م ية للتبرك مثل: الله ربنا ومحمد صلى الله عليه وسلم نبينا، إذا تقدم لهما ذكر في حديث سابق فيعاد ذكرهما؛ تيمنًا وتبركًا به، وكما يكون تعريف المسند إليه بالعل م ية للتبرك يكون كذلك للاستلذاذ وذلك في حق المعشوقات من المخلوقات؛ لأن النفوس ترتاح لذكر بعض الأسماء، ولذلك نرى الشعراء يكثرون من ذكر أسماء صواحبهم لهذا الغرض كما قال:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا
…
ليلاي منكن أم ليلَى من البشر
فمقتضى سياق الكلام أن يقول: أم هي، إذ للمقام للضمير لتقدم مرجعه، لكنه أورده عَلَمًا بقصد التلذذ بذكر اسم صاحبته، ومثله كذلك قول الآخر:
ألا ليت لبنَى لم تقل لي خلة
…
ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هي
فالمسند إليه في قوله: لم تلقني لبنى، جاء معرفًا بالعل م ية مع أن مقتضى الظاهر أن يعرف بالضمير لتقدم مرجعه، ولكن الشاعر أورده علمًا لقصد التلذذ.
ومن هنا وجدنا المتنبي حين مدح عضد الدولة فناسخرو قد ذكر له أسماء كلها من قبيل التعريف بالعلمية؛ لأنه جمع فيها للم م دوح بين الاسم والكنية واللقب واسم بلده فارس، ثم بين أنه لم ي وردها ليزداد بها الممدوح معرفةً فوق شهرته، فهو مستغنٍ عن التعريف، وإنما ذكرها استلذاذًا بلفظها وسماعها، وذلك حيث قال:
وقد رأيت الملوك قاطبةً
…
وسرت حتى رأيت مولاها
أبا شجاع بفارس عضد الدولة
…
فناسخرو شاه شاه
أسامي لم تزده معرفة
…
وإنما لذةً ذكرناها